“مبعوث الإبادة”.. بلينكن”يهودي” تجاوز الكونغرس و أمّن السلاح لإسرائيل ومهد الطريق لتدمير غزة
نيسان ـ نشر في 2024-11-26 الساعة 12:29
x
نيسان ـ في نهايات الحرب العالمية الثانية، هرب رجل يهودي يدعى صمويل بيسار من الأسر النازي بعد أن أمضى فيه أربع سنوات. اختبأ في الغابة، خائفاً مترقباً، إلى أن ظهرت أمامه دبابة تابعة للجيش الأمريكي، وعليها النجمة الخماسية. عندما لمحها، خارت قواه وسقط على ركبتيه أمام جندي أمريكي من أصل أفريقي، و عبر عن امتنانه بثلاث كلمات فقط عرفها بالإنجليزية: "بارك الله في أمريكا."
كان هذا الرجل، صمويل بيسار، الذي سيعمل لاحقاً مستشاراً للرئيس الراحل جون كينيدي ولعدد من الرؤساء الفرنسيين، وسيكون زوج والدة وزير الخارجية الأمريكي الحالي، أنتوني بلينكن، الذي يستحضر دائماً هذه القصة الهوليوودية ليعبر عن رؤيته لدور أمريكا في العالم.
ففي خطاب له أمام مجلس الشيوخ عام 2021، تحدث بلينكن عن هذه الحادثة، معتبراً إياها نموذجاً حياً للشراكة الأمريكية مع العالم، وعن إحساسه الإنساني بالمسؤولية تجاه من يعيشون في ظل القهر والاضطهاد. قائلاً: "هذا هو ما نحن عليه. هذا ما نمثله للعالم، مهما كان ذلك غير كامل، وما يمكننا أن نكون عليه في أفضل حالاتنا".
لكن، بعد سنتين تقريباً من صعوده إلى منصب وزير الخارجية، صار بلينكن الليبرالي داعم حرب الإبادة على الفلسطينيين في غزة، فبعد بدء الحرب مباشرة، وقف بلينكن أمام الإسرائيليين بأنه اليوم يقف بجانب الاحتلال الإسرائيلي لكونه ""يهوديا فرَ جده من القتل" أكثر من كونه وزير خارجية أمريكي مسؤول عن توفير الدعم الدبلوماسي والعسكري لحرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة والتي خلفت أكثر من 44 ألف شهيد أغلبهم من الأطفال والنساء حتى كتابة هذه السطور.
بعد قرابة 4 سنوات من توليه منصب وزير الخارجية الأمريكي، ومع اقتراب مغادرته لمنصبه في الأسابيع المقبلة، يترك أنتوني بلينكن خلفه تاريخًا دامياً من الانتهاكات والتجاوزات في حق المنطقة، ليبقى أثر قراراته وسياساته ماثلاً في حروب ومآسي متعددة كانت فلسطين في مقدمتها، وخاصة الحرب على غزة. فمن هو هذا الرجل؟ وكيف أثر تكوينه عليه ليزرع كل هذه الوحشية في المنطقة خلال فترة خدمته؟ وكيف تعاطى مع ملف المفاوضات الذي وُضع بين يديه؟
"الجنرال الدبلوماسي".. بلينكن دائماً سفيراً للحرب
منذ بداية الحرب على غزة، تتكرّر المفاوضات التي تجري للتوصّل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، كل بضعة أسابيع، برعاية أميركية.
وفي كل مرة، تبدي الولايات المتحدة تفاؤلًا لا علاقة له بالواقع بشأن إمكانية بلوغ اتفاق، ويبدي وزير خارجيتها أنتوني بلينكن انطباعًا مصطنعًا بأن الاحتلال الإسرائيلي يوافق على المقترحات الأمريكية، وأن المقاومة الفلسطينية "حماس" هي من تقف في طريق الوصول إلى اتفاق. لكن وفي كل مرة، يتبين أن نتنياهو لم يعطِ موافقته على الصفقة إطلاقًا، ثم تعود الجهود إلى مربع الصفر ويستمر الدعم الأمريكي بأحدث الأسلحة لقادة إسرائيل المتطرفين دون ضغط حقيقي لإيقاف الحرب.
تكرّر هذا المشهد شبه السوريالي إلى درجة أن الصحافة الإسرائيلية نفسها باتت تلقي اللوم على بلينكن وتصريحاته غير الواقعية، التي ساهمت بحسب ما أكده الإعلام العبري في إفشال كل الصفقات الماضية. فما الذي يجري؟ هل بلينكن مفاوض فاشل؟ هل هو غير ضليع ولا مطّلع على شروط الطرفَين؟ أم إن الأمر أبعد وأقدم من ذلك؟
عندما اختار بايدن بلينكن مرشحا لوزارة الخارجية الأميركية بعد 4 سنوات من السياسات الخارجية المضطربة لدونالد ترامب، حصل بلينكن سريعا على ثقة مجلس الشيوخ بأغلبية 78 صوتا مقابل 22 في المجلس ذي الغالبية الجمهورية.
ولعل ذلك، يرجع لرؤية بلينكن في السياسة الخارجية الأمريكية المتفقة مع الجمهوريين ودعاة الحرب، ليس في بعض السياسات فحسب، بل كلها غالبا.
إذ يرى بأن التدخل العسكري قد يكون أحياناً الحل الأمثل لمواجهة الأزمات الإنسانية. فبالنسبة له، لا يُعد الجيش الأمريكي أداة مدمرة بقدر ما يُعتبر وسيلة لردع العنف أو منعه. إذ كتب في أحد مقالاته أن "القوة يمكن أن تكون مكملاً ضرورياً للدبلوماسية الفعّالة" وبهذا، فإن بلينكن يمثل توجهاً يرى في القوة العسكرية الأمريكية أداة دعم إنسانية، سواء من خلال التهديد باستخدامها أو تفعيلها فعلياً.
و تاريخ أنتوني بلينكن في السياسة الأمريكية حافل بدعم التدخلات العسكرية الأمريكية، سواء في الشرق الأوسط أو خارجه. فقد كان من أبرز المؤيدين للحرب الأمريكية على العراق عام 2003، إذ كان بلينكن أحد كبار مساعدي بايدن عندما كان سيناتور آنذاك وصوت لصالح تفويض الغزو الأمريكي للعراق، بل وساعد بلينكن بايدن في وضع اقتراح لتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق منفصلة على أساس الهوية العرقية والطائفية.
ولم يتخل عن موقفه من حرب العراق رغم الانتقادات المتزايدة لاحقاً لتلك الحرب وتداعياتها. هذا التوجه الاستراتيجي يظهر في معظم مواقف بلينكن؛ إذ لم يتردد في تأييد التدخل العسكري الأمريكي في ليبيا في عام2011، وكذلك دعم انخراط الولايات المتحدة في الأزمة السورية.
بلينكن لا يرى تناقضاً بين الديمقراطية والتدخل العسكري، بل يؤمن أن التدخلات التي تحمل طابعاً عسكرياً يمكنها تعزيز نفوذ أمريكا ونشر قيمها. ويعكس موقفه هذا ما يمكن تسميته بـ "التدخل الليبرالي"، الذي يسعى لاستخدام القوة لتحقيق الاستقرار وفقاً للرؤية الأمريكية، مع إيمان راسخ بأهمية دور أمريكا في حفظ النظام العالمي.
ولم تقتصر سياسته على الشرق الأوسط، بل امتدت لتشمل مواقف حازمة تجاه الصين وروسيا، لا تختلف كثيراً عن مواقف الجمهوريين التقليدية في السعي لفرض الهيمنة الأمريكية. يرى بلينكن أن على الولايات المتحدة فرض توازن قوى واضح، دون إبداء الكثير من الاهتمام بالقوى الصاعدة أو التعددية القطبية التي يشهدها العالم اليوم.
قد عبر عن رؤيته تلك بوضوح في مقاله الأخير الشهر الماضي المنشور في مجلة فورين أفيرز بعنوان "استراتيجية التجديد الأميريكية: إعادة بناء القيادة من أجل عالم جديد" والتي أكد فيه على أهمية استعادة القيادة الأمريكية عالمياً، متناولاً أيضاً التهديدات التي يرى أن "حماس وإيران" تشكلها، باعتبارهما عائقين أمام مشاريع التطبيع والسلام والتكامل الاقتصادي في الشرق الأوسط.
وعند تطرقه إلى المأساة الإنسانية في غزة، أقر بأن الفلسطينيين واقعون في حرب لم يختاروها ولا يملكون القدرة على إنهائها. لكنه تجنب الإشارة إلى إسرائيل كسبب مباشر، مؤكداً بدلاً من ذلك على "مشروعية دفاعها عن نفسها." ولاستكمال مشروع بناء جديد لشرق أوسط يلبي "احتياجات إسرائيل الأمنية" كما ذكر.
لماذا كل هذا الولاء لإسرائيل؟
لا يبدو أن بلينكن يرى أي تناقض بين دعمه للاحتلال الإسرائيلي وقادته المتطرفين، وادعاء التزامه بالليبرالية، إذ يبدو أن إرثه العائلي وتجربته الشخصية قد أسهما في بناء تلك الرؤية المشوهة.
إذ قالت سوزان رايس، السفيرة الأميركية السابقة لدى الأمم المتحدة ومستشارة الأمن القومي التي عملت مع بلينكن منذ إدارة كلينتون: "لا يمكنك أن تعرف توني دون أن تعرف المدى الذي يؤثر فيه تاريخ العائلة على شخصيته".
ولد أنطوني "توني" بلينكن في 16 أبريل 1962 في مدينة يونكرز بولاية نيويورك لوالدين يهوديين، جوديث ودونالد بلينكن. بعد أن فرّ جده من روسيا هرباً من الاضطهاد المعادي لليهود، وهاجر إلى الولايات المتحدة.
وبعد طلاق والدته، انتقل بلينكن إلى باريس، حيث نشأ تحت تأثير زوج والدته، صمويل بيسار، الناجي من الهولوكوست، والذي روى له باستمرار عن تجاربه في معسكرات الاعتقال النازية في أوشفيتز وداخاو، وهي ذكريات تركت بصمة عميقة في وجدانه وشكلت جزءاً كبيراً من رؤيته للعالم كما ذكر بلينكن بنفسه.
وربما يفسر هذا الإرث العاطفي والذاكرة العائلية المتشبعة بالمظلومية موقف بلينكن الحاد في تأييده لإسرائيل، الذي يتخذ أحياناً طابعاً غير نقدي، حتى وإن كانت السياسات الإسرائيلية أبعد ما تكون عن القيم الإنسانية التي يزعم بلينكن تمسكه بها. فخلال فترة دراسته بجامعة هارفارد، شارك بلينكن في تحرير هارفارد كريمسون، حيث كتب مقالات عديدة عن إسرائيل، معبّراً عن انتقادات حادة لكل من يهاجمها أو يقارنها بالأنظمة الفاشية.
ففي مقال بعنوان "لبنان والحقائق"، الذي كتبه خلال حرب إسرائيل على لبنان عام 1982، انتقد بشدة ما وصفه بـ"الخطاب السام والكريه" لبعض وسائل الإعلام تجاه إسرائيل، وقال إن مقارنة صحيفة "فيليدج فويس" لإسرائيل بالنازيين كانت "خاطئة ومقززة"، ليوضح لأصحاب المعايير المزدوجة كام وصفهم، أن ما حدث في لبنان هو نتيجة لسنوات من الإحباط، بعد أن سئم الإسرائيليون من حرمانهم من وجود آمن في المنطقة.
و بعد مذبحة صبرا وشاتيلا في نفس العام، في موقف مشابه لما يفعله اليوم، برر للاحتلال الإسرائيلي في مقال آخر بعنوان "الخطر في الداخل" كاتباً: "إسرائيل ليست، ولم تكن أبداً، ولن تكون أبداً الدولة التي لا تشوبها شائبة، والأخلاقية الكاملة التي يرغب بعض مؤيديها في رؤيتها. فالإسرائيليون، بعد كل شيء، بشر فقط". وكرر نفس البروباغندا الإسرائيلية التي لم تتغير إلى اليوم، التي تقول بإن الاحتلال إسرائيل لم يذهب إلى غزو جاره لبنان، بل لتخليص نفسه وجاره من عدو خطير الا وهو (منظمة التحرير الفلسطينية).
لذلك لا غرابة في مواقف وتصريحات بلينكن اليوم، فهو يستخدم نفس الأسلوب إلى اليوم في لي الحقائق وتشويه التاريخ بطريقة فجة من أجل تحقيق مكاسب سياسية، كما وصفته مجلة جاكوبين الأمريكية في مقال لها.
كيف صعد السلم الدبلوماسي؟
ينتمي أنطوني بلينكن لعائلة يهودية بارزة في السلك الدبلوماسي الأمريكي؛ فقد كان والده سفيراً للولايات المتحدة في المجر، وعمه شغل منصب السفير الأمريكي في بلجيكا، بينما عمل زوج والدته، صمويل بيسار، مستشاراً للرئيس جون كينيدي وعدد من الرؤساء الفرنسيين كما ذكرنا سابقاً.
ونتيجة لنشأته في باريس بعد طلاق والديه، أتقن بلينكن الفرنسية بلكنة أميركية، ودرس في مدارس فرنسية مرموقة، ما جعل "الهوى الأوروبي" سمة بارزة في توجهاته السياسية، سواء تجاه التغير المناخي، أو برنامج إيران النووي، أو الأزمة الروسية الأوكرانية، إذ يؤكد دوماً على أهمية التنسيق مع حلفاء أمريكا الأوروبيين.
بعد تخرجه من جامعة هارفارد، حصل بلينكن على الدكتوراه في القانون من جامعة كولومبيا عام 1987. وفي بداية حياته المهنية، تنقل بين العمل البحثي والمناصب الاستشارية، إذ كان زميلاً في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ومديراً لموظفي الحزب الديمقراطي في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، حيث كوّن صداقة قوية مع السيناتور جو بايدن.
بينما بدأ مسيرته الرسمية كعضو فاعل في مجلس الأمن القومي خلال إدارة كلينتون، حين جلب مساعد وزير الخارجية للشؤون الأوروبية والكندية آنذاك بلينكن إلى مجلس الأمن القومي. فحظي بلينكن حينها بتقدير كبير لكتابته الخطب للرئيس والتفكير الاستراتيجي في مستقبل أمريكا.
وفي عهد أوباما، تولى مهام رئيسية تتعلق بسياسة العراق وأفغانستان وباكستان، ثم شغل منصب نائب مستشار الأمن القومي في 2014.
وعند انتقاله للقطاع الخاص بعد فوز ترامب، شارك في تأسيس West Exec Advisors مع وكيلة وزارة الدفاع في حكومة أوباما ميشيل فلورنوي عام 2018، وهي "شركة استشارية استراتيجية" سرية بشأن عملائها. واستغل بلينكن وفلورنوي علاقتهما لبناء قاعدة عملاء كبيرة عند تقاطع التكنولوجيا والدفاع. وتعاونت معهم شركة ناشئة إسرائيلية للمراقبة.
ثم عاد بلينكن لاحقاً مع إدارة بايدن كوزير للخارجية. وخلال حملة بايدن، عمل على طمأنة الجماعات اليهودية بأن بايدن مؤيد قوي للاحتلال الإسرائيلي وله تاريخ طويل في معرفة قادته.
تخطى القوانين الأمريكية لتيسير انتقال السلاح لإسرائيل
ومع اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر 2023، لعب دورا في تسيير انتقال الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل. فمنذ اليوم الأول، برز دور بلينكن في تشكيل وتقرير سياسة بلاده تجاه حرب الإبادة على غزة، وذلك في ظل ضعف اللياقة الذهنية والعقلية للرئيس جو بايدن، وانشغال نائبته كامالا هاريس بمعترك حملة الانتخابات الرئاسية خلال الأشهر الأخيرة.
فسارت عمليات تسليح إسرائيل بسلاسة وسرعة، متجاوزةً أحياناً موافقات الكونغرس، وحتى متجاهلةً القوانين الأمريكية التي تحظر بيع السلاح لأي طرف قد يستخدمه في انتهاكات لحقوق الإنسان.
بلينكن، الذي كان يطوف الشرق الأوسط بحثاً عن سبل لوقف إطلاق النار، كان هو في الوقت ذاته المسؤول الرئيسي عن تسريع تدفق السلاح إلى إسرائيل.
فبرغم أن قانون المساعدات الخارجية الأمريكي يتضمن بنداً (المادة 620I) يحظر تقديم المساعدات العسكرية (والتي من ضمنها المعونة السنوية لإسرائيل بتكلفة 3.8 مليار دولار) لأي دولة تعرقل وصول المساعدات الإنسانية، لم تتوقف شحنات الأسلحة إلى إسرائيل.
ومع تزايد أعداد الضحايا في غزة، قدمت أكبر مؤسستين في الحكومة الأمريكية فيما يخص المساعدات الإنسانية وهما (الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية) و ( مكتب السكان واللاجئين والهجرة) التابعين لوزارة الخارجية تقارير مباشرة إلى بلينكن، محذرة من الانتهاكات المتزايدة وضرورة وقف الإمدادت العسكرية. إذ تضمنت التقارير تفاصيل عن استهداف إسرائيل لعمال الإغاثة، وقصف سيارات الإسعارف، وتدمير المنشآت الزراعية والصحية، ومنع مرور الشاحنات المحملة بـالإمدادات الطبية والغذائية إلى القطاع.
لكن بلينكن لم يهتم كثيراً لهذه التقارير، وواصل التبرير للعنف الإسرائيلي كما فعل مسبقاً في شبابه، مؤكداً على ضرورة استمرار الدعم العسكري. وفي يوم 10 مايو، وبينما كانت كانت سماء غزة تمطر صواريخ أمريكية الصنع، قدم بلينكن للكونغرس تقريراً حول مدى إلتزام الاحتلال الإسرائيلي وقادته المتطرفون بحقوق الإنسان. فوصفت المسؤولة في وزارة الخارجية، ستايسي جيلبرت ذلك التقرير، بأنه "مليء بالأكاذيب"، حيث ادعى بلينكن أن الاحتلال وجنوده يحترمون حقوق الإنسان خلال شنهم حرب الإبادة على الفلسطينيين، متجاهلاً الأدلة المتزايدة على استهداف الأبرياء والمنشآت الإنسانية في غزة.
وبعد مشاركتها في إعداد مسودة التقرير، استقالت جيلبرت احتجاجاً على التضليل المتعمد وإصرار بلينكن على تزييف الحقائق، ووصفت التقرير بأنه "إنكار للواقع".
وقد سبقت استقالة غيلبرت استقالات من قبل مسؤولين في إدارة بايدن، بسبب العدوان على قطاع غزة، منهم جوش بول المسؤول في مكتب وزارة الخارجية المسؤول عن المساعدات العسكرية للدول الأجنبية، وأنيل شيلين المختصة في قضايا حقوق الإنسان، وهالة رايت إحدى المتحدثات الرسميات باللغة العربية في الخارجية، و ليلي غرينبيرغ كول، التي عملت في وزارة الداخلية وكانت مسؤولة عن تنظيم الحملة الانتخابية لنائبة الرئيس كامالا هاريس.
وبالطبع، لم يكن بلينكن ليتحكم في سير الدعم العسكري بهذه الحرية، لولا مذكرة الأمن القومي (NSM-20) التي أصدرها بايدن في فبراير 2024، والتي منحت وزارة الخارجية سلطة الرقابة على انتهاكات حقوق الإنسان وتنسيق المساعدات، وهو ما جعل القرار بيد بلينكن بالكامل، والذي استطاع منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023 إلى أغسطس 2024 بتنسيق جسراً جوياً وبحرياً لنقل الأسلحة، شمل شحنات أكثر من 50 ألف طن من المعدات العسكرية عبر 500 طائرة شحن و107 سفن، حسبما أفادت وزارة الدفاع الإسرائيلية.
ووفقاً لدراسة من معهد واتسون للشؤون الدولية في جامعة براون، بلغت تكلفة الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل حتى سبتمبر 2024 أكثر من 22 مليار دولار، وهو ما عزز قدرة إسرائيل على مواصلة الحرب في غزة، متجاهلاً أعداد الضحايا من المدنيين، ومحولاً المعاناة الإنسانية إلى مجرد تفاصيل في مخطط دعم الحليف.
كان هذا الرجل، صمويل بيسار، الذي سيعمل لاحقاً مستشاراً للرئيس الراحل جون كينيدي ولعدد من الرؤساء الفرنسيين، وسيكون زوج والدة وزير الخارجية الأمريكي الحالي، أنتوني بلينكن، الذي يستحضر دائماً هذه القصة الهوليوودية ليعبر عن رؤيته لدور أمريكا في العالم.
ففي خطاب له أمام مجلس الشيوخ عام 2021، تحدث بلينكن عن هذه الحادثة، معتبراً إياها نموذجاً حياً للشراكة الأمريكية مع العالم، وعن إحساسه الإنساني بالمسؤولية تجاه من يعيشون في ظل القهر والاضطهاد. قائلاً: "هذا هو ما نحن عليه. هذا ما نمثله للعالم، مهما كان ذلك غير كامل، وما يمكننا أن نكون عليه في أفضل حالاتنا".
لكن، بعد سنتين تقريباً من صعوده إلى منصب وزير الخارجية، صار بلينكن الليبرالي داعم حرب الإبادة على الفلسطينيين في غزة، فبعد بدء الحرب مباشرة، وقف بلينكن أمام الإسرائيليين بأنه اليوم يقف بجانب الاحتلال الإسرائيلي لكونه ""يهوديا فرَ جده من القتل" أكثر من كونه وزير خارجية أمريكي مسؤول عن توفير الدعم الدبلوماسي والعسكري لحرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة والتي خلفت أكثر من 44 ألف شهيد أغلبهم من الأطفال والنساء حتى كتابة هذه السطور.
بعد قرابة 4 سنوات من توليه منصب وزير الخارجية الأمريكي، ومع اقتراب مغادرته لمنصبه في الأسابيع المقبلة، يترك أنتوني بلينكن خلفه تاريخًا دامياً من الانتهاكات والتجاوزات في حق المنطقة، ليبقى أثر قراراته وسياساته ماثلاً في حروب ومآسي متعددة كانت فلسطين في مقدمتها، وخاصة الحرب على غزة. فمن هو هذا الرجل؟ وكيف أثر تكوينه عليه ليزرع كل هذه الوحشية في المنطقة خلال فترة خدمته؟ وكيف تعاطى مع ملف المفاوضات الذي وُضع بين يديه؟
"الجنرال الدبلوماسي".. بلينكن دائماً سفيراً للحرب
منذ بداية الحرب على غزة، تتكرّر المفاوضات التي تجري للتوصّل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، كل بضعة أسابيع، برعاية أميركية.
وفي كل مرة، تبدي الولايات المتحدة تفاؤلًا لا علاقة له بالواقع بشأن إمكانية بلوغ اتفاق، ويبدي وزير خارجيتها أنتوني بلينكن انطباعًا مصطنعًا بأن الاحتلال الإسرائيلي يوافق على المقترحات الأمريكية، وأن المقاومة الفلسطينية "حماس" هي من تقف في طريق الوصول إلى اتفاق. لكن وفي كل مرة، يتبين أن نتنياهو لم يعطِ موافقته على الصفقة إطلاقًا، ثم تعود الجهود إلى مربع الصفر ويستمر الدعم الأمريكي بأحدث الأسلحة لقادة إسرائيل المتطرفين دون ضغط حقيقي لإيقاف الحرب.
تكرّر هذا المشهد شبه السوريالي إلى درجة أن الصحافة الإسرائيلية نفسها باتت تلقي اللوم على بلينكن وتصريحاته غير الواقعية، التي ساهمت بحسب ما أكده الإعلام العبري في إفشال كل الصفقات الماضية. فما الذي يجري؟ هل بلينكن مفاوض فاشل؟ هل هو غير ضليع ولا مطّلع على شروط الطرفَين؟ أم إن الأمر أبعد وأقدم من ذلك؟
عندما اختار بايدن بلينكن مرشحا لوزارة الخارجية الأميركية بعد 4 سنوات من السياسات الخارجية المضطربة لدونالد ترامب، حصل بلينكن سريعا على ثقة مجلس الشيوخ بأغلبية 78 صوتا مقابل 22 في المجلس ذي الغالبية الجمهورية.
ولعل ذلك، يرجع لرؤية بلينكن في السياسة الخارجية الأمريكية المتفقة مع الجمهوريين ودعاة الحرب، ليس في بعض السياسات فحسب، بل كلها غالبا.
إذ يرى بأن التدخل العسكري قد يكون أحياناً الحل الأمثل لمواجهة الأزمات الإنسانية. فبالنسبة له، لا يُعد الجيش الأمريكي أداة مدمرة بقدر ما يُعتبر وسيلة لردع العنف أو منعه. إذ كتب في أحد مقالاته أن "القوة يمكن أن تكون مكملاً ضرورياً للدبلوماسية الفعّالة" وبهذا، فإن بلينكن يمثل توجهاً يرى في القوة العسكرية الأمريكية أداة دعم إنسانية، سواء من خلال التهديد باستخدامها أو تفعيلها فعلياً.
و تاريخ أنتوني بلينكن في السياسة الأمريكية حافل بدعم التدخلات العسكرية الأمريكية، سواء في الشرق الأوسط أو خارجه. فقد كان من أبرز المؤيدين للحرب الأمريكية على العراق عام 2003، إذ كان بلينكن أحد كبار مساعدي بايدن عندما كان سيناتور آنذاك وصوت لصالح تفويض الغزو الأمريكي للعراق، بل وساعد بلينكن بايدن في وضع اقتراح لتقسيم العراق إلى ثلاث مناطق منفصلة على أساس الهوية العرقية والطائفية.
ولم يتخل عن موقفه من حرب العراق رغم الانتقادات المتزايدة لاحقاً لتلك الحرب وتداعياتها. هذا التوجه الاستراتيجي يظهر في معظم مواقف بلينكن؛ إذ لم يتردد في تأييد التدخل العسكري الأمريكي في ليبيا في عام2011، وكذلك دعم انخراط الولايات المتحدة في الأزمة السورية.
بلينكن لا يرى تناقضاً بين الديمقراطية والتدخل العسكري، بل يؤمن أن التدخلات التي تحمل طابعاً عسكرياً يمكنها تعزيز نفوذ أمريكا ونشر قيمها. ويعكس موقفه هذا ما يمكن تسميته بـ "التدخل الليبرالي"، الذي يسعى لاستخدام القوة لتحقيق الاستقرار وفقاً للرؤية الأمريكية، مع إيمان راسخ بأهمية دور أمريكا في حفظ النظام العالمي.
ولم تقتصر سياسته على الشرق الأوسط، بل امتدت لتشمل مواقف حازمة تجاه الصين وروسيا، لا تختلف كثيراً عن مواقف الجمهوريين التقليدية في السعي لفرض الهيمنة الأمريكية. يرى بلينكن أن على الولايات المتحدة فرض توازن قوى واضح، دون إبداء الكثير من الاهتمام بالقوى الصاعدة أو التعددية القطبية التي يشهدها العالم اليوم.
قد عبر عن رؤيته تلك بوضوح في مقاله الأخير الشهر الماضي المنشور في مجلة فورين أفيرز بعنوان "استراتيجية التجديد الأميريكية: إعادة بناء القيادة من أجل عالم جديد" والتي أكد فيه على أهمية استعادة القيادة الأمريكية عالمياً، متناولاً أيضاً التهديدات التي يرى أن "حماس وإيران" تشكلها، باعتبارهما عائقين أمام مشاريع التطبيع والسلام والتكامل الاقتصادي في الشرق الأوسط.
وعند تطرقه إلى المأساة الإنسانية في غزة، أقر بأن الفلسطينيين واقعون في حرب لم يختاروها ولا يملكون القدرة على إنهائها. لكنه تجنب الإشارة إلى إسرائيل كسبب مباشر، مؤكداً بدلاً من ذلك على "مشروعية دفاعها عن نفسها." ولاستكمال مشروع بناء جديد لشرق أوسط يلبي "احتياجات إسرائيل الأمنية" كما ذكر.
لماذا كل هذا الولاء لإسرائيل؟
لا يبدو أن بلينكن يرى أي تناقض بين دعمه للاحتلال الإسرائيلي وقادته المتطرفين، وادعاء التزامه بالليبرالية، إذ يبدو أن إرثه العائلي وتجربته الشخصية قد أسهما في بناء تلك الرؤية المشوهة.
إذ قالت سوزان رايس، السفيرة الأميركية السابقة لدى الأمم المتحدة ومستشارة الأمن القومي التي عملت مع بلينكن منذ إدارة كلينتون: "لا يمكنك أن تعرف توني دون أن تعرف المدى الذي يؤثر فيه تاريخ العائلة على شخصيته".
ولد أنطوني "توني" بلينكن في 16 أبريل 1962 في مدينة يونكرز بولاية نيويورك لوالدين يهوديين، جوديث ودونالد بلينكن. بعد أن فرّ جده من روسيا هرباً من الاضطهاد المعادي لليهود، وهاجر إلى الولايات المتحدة.
وبعد طلاق والدته، انتقل بلينكن إلى باريس، حيث نشأ تحت تأثير زوج والدته، صمويل بيسار، الناجي من الهولوكوست، والذي روى له باستمرار عن تجاربه في معسكرات الاعتقال النازية في أوشفيتز وداخاو، وهي ذكريات تركت بصمة عميقة في وجدانه وشكلت جزءاً كبيراً من رؤيته للعالم كما ذكر بلينكن بنفسه.
وربما يفسر هذا الإرث العاطفي والذاكرة العائلية المتشبعة بالمظلومية موقف بلينكن الحاد في تأييده لإسرائيل، الذي يتخذ أحياناً طابعاً غير نقدي، حتى وإن كانت السياسات الإسرائيلية أبعد ما تكون عن القيم الإنسانية التي يزعم بلينكن تمسكه بها. فخلال فترة دراسته بجامعة هارفارد، شارك بلينكن في تحرير هارفارد كريمسون، حيث كتب مقالات عديدة عن إسرائيل، معبّراً عن انتقادات حادة لكل من يهاجمها أو يقارنها بالأنظمة الفاشية.
ففي مقال بعنوان "لبنان والحقائق"، الذي كتبه خلال حرب إسرائيل على لبنان عام 1982، انتقد بشدة ما وصفه بـ"الخطاب السام والكريه" لبعض وسائل الإعلام تجاه إسرائيل، وقال إن مقارنة صحيفة "فيليدج فويس" لإسرائيل بالنازيين كانت "خاطئة ومقززة"، ليوضح لأصحاب المعايير المزدوجة كام وصفهم، أن ما حدث في لبنان هو نتيجة لسنوات من الإحباط، بعد أن سئم الإسرائيليون من حرمانهم من وجود آمن في المنطقة.
و بعد مذبحة صبرا وشاتيلا في نفس العام، في موقف مشابه لما يفعله اليوم، برر للاحتلال الإسرائيلي في مقال آخر بعنوان "الخطر في الداخل" كاتباً: "إسرائيل ليست، ولم تكن أبداً، ولن تكون أبداً الدولة التي لا تشوبها شائبة، والأخلاقية الكاملة التي يرغب بعض مؤيديها في رؤيتها. فالإسرائيليون، بعد كل شيء، بشر فقط". وكرر نفس البروباغندا الإسرائيلية التي لم تتغير إلى اليوم، التي تقول بإن الاحتلال إسرائيل لم يذهب إلى غزو جاره لبنان، بل لتخليص نفسه وجاره من عدو خطير الا وهو (منظمة التحرير الفلسطينية).
لذلك لا غرابة في مواقف وتصريحات بلينكن اليوم، فهو يستخدم نفس الأسلوب إلى اليوم في لي الحقائق وتشويه التاريخ بطريقة فجة من أجل تحقيق مكاسب سياسية، كما وصفته مجلة جاكوبين الأمريكية في مقال لها.
كيف صعد السلم الدبلوماسي؟
ينتمي أنطوني بلينكن لعائلة يهودية بارزة في السلك الدبلوماسي الأمريكي؛ فقد كان والده سفيراً للولايات المتحدة في المجر، وعمه شغل منصب السفير الأمريكي في بلجيكا، بينما عمل زوج والدته، صمويل بيسار، مستشاراً للرئيس جون كينيدي وعدد من الرؤساء الفرنسيين كما ذكرنا سابقاً.
ونتيجة لنشأته في باريس بعد طلاق والديه، أتقن بلينكن الفرنسية بلكنة أميركية، ودرس في مدارس فرنسية مرموقة، ما جعل "الهوى الأوروبي" سمة بارزة في توجهاته السياسية، سواء تجاه التغير المناخي، أو برنامج إيران النووي، أو الأزمة الروسية الأوكرانية، إذ يؤكد دوماً على أهمية التنسيق مع حلفاء أمريكا الأوروبيين.
بعد تخرجه من جامعة هارفارد، حصل بلينكن على الدكتوراه في القانون من جامعة كولومبيا عام 1987. وفي بداية حياته المهنية، تنقل بين العمل البحثي والمناصب الاستشارية، إذ كان زميلاً في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ومديراً لموظفي الحزب الديمقراطي في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، حيث كوّن صداقة قوية مع السيناتور جو بايدن.
بينما بدأ مسيرته الرسمية كعضو فاعل في مجلس الأمن القومي خلال إدارة كلينتون، حين جلب مساعد وزير الخارجية للشؤون الأوروبية والكندية آنذاك بلينكن إلى مجلس الأمن القومي. فحظي بلينكن حينها بتقدير كبير لكتابته الخطب للرئيس والتفكير الاستراتيجي في مستقبل أمريكا.
وفي عهد أوباما، تولى مهام رئيسية تتعلق بسياسة العراق وأفغانستان وباكستان، ثم شغل منصب نائب مستشار الأمن القومي في 2014.
وعند انتقاله للقطاع الخاص بعد فوز ترامب، شارك في تأسيس West Exec Advisors مع وكيلة وزارة الدفاع في حكومة أوباما ميشيل فلورنوي عام 2018، وهي "شركة استشارية استراتيجية" سرية بشأن عملائها. واستغل بلينكن وفلورنوي علاقتهما لبناء قاعدة عملاء كبيرة عند تقاطع التكنولوجيا والدفاع. وتعاونت معهم شركة ناشئة إسرائيلية للمراقبة.
ثم عاد بلينكن لاحقاً مع إدارة بايدن كوزير للخارجية. وخلال حملة بايدن، عمل على طمأنة الجماعات اليهودية بأن بايدن مؤيد قوي للاحتلال الإسرائيلي وله تاريخ طويل في معرفة قادته.
تخطى القوانين الأمريكية لتيسير انتقال السلاح لإسرائيل
ومع اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر 2023، لعب دورا في تسيير انتقال الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل. فمنذ اليوم الأول، برز دور بلينكن في تشكيل وتقرير سياسة بلاده تجاه حرب الإبادة على غزة، وذلك في ظل ضعف اللياقة الذهنية والعقلية للرئيس جو بايدن، وانشغال نائبته كامالا هاريس بمعترك حملة الانتخابات الرئاسية خلال الأشهر الأخيرة.
فسارت عمليات تسليح إسرائيل بسلاسة وسرعة، متجاوزةً أحياناً موافقات الكونغرس، وحتى متجاهلةً القوانين الأمريكية التي تحظر بيع السلاح لأي طرف قد يستخدمه في انتهاكات لحقوق الإنسان.
بلينكن، الذي كان يطوف الشرق الأوسط بحثاً عن سبل لوقف إطلاق النار، كان هو في الوقت ذاته المسؤول الرئيسي عن تسريع تدفق السلاح إلى إسرائيل.
فبرغم أن قانون المساعدات الخارجية الأمريكي يتضمن بنداً (المادة 620I) يحظر تقديم المساعدات العسكرية (والتي من ضمنها المعونة السنوية لإسرائيل بتكلفة 3.8 مليار دولار) لأي دولة تعرقل وصول المساعدات الإنسانية، لم تتوقف شحنات الأسلحة إلى إسرائيل.
ومع تزايد أعداد الضحايا في غزة، قدمت أكبر مؤسستين في الحكومة الأمريكية فيما يخص المساعدات الإنسانية وهما (الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية) و ( مكتب السكان واللاجئين والهجرة) التابعين لوزارة الخارجية تقارير مباشرة إلى بلينكن، محذرة من الانتهاكات المتزايدة وضرورة وقف الإمدادت العسكرية. إذ تضمنت التقارير تفاصيل عن استهداف إسرائيل لعمال الإغاثة، وقصف سيارات الإسعارف، وتدمير المنشآت الزراعية والصحية، ومنع مرور الشاحنات المحملة بـالإمدادات الطبية والغذائية إلى القطاع.
لكن بلينكن لم يهتم كثيراً لهذه التقارير، وواصل التبرير للعنف الإسرائيلي كما فعل مسبقاً في شبابه، مؤكداً على ضرورة استمرار الدعم العسكري. وفي يوم 10 مايو، وبينما كانت كانت سماء غزة تمطر صواريخ أمريكية الصنع، قدم بلينكن للكونغرس تقريراً حول مدى إلتزام الاحتلال الإسرائيلي وقادته المتطرفون بحقوق الإنسان. فوصفت المسؤولة في وزارة الخارجية، ستايسي جيلبرت ذلك التقرير، بأنه "مليء بالأكاذيب"، حيث ادعى بلينكن أن الاحتلال وجنوده يحترمون حقوق الإنسان خلال شنهم حرب الإبادة على الفلسطينيين، متجاهلاً الأدلة المتزايدة على استهداف الأبرياء والمنشآت الإنسانية في غزة.
وبعد مشاركتها في إعداد مسودة التقرير، استقالت جيلبرت احتجاجاً على التضليل المتعمد وإصرار بلينكن على تزييف الحقائق، ووصفت التقرير بأنه "إنكار للواقع".
وقد سبقت استقالة غيلبرت استقالات من قبل مسؤولين في إدارة بايدن، بسبب العدوان على قطاع غزة، منهم جوش بول المسؤول في مكتب وزارة الخارجية المسؤول عن المساعدات العسكرية للدول الأجنبية، وأنيل شيلين المختصة في قضايا حقوق الإنسان، وهالة رايت إحدى المتحدثات الرسميات باللغة العربية في الخارجية، و ليلي غرينبيرغ كول، التي عملت في وزارة الداخلية وكانت مسؤولة عن تنظيم الحملة الانتخابية لنائبة الرئيس كامالا هاريس.
وبالطبع، لم يكن بلينكن ليتحكم في سير الدعم العسكري بهذه الحرية، لولا مذكرة الأمن القومي (NSM-20) التي أصدرها بايدن في فبراير 2024، والتي منحت وزارة الخارجية سلطة الرقابة على انتهاكات حقوق الإنسان وتنسيق المساعدات، وهو ما جعل القرار بيد بلينكن بالكامل، والذي استطاع منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023 إلى أغسطس 2024 بتنسيق جسراً جوياً وبحرياً لنقل الأسلحة، شمل شحنات أكثر من 50 ألف طن من المعدات العسكرية عبر 500 طائرة شحن و107 سفن، حسبما أفادت وزارة الدفاع الإسرائيلية.
ووفقاً لدراسة من معهد واتسون للشؤون الدولية في جامعة براون، بلغت تكلفة الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل حتى سبتمبر 2024 أكثر من 22 مليار دولار، وهو ما عزز قدرة إسرائيل على مواصلة الحرب في غزة، متجاهلاً أعداد الضحايا من المدنيين، ومحولاً المعاناة الإنسانية إلى مجرد تفاصيل في مخطط دعم الحليف.