اتصل بنا
 

مليح... مدينة الريف والبداوة

أكاديمي وشاعر أردني

نيسان ـ نشر في 2015-12-02 الساعة 09:05

نيسان ـ

على أطراف بئر مغرقة في القدم بدأت بواكيرُ الحياة البشريّة تنشأ، ناظرةً إلى المستقبل بقلوب مؤمنة بأنّ مواكبة التطور حاجة بشريّة لا بدّ منها لتستمرّ الحياة.. هناك حيث لا شيء مستحيل، حيث آمن الإنسان بأنّ له حاضرًا لا بدّ أنْ يعيشه، ومستقبلاً لا بدّ أنْ ينظر إليه، وواقعًا لا بدّ أنْ ينسجم معه...
نشأت الحياةُ على صفيحٍ أقرب ما يكون إلى الدوّامة.. شعبٌ عاش البداوةَ بكلّ ما فيها من بساطة ممزوجة بالقسوة وضنك العيش، بداوة لا بدّ أنْ تُصبغ بتلك الصبغة القرويّة التي هي في الحقيقة حاجة المرء لأنْ يستقرّ ويكوّنَ له مجتمعًا يألفه ويتعامل معه، بشكل لا يلغي النزعة البدويّة التي تسكنه. فبدأت بيوت الطين ترتفع هنا وهناك، تحتضنها بساتين الزيتون والتين والصبّار، وتحيط بها حقول القمح والشعير والعدس.
وما هي إلا سنوات حتّى بدأت وفود المهجّرين من فلسطين تحثّ خطاها باحثة لها عن ملجأ، فوجدت في تلك البقعة التي أصبحت قريةً قلوبًا تستقبلهم وأيديَ تُمدُّ إليهم.. فاقتسموا معهم تفاصيل حياتهم، مجتمعًا يعرف بعضهم بعضًا ويألفه، يبنون ولا يهدمون، يتناصحون ولا يتناحرون.
تلك القرية التي لم يفتْها قطار التوطين قديمًا لم تغلق عينيها عن المدنيّة التي أخذت تزحف إليها سريعًا، فشرعت تأخذ من كلّ جانب بطرف حتّى أصبحت مدينة بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى: بيوتٌ مبنيّة على أحدث طراز، تكنولوجيا لا تقلّ عن أكبر مدينة. لكنّها وفي غمرة هذا التطوّر السريع لم تنسَ أنّها في الأصل قرية تسكنها جماعة من البدو؛ فترى بيوت الطين ملاصقة لبيوت الإسمنت والحجر، ويبهرك منظر السيارات الفارهة وهي تمرّ من بين البساتين والحقول.. ترى الرجل فتحسبه (خواجا) لولا جبهته السمراء ولهجته البدويّة الأصيلة التي لم تنل منها معاول التغيير.
وما سبق ذكره في الحقيقة لا يخصّ (مليح) وحدها، بل هي حال أغلب القرى الأردنيّة، لكنّ لـ (مليح) خصوصيّة قد لا تجدها في أيّ قرية أخرى؛ فهي من أولى المناطق الريفيّة التي آمنت بالتعدّديّة والحزبيّة، حتى إنّك لتجد في البيت الواحد حزبين أو ثلاثة أحزاب تعيش معًا دون أنْ ينتقص أحدها من الآخر أو يعتدي عليه، تمتزج معًا كما امتزج البدويّ مع الفلاح، وكامتزاج حقول الحنطة الذهبيّة بلون (القرميد) الذي يعلو المنازل.. توليفة قد تُعَدّ غريبة لكنّها (مليح) ولّادة المشاهير؛ كُتّابًا وفنّانين وأكاديميّين ما زالت بصماتهم محفوظة في سجلّات الوطن وذاكرة المواطن.

نيسان ـ نشر في 2015-12-02 الساعة 09:05

الكلمات الأكثر بحثاً