عنف أجهزة الأمن ودروس 2011..
عزمي بشارة
مفكر عربي
نيسان ـ نشر في 2015-12-05 الساعة 10:33
كان تفشي عنف أجهزة الأمن، إلى درجة تحوّله إلى قاعدة سلوكية في التعامل مع الناس، من أهم أسباب انفجار الغضب الثوري العربي عام 2011، بل وكان في حالاتٍ عينيةٍ قادحها المباشر، إذ أطلق الشرارة التي اندلع منها ذلك اللهيب الذي لم يخمد جمره بعد.
لا شيء يراكم الغضب مثل الحطّ من كرامة الإنسان، عبر استخدام العنف الجسدي ضده. ففي نفس الإنسان العادي يعتمل سخط شديد، إذا اشتغل أحدٌ بجسده، رغماً عنه. وإن التعبير الأكثر فظاظة عن انتهاك حرمة الإنسان وكرامته وخصوصيته هو التعدي على جسده، بقصد إيلامه، أو إذلاله، وهو في حالة عجز عن الرد.
وليس العنف اللفظي الذي يستخدمه مؤيدو الأنظمة الاستبدادية ضد خصومها، بقصد تشويه الشخصية، كبديل عن تشويه الجسد، إلا الوجه الآخر للعنف الجسدي.
وانشغال الدولة في التسبب بالألم الجسدي للأفراد هو من مخلفات العبودية التي يرتبط فيها الحكم بالإخضاع المباشر للجسد، فعلياً، أو بالتلويح بالعنف الجسدي، بعد أن يتشرب المستعبد الخوف والشعور بالنقص. وهو تعبير عن تخلف أدوات السيطرة. ومن أوضح الأدلة والبراهين على فقدان النظام للشرعية في نظر المحكومين.
والرجال الذين تدرّبهم الدولة مباشرة، أو بالتعويد والتعود، على ضرب المواطنين عند التوقيف، وتعذيبهم في أثناء التحقيق، وزجّهم في السجون، في ظروف غير إنسانية، بتهم ملفقة، يفقدون إنسانيتهم خلال ممارسة هذا الانحطاط، ويستبدلون المشاعر بغرائز حيوانية، مثل شم رائحة الخوف، والإحساس بالخطر عند رؤية كل ما هو مختلف وغير مألوف. وبما أنهم، خلافاً للحيوانات، يعذبون أبناء جنسهم بدوافع سادية، أو لشعور ما مشوّهٍ بالواجب، أو لإطاعة الأوامر، فإنهم يستبدلون غرائز الحيوانات بمركبات نفسيةٍ استحواذية، تلتبس على المراقب كغرائز؛ ومنها الحقد والنقمة والغضب غير القابل للتحكم، وعُقد النقص على أنواعها، والتعويض عن جبن مقيم في نفس المتنمّر على معتقل مقيد اليدين، وغيرها.
لقد انتقل الاستبداد العربي نقلة نوعية في العقود الثلاثة الماضية، من التنكيل بالمعارضين وقمع من يشك بأنهم معارضون، إلى تعميم العنف كمكون دائم في التعامل مع المواطنين عموماً. وهذا فرق جوهري، وليس تغيراً كمياً فقط. لقد أصبح الضرب، بما فيه من حط من كرامة الإنسان، حاضراً كفعل، أو كتهديد بالفعل في التعامل مع المواطن، أي مواطن، سواء أكان مؤيداً أم معارضاً للنظام، مشبوهاً أم غير مشبوه. فالعنف لم يعد متعلقاً بالمواطن ومواقفه وسلوكه؛ بل برجل الأمن، وطباعه ومزاجه، وغيرها.
ويبدو أن تآكل مصادر شرعية الأنظمة، وفقدانها بريقها الأيديولوجي، قد زاد من اعتمادها على العنف، لإخضاع الشعب بشكل عام. وأدى الامتناع المتعمد عن المحاسبة، حتى لا يتردد رجل الأمن في استخدام العنف ضد المعارضين، خوفاً منها، إلى انفلات العنف، ليشمل بأذاه غير المعارضين. كما زالت الحواجز بين رجال الأمن والعالم السفلي الذي استخدموه على شكل "بلطجية" و"شبيحة" (وغيرها من التسميات التي تطلق على حثالات المجتمع وسوائمه)، فتأثروا بهم، وتطبعوا بطباعهم.
وأذكر أنه في الأيام الأولى التي تلت تنحي حسني مبارك، في 11 فبراير/شباط 2011، ظهرت على الشاشات مسيرة رجال أمن بزيهم الرسمي يؤيدون الثورة، ويحتجون على سوء صورتهم بعدها، والتقطت عدسة الكاميرا أحدهم، وهو ينتحب تأثرا، فتلقاه ثوار الميدان بالأحضان، وهدّأوا من روعه. وربما كان صادقاً في ندمه، أو أسفه، لا أدري. فلست بقاصد هذا المجند، أو غيره من ضحايا النظام، حين أقول إن استخدام العنف ضد معتقلٍ، لا حول له ولا قوة، لا يعبّر عن شجاعةٍ ورباطة جأش، وليس فيه مثقال ذرة من خصال الإنسان المقدام، بل هي، غالباً، ما تنم عن جبن وضعف واهتزاز الشخصية. ولا أستغرب لو بكى من يتفنن في تعذيب سجين وإذلاله، خوفاً أو لاستدرار العطف في مناسبة أخرى، كفعل بعض المذيعين العنيفين لفظياً بعد الثورة، إذ تملكهم البكاء في البث المباشر خلال محاولاتهم استعطاف الجمهور بعد الثورة.
ولم يتأخر الدليل على صحة هذا التشخيص، فما أن أحكمت عناصر النظام القديم في مصر وغيرها قبضتها على مقاليد الحكم من جديد، لأسبابٍ لا مجال لذكرها هنا، حتى عادت أجهزة الأمن إلى سابق عهدها في العنف، ولكن بعسف أشد، وشراسة أكثر انفلاتاً من ذي قبل. وكأننا نشهد شن حملة منظمةٍ لانتهاك لحقوق الإنسان والمواطن، فقد اشتدت على أجهزة الأمن ضغائن الانتقام، لما أصابها من إذلال في ذلك العام الطويل، حين كانت عرضة للنقد العلني الذي لم تتعود عليه قبل الثورات، وألحت عليها الرغبة في التعويض عنه.
ومن الواضح أنه، في غياب الديمقراطية والمحاسبة، لا تتعلم أجهزة القمع من تجربتها، بل تزداد تمسكاً بمنطق القوة. واستنتاجها بشأن الثورات في العام 2011 يتلخص في أنها لم تستخدم ما يكفي من القوة والعنف في قمع الشعب وترهيبه. وفي هذه الأثناء، استنتجت القوى الثورية، برأيي، أنها لا يجوز أن تتسامح مع مرتكبي جرائم التنكيل والتعذيب، وأن أي ثورةٍ ديمقراطيةٍ لا بد أن تبدأ عملية الإصلاح الشامل التي يفترض أن تتبعها، بتغيير بنية جهاز الأمن وعقليته ووظيفته، وثقافة عناصره حتى كأفراد؛ وينطبق ذلك على الأجهزة التي تتستر على أجهزة الأمن، وتتواطأ معها، مثل جهاز العدل من نيابة وقضاء، والذي يعمل بسهولةٍ غير محتملة، كجهاز شرعنة الظلم وتحليله (التحليل هنا ضد التحريم).
تجاوزت الإنسانية مرحلة العبودية، وأصبحت الكرامة ورفض الذل من مكوّنات شخصية المواطن. ولذلك، لا تقبل غالبية الناس العنف الجسدي وسيلة للتعاطي معها، ولا تتحمله على المدى البعيد، وهذا من أهم دروس عام 2011، التي إن نسيها الجلادون، لا يجوز أن ينساها الضحايا.