اتصل بنا
 

فهمي هويدي يكتب: جريمتان

كاتب عربي

نيسان ـ نشر في 2015-12-07 الساعة 08:56

نيسان ـ

الحادث المفجع الذي أودى بحياة ١٦ مواطنا مصريا في حي العجوزة بالقاهرة بمثابة جرس إنذار جديد، لا أعرف متى يمكن أن يؤخذ على محمل الجد. كما أنني لا أعرف كم مصريا يجب أن يحترق أو يختنق حتى يستيقظ المسؤولون وينتبهوا إلى أن ثمة إرهابا من نوع آخر يهدد راحة المصريين وأمنهم. أتحدث عن جريمة إحراق الملهى الليلي غير المرخص بواسطة بعض البلطجية لأسباب فصلت فيها الصحف خلال اليومين الماضيين.

إذ لأن الحادث كان مروعا وقاهريا فقد نال ما يستحقه من اهتمام من جانب الأجهزة الأمنية والإعلامية. إلا أنني أخشى أن ينحصر الاهتمام في حدود الجريمة المروعة التي وقعت، بحيث ينصرف عن جريمة أخرى أكبر وأفدح مسكوت عليها منذ سنوات، حتى استشرت وباتت تستفحل حينا بعد حين.

أعني بذلك الفساد في المحليات الذي أصبح مصدرا لبلاء عظيم مهددا للاستقرار والأمن. ومشكلة ذلك التهديد الذي أصنفه ضمن الإرهاب الخفي أن ضحاياه هم الناس العاديون الذين قليلا ما تسمع أصواتهم ولا يكترث بأوجاعهم، ولو أن بعض ذلك التهديد وجه إلى أجهزة الأمن أو مؤسسات النظام وهيئاته لكان له شأن آخر يستصحب أعلى درجات الاستنفار والحزم وتغليظ العقوبة.

الحالة التي نحن بصددها، التي كانت وراء فاجعة العجوزة، نموذج مصغر لما أدعيه، فمسرح الحدث ملهى ليلي أقيم في قلب حي سكني ومارس نشاطه وذاع أمره، وجذب نوعيات مختلفة من الرواد، الذين كان بينهم بعض البلطجية وأرباب السوابق.
وكان هؤلاء وراء المشاجرة التي انتهت بإحراق الملهى بمن فيه فجر يوم الجمعة الماضي ٤/١٢. في حدود ما هو متداول في وسائل الإعلام فإن التحقيق كله منصب على الجريمة التي وقعت والجناة الذين كانوا وراءها، لكنني أشك كثيرا في أن يتسع نطاق التحقيق والتحري بحيث يجيب عن السؤال لماذا وكيف تم الترخيص بإقامة ملهى ليلي في قلب الحي السكني، ولماذا وكيف استطاع أصحاب الملهى مواصلة نشاطهم دون أي ترخيص؟
مثل هذه الأسئلة ليست محيرة، لأن الإجابة واضحة ويعرفها القاصي والداني، بحيث لا تحتاج إلى تحقيقات أو تحريات. ذلك أن الجميع يعرفون جيدا أن الرشاوى هي السبيل الوحيد والسلاح الأمضى لإنجاز المعاملات التي من ذلك القبيل، وكل صاحب مصلحة لا يعنيه في قليل أو كثير ما هو الوضع القانوني للمنشأة أو المشروع الذي يسعى إلى تنفيذه، لأن أكثر ما يهمه هو ما هو المبلغ المطلوب لاستخراج الرخصة وكيف يمكن الوصول إلى صاحب القرار الذي سينجز المعاملة في نهاية المطاف.

وليست هذه أسرارا، لأن التسعيرة باتت معلومة والسماسرة جاهزون للقيام بالواجب وصاحب القرار لن يقصر في الاستجابة بعد دفع المعلوم، لا أريد أن أعمم بطبيعة الحال، لأن الشرفاء ونظيفي اليد موجودون، لكنهم محجوبون بممارسات الأغلبية، التي باتت تعتبر «التراخيص» بابا واسعا ــ وسهلا ــ للثراء وتعويض ما قصر الراتب المتدني عن الوفاء به.

لا أتحدث عما أسمعه أو أطالعه في الصحف، لأنني أعيشه في محيطي السكني وألمسه حيثما ذهبت، حتى أزعم بأن الأحياء ذات الوضع الخاص، القاهرة مثل مصر الجديدة أو الزمالك تعرضت لغزو أصحاب المقاهي والمطاعم والأبراج السكنية المخالفة للقانون، والتي لا يمكن أن يصرح بها إلا بعد دفع الرشاوى التي تهدر الشروط والأحكام وتغمض أعين السلطة عن المخالفات والتجاوزات. وبسبب تلك التجاوزات فإن مصطلح الحي السكني أصبح بلا معنى، حيث تمت استباحة كل الأحياء لصالح التجار والمضاربين والباحثين عن الربح السريع.

إن ما جرى في حي العجوزة جاء كاشفا للجريمة الثانية التي تحدث بعيدا عن الأعين، التي تفتح الأبواب واسعة للفوضى وما تستصحبه من تداعيات. وقتل ١٦ شخصا في ملهى غير مرخص ليس سوى بعض تلك التداعيات، في حين أن إزعاج السكان وترويعهم وتحميل المرافق العامة بأضعاف طاقتها وتحويل الأرصفة إلى مقاه والشوارع إلى ملاعب حينا ومقالب للقمامة في أحيان أخرى، ذلك كله من تداعيات الجريمة الثانية.

إننا مستمرون في هدم القاهرة التاريخية وتشويه القاهرة الحديثة حتى أصبحت طاردة للقادرين من سكانها، الذين اتجهوا إلى الأطراف والضواحي البعيدة، كل ذلك بسبب فساد المحليات وإهمال مسؤوليها الذين لا يخضعون لأي حساب، إلى جانب القصور التشريعي الذي شجع المغامرين والجشعين على مواصلة انتهاكاتهم دون وجل أو خجل. إن كارثة المحليات هي الجريمة الكبرى التي أفرزت ما لا حصر له من المفاسد والشرور.

والسكوت على ما يجري فيها جريمة أخرى ينبغي أن يوضع لها حد، وليت الذين يتعقبون المشكوك في ولائهم للنظام يلقون نظرة على المنحرفين من موظفي المحليات الذين يؤرقون خلق الله ويفسدون عليهم حياتهم، أما الذين ملأوا الأحياء السكنية بالمقاهي والمطاعم والملاهي فينبغي أن يعاد النظر في أمرهم، بحيث لا يسمح لمخالفاتهم بأن تستمر وتصبح جزءا من الواقع القبيح والمشوه الذي فرضوه علينا.

بوابة الشرق

نيسان ـ نشر في 2015-12-07 الساعة 08:56

الكلمات الأكثر بحثاً