غوته والشعر العربي والأطلال
نيسان ـ نشر في 2024-11-09 الساعة 09:07
x
نيسان ـ صلة غوته بالشرق، وبالأدب العربي، صلة عميقة واسعة تركت آثارا كبيرة في حياته وأدبه، وهي صلة كانت، وما زالت موضوع دراسات وأبحاث علمية معمقة تذهب إلى قراءة الأبعاد والصور المتعددة لعلاقة غوته بالشرق، وتمثل دراسات الباحثة الألمانية كاتارينا مومزن المختصة بدراسة أدب غوته، وبخاصة تأثره بالآداب الشرقية نموذجا للدراسات الغربية القائمة على القراءة العلمية الاستقصائية الدقيقة، فقد كتبت مومزن مجموعة من الدراسات عن علاقة غوته بالشرق العربي، وهي:
- البرامكة في الديوان الشرقي بحث عام 1952.
- « غوته وألف ليلية وليلة» كتاب عام، 1956 ونشر عام 1960(وهو مترجم إلى العربية).
- الآثار العربية، شعر البادية قبل الإسلام وأثره على غوته.
- غوته والمعلقات 1961 بحث، وهو مترجم إلى العربية ومنشور في مجلة المورد العراقية عام 1985.
- غوته والإسلام 1964 شتوتغارت.
- غوته والأدب العربي بحث منشور في مجلة المعرفة السورية عام 1966.
- وفي عام 1988 أصدرت كتابها المرجعي «غوته والعالم العربي» الذي يقدم تصورا شموليا للآثار العربية في أعمال غوته. وقد ترجم الكتاب إلى العربية ونشر في سلسة عالم المعرفة عام 1995.
وفي كل هذه الأعمال قامت مومزن بتتبع دقيق لكيفية اطلاع غوته على النصوص العربية أو معرفته بها، فقد بينت من خلال وثائق مكتبة غوتا أن غوته قد استعار ألف ليلة وليلة وقرأه، وهي تحدد التاريخ الدقيق لاستعارة الكتاب وإعادته، كما تحدد متى قرأ نصوصه، وذلك اعتمادا على يومياته ومذكراته التي تعين اليوم والساعة التي تمت فيها عملية القراءة، والملاحظات التي دونها على النصوص التي قرأها. (انظر غوته وألف ليلة وليلة).
وقد سبق وظهرت العديد من النصوص التي تقرأ أثر الآداب الشرقية في أدب غوته وعمق تأثيرها فيه. ويجب أن أذكر هنا ترجمتي ديوان غوته إلى العربية: الأولى التي أنجزها عبد الرحمن بدوي عام 1966، وهي ترجمة ترافقها مقدمة ضافية بعنوان « تصدير عام» عن الديوان والتأثيرات الشرقية العديدة فيه قاربت الخمسين صفحة، إضافة إلى الملاحظات الشارحة العديدة المتعلقة بالنصوص وأصولها. أما الترجمة الثانية فهي من عمل عبد الغفار مكاوي الصادرة عام 1979، أعيدت طباعته عام 2006 في دار الجمل في ألمانيا، وقد حملت «عنوان النور والفراشة، رؤية غوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي، مع النص الكامل للديوان الشرقي». لقد أثني مكاوي على عمل أستاذه بدوي ووصفه بالجهد الجبار، وأفاد منه على أنحاء مختلفة. وقد مهد مكاوي لترجمته بمقدمة مطولة أخذت ما يزيد على مئة وثلاثين صفحة، وقف فيها على كثير من القضايا التي تتعلق بالديوان وسيرة غوته، وحضور الثقافة الشرقية وتجلياتها في حياته ونصوصه. كما فصل القول في كيفية عمله في الديوان وترجمته، وزود ترجمته بكثير من الملاحظات والإضافات التي تخدم النصوص وتسهم في فهمها.
ومن القضايا اللافتة في مقدمته حديثه عن تجربته المريرة في التعليم الجامعي والسلوك المنحط الذي مارسه بعضهم ضده، مشيرا «إلى متاعب التعليم الجامعي المتخلف، وألوان الإحباط العام والخاص، وضجيج السوق الثقافية الكاسدة بالأصوات المرتفعة من حناجر السماسرة والحواة والثوريين المزيفين...» وفق نص مكاوي.
إن تتبع نصوص غوته الشعرية تظهر بوضوح حضور نصوص شعرية عربية بصورة مباشرة في صورة ترجمة لبعض النصوص كما هي الحال في ترجمته الأبيات الثمانية عشرة الأولى من معلقة امرئ القيس اعتمادا على الترجمة الانجليزية التي أنجزها وليم جونز عام 1783. ويبدو أن معلقة امرئ القيس قد استأثرت باهتمام غوته. ففضلا عن الترجمة فقد افتتن بموضوعات المقدمة الطللية – النسيبية التي يتركز الحديث فيها عن المرأة كما ترى (مومزن)، فظهرت أصداء هذه المقدمة موضوعات وصيغا في بعض قصائد الديوان. ففي قصيدة « دعوني أبك محاطا بالليل» نقرأ:
دعوني أبك محاطا بالليل
في الفلوات الشاسعة بغير حدود
الجمال راقدة والحداة كذلك راقدون
والأرمني يحسب في هدوء
وأنا إلى جواره أحسب الأميال
التي تفصلني عن زليخا وأستعيد
صورة المنعرجات البغيضة التي تطيل الطريق
دعوني أبك فليس في هذا عار
فالرجال الذين يبكون أخيار
ألم يبك آخيل على حبيبته بريسايس
واكسركس بكى على الناجين من جيشه
وعلى خليله الذي قتله بيده
بكى الاسكندر دعوني أبك فإن الدموع تحيي التراب
وها هو يخضوضر.
في هذا النص تسيطر موضوعة البكاء على القصيدة، فتكرار «دعوني أبك» تحيل على مطلع معلقة امرئ القيس الشهير «قفا نبك»، والذي يتعمق حضوره دلاليا من خلال حديث غوته عن الفلوات الشاسعة، والجمال الراقدة والحداة. إنه يصف مشهدا يستعيد فيه عناصر المقدمة النسيبية في القصيدة العربية: الوقوف على الطلل والبكاء على الحبيبة الراحلة، والقوافل، والحداة، ومشاهد الرحيل التي تستفز مشاعر الشاعر وتفتح أمامه بوابات الوجد وبوابات الشعر في الوقت نفسه، وهذه العناصر تظهر مدى الترابط بين المشهدين في اللغة والمعنى.
لقد عنون غوته ترجمته أبيات امرئ القيس بـ «لوعة الحب» ( Liebestraur)، وهو عنوان يظهر كما بينت مومزن تأثر غوته المباشر بقصيدة امرئ القيس، فالجملة الأولى في قصيدته تحيل على «قفا نبك» ، كما تذكر بترجمته هذا المطلع « قفا ودعونا نبك هنا في موطن الذكريات»، وهذا ما يمكن من حضور المكان في النصين ، في نص امرئ القيس « بسقط اللوى بين الدخول فحومل»، وعند غوته « في الفلوات الشاسعة». وكل هذه العناصر تجعل الربط بين نص غوته والنص العربي أمرا منطقيا في البعدين: النصي والنفسي على حد سواء. وتذهب مومزن إلى أن « غوته قد استلهم البيت الذي يكرره ثلاث مرات «دعوني أبك» من صدر بيت امرئ القيس «وإن شفائي عبرة مهراقة..» وإذا كان هذا الاستنتاج منطقيا في التعبير عن الحال أو الموقف، فإن الأمر الأكثر وضوحا أن دعوني أبك استلهام نصي واضح من قفا نبك، وهذا أمر يمكن تبنيه من خلال المقارنة بين النصين الشعريين وما يصاحبهما من إشارات وتعليقات تتضح من خلال ترجمة غوته الأبيات الأولى من معلقة امرئ القيس.
إن تجاوز الربط بين شاعرين ونصين محددين إلى رؤية العلاقة الأوسع بين غوته والتراث الشعري العربي يفتح الطريق لاكتشاف تأثره بنصوص وشعراء آخرين، إذ إن نصوص الشعر القديم في معظمها تحمل طوابع مشتركة في الحديث عن المرأة الراحلة، والأماكن التي كانت تنزل فيها، والشوق والألم ، ومشاهد الرحيل، وحداء الإبل، وهذه في مجملها صور نمطية، وغوته لم يقتصر اطلاعه على معلقة امرئ القيس ،بل اطلع بصورة عامة على الشعر العربي القديم في الترجمات التي أتيحت له آنذاك : ترجمة وليم جونز، ثم ما قدمه هامر فون بورغشتال في عمله الضخم « تاريخ الأدب العربي» الذي جاء في سبعة مجلدات، وهذا ما يتضح من العديد من الملاحظات التي أبداها الباحثون في تأثر غوته بالأدب العربي ، فقد ذهب فرانتز روزنتال إلى أن «غوته تأثر تأثرا عميقا بالحماس الذي أبداه سير وليام جونز ... تجاه الشعر العربي والفارسي كما شجعته أعمال بعض العلماء مثل ه. ف. ديتز ... وبخاصة ترجمة ديوان الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي التي قام بها ج. فون همر بورغشتال...».
إن نصوص غوته العديدة التي تتقاطع مع النصوص الشعرية العربية، ومع الروح الثقافية الشرقية الماثلة في الأدب تمثل صورة من صور اللقاء بين عالمي الشرق والغرب، لقاء دفعت إليه أسباب عديدة: روحية شخصية، وموضوعية تتعلق باستعار الحروب في أوروبا، مما دفع بعض الأدباء للبحث عن عالم آخر، عالم يجدون فيه الهدوء والراحة والسلام، فكان الشرق المتخيل الذي قدمته النصوص الأدبية التراثية التي تعبر عن عالم الشرق الغابر وليس عن واقعه في عصر غوته هو المكان الذي يهاجر إليه. ولقد عبرت القصيدة الأولى في الديوان الشرقي التي عنونها غوته بـ « هجرة» وكتبها بنطقها العربي وبالحروف اللاتينية تعبيرا عن هجرة أنجزتها المعرفة بالثقافة الأخرى الغريبة وعالمها المتخيل، والتي تجاوزت الهجرة المجردة إلى استرجاع أسطورة الخضر الذي يمثل ينبوع الحياة الخالدة الذي يمتلك حضورا ضخما في الأدب الألماني والآداب الأوروبية، يقول غوته:
الشمال والغرب والجنوب تتحطم وتتناثر
والعروش تثل والممالك تتزعزع وتضطرب
فلتهاجر إذن إلى الشرق الطاهر الصافي
كي تستروح نسيم الآباء الأولي
هناك حيث الحب والشرب والغناء
سيعيدك ينبوع الخضر شابا من جديد
إلى هناك حيث الطهر والحق والصفاء
أود أن أقود الأجناس البشرية
حتى أنفذ بها إلى أعماق الأصل السحيق
لقد كانت هذه الهجرة ظاهرة في القرن التاسع عشر في ألمانيا، ظاهرة مثلت هجرة روحية من إطار ثقافي مثقل بالحروب والصراعات إلى عالم ثقافي آخر غريب بعيد رسمت ملامحه النصوص الأدبية العربية والفارسية التي تمت ترجمتها إلى اللغة الألمانية، مما جعلها في متناول كثيرين من الأدباء والشعراء الألمان. لعل هذه ما جعل فرانتس روزنتال يذهب إلى القول «إن غوته إن لم يكن هو الوحيد الذي جعل شعر الإسلام مقبولا بلا تردد في الغرب، فإنه من حيث التأثير والعبقرية، كان هو الشخصية العملاقة البارزة بين من أسهموا في هذا العمل». لقد كان غوته بشخصه وبعمله المهم المنبثق من الشرق وأدبه نقطة انطلاق لظاهرة كبرى في الأدب الألماني في القرن التاسع عشر، وهي ظاهرة تعلن عن نفسها في الشعر والكتابات الأدبية التي تنتمي إلى أنواع أدبية مختلفة، مما يجعلنا ننظر إلى هذه الظاهرة بوصفها موضوعا للبحث والتحليل، موضوعا يجذب اهتمام الباحثين العرب لقراءة ظاهرة هجرة النصوص العربية إلى الأدب الألماني وترجمتها وتبنيها أو أخذها بعنف يبرره التفوق الثقافي والنظرة إلى الآخر بأنه لا يعرف.
- البرامكة في الديوان الشرقي بحث عام 1952.
- « غوته وألف ليلية وليلة» كتاب عام، 1956 ونشر عام 1960(وهو مترجم إلى العربية).
- الآثار العربية، شعر البادية قبل الإسلام وأثره على غوته.
- غوته والمعلقات 1961 بحث، وهو مترجم إلى العربية ومنشور في مجلة المورد العراقية عام 1985.
- غوته والإسلام 1964 شتوتغارت.
- غوته والأدب العربي بحث منشور في مجلة المعرفة السورية عام 1966.
- وفي عام 1988 أصدرت كتابها المرجعي «غوته والعالم العربي» الذي يقدم تصورا شموليا للآثار العربية في أعمال غوته. وقد ترجم الكتاب إلى العربية ونشر في سلسة عالم المعرفة عام 1995.
وفي كل هذه الأعمال قامت مومزن بتتبع دقيق لكيفية اطلاع غوته على النصوص العربية أو معرفته بها، فقد بينت من خلال وثائق مكتبة غوتا أن غوته قد استعار ألف ليلة وليلة وقرأه، وهي تحدد التاريخ الدقيق لاستعارة الكتاب وإعادته، كما تحدد متى قرأ نصوصه، وذلك اعتمادا على يومياته ومذكراته التي تعين اليوم والساعة التي تمت فيها عملية القراءة، والملاحظات التي دونها على النصوص التي قرأها. (انظر غوته وألف ليلة وليلة).
وقد سبق وظهرت العديد من النصوص التي تقرأ أثر الآداب الشرقية في أدب غوته وعمق تأثيرها فيه. ويجب أن أذكر هنا ترجمتي ديوان غوته إلى العربية: الأولى التي أنجزها عبد الرحمن بدوي عام 1966، وهي ترجمة ترافقها مقدمة ضافية بعنوان « تصدير عام» عن الديوان والتأثيرات الشرقية العديدة فيه قاربت الخمسين صفحة، إضافة إلى الملاحظات الشارحة العديدة المتعلقة بالنصوص وأصولها. أما الترجمة الثانية فهي من عمل عبد الغفار مكاوي الصادرة عام 1979، أعيدت طباعته عام 2006 في دار الجمل في ألمانيا، وقد حملت «عنوان النور والفراشة، رؤية غوته للإسلام وللأدبين العربي والفارسي، مع النص الكامل للديوان الشرقي». لقد أثني مكاوي على عمل أستاذه بدوي ووصفه بالجهد الجبار، وأفاد منه على أنحاء مختلفة. وقد مهد مكاوي لترجمته بمقدمة مطولة أخذت ما يزيد على مئة وثلاثين صفحة، وقف فيها على كثير من القضايا التي تتعلق بالديوان وسيرة غوته، وحضور الثقافة الشرقية وتجلياتها في حياته ونصوصه. كما فصل القول في كيفية عمله في الديوان وترجمته، وزود ترجمته بكثير من الملاحظات والإضافات التي تخدم النصوص وتسهم في فهمها.
ومن القضايا اللافتة في مقدمته حديثه عن تجربته المريرة في التعليم الجامعي والسلوك المنحط الذي مارسه بعضهم ضده، مشيرا «إلى متاعب التعليم الجامعي المتخلف، وألوان الإحباط العام والخاص، وضجيج السوق الثقافية الكاسدة بالأصوات المرتفعة من حناجر السماسرة والحواة والثوريين المزيفين...» وفق نص مكاوي.
إن تتبع نصوص غوته الشعرية تظهر بوضوح حضور نصوص شعرية عربية بصورة مباشرة في صورة ترجمة لبعض النصوص كما هي الحال في ترجمته الأبيات الثمانية عشرة الأولى من معلقة امرئ القيس اعتمادا على الترجمة الانجليزية التي أنجزها وليم جونز عام 1783. ويبدو أن معلقة امرئ القيس قد استأثرت باهتمام غوته. ففضلا عن الترجمة فقد افتتن بموضوعات المقدمة الطللية – النسيبية التي يتركز الحديث فيها عن المرأة كما ترى (مومزن)، فظهرت أصداء هذه المقدمة موضوعات وصيغا في بعض قصائد الديوان. ففي قصيدة « دعوني أبك محاطا بالليل» نقرأ:
دعوني أبك محاطا بالليل
في الفلوات الشاسعة بغير حدود
الجمال راقدة والحداة كذلك راقدون
والأرمني يحسب في هدوء
وأنا إلى جواره أحسب الأميال
التي تفصلني عن زليخا وأستعيد
صورة المنعرجات البغيضة التي تطيل الطريق
دعوني أبك فليس في هذا عار
فالرجال الذين يبكون أخيار
ألم يبك آخيل على حبيبته بريسايس
واكسركس بكى على الناجين من جيشه
وعلى خليله الذي قتله بيده
بكى الاسكندر دعوني أبك فإن الدموع تحيي التراب
وها هو يخضوضر.
في هذا النص تسيطر موضوعة البكاء على القصيدة، فتكرار «دعوني أبك» تحيل على مطلع معلقة امرئ القيس الشهير «قفا نبك»، والذي يتعمق حضوره دلاليا من خلال حديث غوته عن الفلوات الشاسعة، والجمال الراقدة والحداة. إنه يصف مشهدا يستعيد فيه عناصر المقدمة النسيبية في القصيدة العربية: الوقوف على الطلل والبكاء على الحبيبة الراحلة، والقوافل، والحداة، ومشاهد الرحيل التي تستفز مشاعر الشاعر وتفتح أمامه بوابات الوجد وبوابات الشعر في الوقت نفسه، وهذه العناصر تظهر مدى الترابط بين المشهدين في اللغة والمعنى.
لقد عنون غوته ترجمته أبيات امرئ القيس بـ «لوعة الحب» ( Liebestraur)، وهو عنوان يظهر كما بينت مومزن تأثر غوته المباشر بقصيدة امرئ القيس، فالجملة الأولى في قصيدته تحيل على «قفا نبك» ، كما تذكر بترجمته هذا المطلع « قفا ودعونا نبك هنا في موطن الذكريات»، وهذا ما يمكن من حضور المكان في النصين ، في نص امرئ القيس « بسقط اللوى بين الدخول فحومل»، وعند غوته « في الفلوات الشاسعة». وكل هذه العناصر تجعل الربط بين نص غوته والنص العربي أمرا منطقيا في البعدين: النصي والنفسي على حد سواء. وتذهب مومزن إلى أن « غوته قد استلهم البيت الذي يكرره ثلاث مرات «دعوني أبك» من صدر بيت امرئ القيس «وإن شفائي عبرة مهراقة..» وإذا كان هذا الاستنتاج منطقيا في التعبير عن الحال أو الموقف، فإن الأمر الأكثر وضوحا أن دعوني أبك استلهام نصي واضح من قفا نبك، وهذا أمر يمكن تبنيه من خلال المقارنة بين النصين الشعريين وما يصاحبهما من إشارات وتعليقات تتضح من خلال ترجمة غوته الأبيات الأولى من معلقة امرئ القيس.
إن تجاوز الربط بين شاعرين ونصين محددين إلى رؤية العلاقة الأوسع بين غوته والتراث الشعري العربي يفتح الطريق لاكتشاف تأثره بنصوص وشعراء آخرين، إذ إن نصوص الشعر القديم في معظمها تحمل طوابع مشتركة في الحديث عن المرأة الراحلة، والأماكن التي كانت تنزل فيها، والشوق والألم ، ومشاهد الرحيل، وحداء الإبل، وهذه في مجملها صور نمطية، وغوته لم يقتصر اطلاعه على معلقة امرئ القيس ،بل اطلع بصورة عامة على الشعر العربي القديم في الترجمات التي أتيحت له آنذاك : ترجمة وليم جونز، ثم ما قدمه هامر فون بورغشتال في عمله الضخم « تاريخ الأدب العربي» الذي جاء في سبعة مجلدات، وهذا ما يتضح من العديد من الملاحظات التي أبداها الباحثون في تأثر غوته بالأدب العربي ، فقد ذهب فرانتز روزنتال إلى أن «غوته تأثر تأثرا عميقا بالحماس الذي أبداه سير وليام جونز ... تجاه الشعر العربي والفارسي كما شجعته أعمال بعض العلماء مثل ه. ف. ديتز ... وبخاصة ترجمة ديوان الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي التي قام بها ج. فون همر بورغشتال...».
إن نصوص غوته العديدة التي تتقاطع مع النصوص الشعرية العربية، ومع الروح الثقافية الشرقية الماثلة في الأدب تمثل صورة من صور اللقاء بين عالمي الشرق والغرب، لقاء دفعت إليه أسباب عديدة: روحية شخصية، وموضوعية تتعلق باستعار الحروب في أوروبا، مما دفع بعض الأدباء للبحث عن عالم آخر، عالم يجدون فيه الهدوء والراحة والسلام، فكان الشرق المتخيل الذي قدمته النصوص الأدبية التراثية التي تعبر عن عالم الشرق الغابر وليس عن واقعه في عصر غوته هو المكان الذي يهاجر إليه. ولقد عبرت القصيدة الأولى في الديوان الشرقي التي عنونها غوته بـ « هجرة» وكتبها بنطقها العربي وبالحروف اللاتينية تعبيرا عن هجرة أنجزتها المعرفة بالثقافة الأخرى الغريبة وعالمها المتخيل، والتي تجاوزت الهجرة المجردة إلى استرجاع أسطورة الخضر الذي يمثل ينبوع الحياة الخالدة الذي يمتلك حضورا ضخما في الأدب الألماني والآداب الأوروبية، يقول غوته:
الشمال والغرب والجنوب تتحطم وتتناثر
والعروش تثل والممالك تتزعزع وتضطرب
فلتهاجر إذن إلى الشرق الطاهر الصافي
كي تستروح نسيم الآباء الأولي
هناك حيث الحب والشرب والغناء
سيعيدك ينبوع الخضر شابا من جديد
إلى هناك حيث الطهر والحق والصفاء
أود أن أقود الأجناس البشرية
حتى أنفذ بها إلى أعماق الأصل السحيق
لقد كانت هذه الهجرة ظاهرة في القرن التاسع عشر في ألمانيا، ظاهرة مثلت هجرة روحية من إطار ثقافي مثقل بالحروب والصراعات إلى عالم ثقافي آخر غريب بعيد رسمت ملامحه النصوص الأدبية العربية والفارسية التي تمت ترجمتها إلى اللغة الألمانية، مما جعلها في متناول كثيرين من الأدباء والشعراء الألمان. لعل هذه ما جعل فرانتس روزنتال يذهب إلى القول «إن غوته إن لم يكن هو الوحيد الذي جعل شعر الإسلام مقبولا بلا تردد في الغرب، فإنه من حيث التأثير والعبقرية، كان هو الشخصية العملاقة البارزة بين من أسهموا في هذا العمل». لقد كان غوته بشخصه وبعمله المهم المنبثق من الشرق وأدبه نقطة انطلاق لظاهرة كبرى في الأدب الألماني في القرن التاسع عشر، وهي ظاهرة تعلن عن نفسها في الشعر والكتابات الأدبية التي تنتمي إلى أنواع أدبية مختلفة، مما يجعلنا ننظر إلى هذه الظاهرة بوصفها موضوعا للبحث والتحليل، موضوعا يجذب اهتمام الباحثين العرب لقراءة ظاهرة هجرة النصوص العربية إلى الأدب الألماني وترجمتها وتبنيها أو أخذها بعنف يبرره التفوق الثقافي والنظرة إلى الآخر بأنه لا يعرف.