“العثمانيون قادمون”… كيف بدأت إسرائيل تنظر لعلاقاتها مع تركيا؟
نيسان ـ نشر في 2025-01-09
x
نيسان ـ ثمة شيء مأساوي في وضع العلاقات بين تركيا وإسرائيل. وفي سوريا مصالح مشتركة للدولتين. القصف الإسرائيلي على المحور المؤيد لإيران أضعف نظام دمشق، ما ساهم في انتصار الثوار الذين دعمتهم تركيا، وأدى هذا الانتصار في النهاية إلى إسقاط الأسد الذي استغلته إسرائيل لتزيل تهديدات في الشمال ولتضرب حلفاء طهران. في واقع آخر، كان يمكن الحلم بتعاون إسرائيلي – تركي لصد إيران، الخاسرة الأكبر من التطورات الأخيرة في سوريا.
لكن إسرائيل وتركيا بعيدتان عن التعاون وهما في واحدة من الأزمات الحادة في تاريخ علاقاتهما، بسبب الرد التركي على الحرب في غزة. ففور بدء الأعمال العسكرية في قطاع غزة، بدأ الرئيس التركي اردوغان يتحدث بتطرف ضد إسرائيل. وتركيا تعمل ضد إسرائيل في المنظمات الدولية، وبقيت إحدى أكبر الداعمات لحماس. في خطوة غير مسبوقة، اعتقد كثيرون أنها متعذرة، قرر اردوغان قطع العلاقات التجارية بين الدولتين.
أدى هذا الموقف بإسرائيليين كثر للتخوف من التقدم التركي في سوريا وإطلاق تحذيرات من أن تركيا قد تصبح نوعاً من “إيران جديدة” إزاء إسرائيل. لا خلاف في أن على إسرائيل الاستعداد لواقع يكون لها فيه حدود افتراضية مع تركيا في سوريا، لكن لا ينبغي المبالغة في وصف التهديد التركي. فتركيا ليست إيران، لا من ناحية السياسة الداخلية، ولا سيطرتها في سوريا ولا في علاقاتها مع إسرائيل. تركيا وإسرائيل لا تزالان تقيمان علاقات سياسية، حتى وإن كان على مستوى متدنٍ. يبدو أن التطلع إلى أكثر من هذا الآن أمر مشكوك فيه. العلاقات اليوم تبدو كحقل دمار، والضرر الذي تلحقه الأزمة الحالية سنشعر به لسنوات طويلة أخرى. رغم هذا، من غير المستبعد أن يغير اردوغان موقفه تجاه إسرائيل بعد انتهاء الحرب في غزة. فقد سبق للرئيس التركي أن أثبت على مدى السنين قدرته على تنفيذ انعطافات حادة في الموضوع. ليس مؤكداً أن القيادة الإسرائيلية مستعدة لتغفر له ما حصل في فترة السنة والنصف الأخيرة.
فضلاً عن هذا، إذا توصل زعماء الدولتين إلى ترتيب ما، فإن الشرخ بين المجتمعين عميق لدرجة يصعب معها جسره. عداء تركيا تجاه إسرائيل “القاتلة والمجرمة” قائم في كل الجماعات السكانية، وإسرائيل ترى في تركيا “العثمانيون قادمون”. ظاهرتان تعزز إحداهما الأخرى نوعاً من الدائرة الهدامة المغلقة.
الأقوال من جانب مؤيدي اردوغان بأن “تحرير فلسطين” هو استمرار طبيعي لنهاية نظام الأسد، تعزز المخاوف في إسرائيل حول نوايا تركيا. بالمقابل، يعتبر الأتراك الموقف الإسرائيلي من تركيا تهديداً، ويعتبرون دعوات دعم الأكراد وتعزيز العلاقات مع اليونان وقبرص دليلاً على مخاوفهم التي تكاد تكون جنون اضطهاد لكنها متفجرة، ودليلاً أيضاً على التحالف الدولي المتبلور ضد دولتهم.
ثمة رأي عام معادٍ ليس عاملاً جديداً في علاقات تركيا – إسرائيل، لكن هناك جماعات في الدولتين أخذت على عاتقها صيانة العلاقات. في التسعينيات، كان هؤلاء هم رجال الجيش، وفي الـ 15 سنة الأخيرة أضاف رجال الأعمال مضموناً جديداً للعلاقات. في فترات الأزمة السياسية أيضاً بين تركيا وإسرائيل، ازدهرت التجارة بينهما واعتبرت خيطاً رابطاً يمنع اتخاذ خطوات متطرفة. في هذا السياق، يبدو قرار اردوغان فرض المقاطعة قراراً ذا مغزى جسيم. في كل يوم يمر يجد رجال الأعمال الأتراك والإسرائيليون بدائل للطرف الآخر، وينشأ واقع جديد يصبح فيه ترميم التجارة المتبادلة، في حالة رغبت الحكومتان بذلك، أصعب فأصعب. بكلمات أخرى، قليلة هي الأمور التي تربطنا بتركيا اليوم، وسيكون صعباً بناء علاقات جديدة في المدى البعيد.
على إسرائيل أن تكون الراشد المسؤول
ثمة عامل آخر سيؤثر على دينامية العلاقات بين الدولتين، وهو ميزان القوى بينهما. فطوال عشرات السنين، كان انعدام تماثل في صالح تركيا. المعنى الاستراتيجي للعلاقات بالنسبة لإسرائيل كان عالياً جداً، حيث حددت أنقرة وتيرة العلاقات وعمقها. التطبيع الأخير بين أنقرة و”القدس” [تل أبيب] وقع في واقع مختلف: مكانة إسرائيل تعززت عقب التعاون في شرق البحر المتوسط واتفاقات إبراهيم، وتركيا، بالمقابل اعتبرت منعزلة وضعيفة. لأول مرة في تاريخ العلاقات كان يمكن لإسرائيل إملاء وتيرة تقدمها.
بات الوضع سائلاً جداً. في كل من أنقرة و”القدس” ثقة كبيرة بالذات، لكن هناك نقاط ضعف في الدولتين أيضاً. رغم أكثر من سنة من القتال، لم تحقق إسرائيل أهداف الحرب بعد. الوضع غير المستقر في سوريا قد ينقلب على تركيا. كما أنه من السابق لأوانه أن نعرف ماذا ستكون آثار إدارة ترامب الجديدة على الشرق الأوسط. ميزان القوى بين أنقرة و”القدس” قد يتغير، وكل تغيير كهذا سيؤثر أيضاً على العلاقات بينهما.
إسرائيل وتركيا الآن في إحدى الفترات المعقدة والباعثة على التحدي في علاقاتهما وفيها مخاطر واضحة وفرص محدودة. إلى جانب حاجة حقيقية للاستعداد لأي سيناريو محتمل، وبخاصة في سوريا، لا يزال من المجدي توجيه التفكير إلى الحد الأقصى من الفرص القائمة والامتناع عن تعريف تركيا كتهديد على إسرائيل. إلى جانب الحذر، على إسرائيل أن تكون “الراشد المسؤول” وتعمل بمنطق، رغم المشاعر الناشئة لسماع خطاب معاد آخر من اردوغان. مصالح إسرائيل في المنطقة تتطلب الآن إيجاد تسوية مؤقتة مع تركيا. أمر كهذا مركب وحساس وغير شعبي، لكنه ضروري.
د. رامي دانييل
إسرائيل اليوم 8/1/2025
لكن إسرائيل وتركيا بعيدتان عن التعاون وهما في واحدة من الأزمات الحادة في تاريخ علاقاتهما، بسبب الرد التركي على الحرب في غزة. ففور بدء الأعمال العسكرية في قطاع غزة، بدأ الرئيس التركي اردوغان يتحدث بتطرف ضد إسرائيل. وتركيا تعمل ضد إسرائيل في المنظمات الدولية، وبقيت إحدى أكبر الداعمات لحماس. في خطوة غير مسبوقة، اعتقد كثيرون أنها متعذرة، قرر اردوغان قطع العلاقات التجارية بين الدولتين.
أدى هذا الموقف بإسرائيليين كثر للتخوف من التقدم التركي في سوريا وإطلاق تحذيرات من أن تركيا قد تصبح نوعاً من “إيران جديدة” إزاء إسرائيل. لا خلاف في أن على إسرائيل الاستعداد لواقع يكون لها فيه حدود افتراضية مع تركيا في سوريا، لكن لا ينبغي المبالغة في وصف التهديد التركي. فتركيا ليست إيران، لا من ناحية السياسة الداخلية، ولا سيطرتها في سوريا ولا في علاقاتها مع إسرائيل. تركيا وإسرائيل لا تزالان تقيمان علاقات سياسية، حتى وإن كان على مستوى متدنٍ. يبدو أن التطلع إلى أكثر من هذا الآن أمر مشكوك فيه. العلاقات اليوم تبدو كحقل دمار، والضرر الذي تلحقه الأزمة الحالية سنشعر به لسنوات طويلة أخرى. رغم هذا، من غير المستبعد أن يغير اردوغان موقفه تجاه إسرائيل بعد انتهاء الحرب في غزة. فقد سبق للرئيس التركي أن أثبت على مدى السنين قدرته على تنفيذ انعطافات حادة في الموضوع. ليس مؤكداً أن القيادة الإسرائيلية مستعدة لتغفر له ما حصل في فترة السنة والنصف الأخيرة.
فضلاً عن هذا، إذا توصل زعماء الدولتين إلى ترتيب ما، فإن الشرخ بين المجتمعين عميق لدرجة يصعب معها جسره. عداء تركيا تجاه إسرائيل “القاتلة والمجرمة” قائم في كل الجماعات السكانية، وإسرائيل ترى في تركيا “العثمانيون قادمون”. ظاهرتان تعزز إحداهما الأخرى نوعاً من الدائرة الهدامة المغلقة.
الأقوال من جانب مؤيدي اردوغان بأن “تحرير فلسطين” هو استمرار طبيعي لنهاية نظام الأسد، تعزز المخاوف في إسرائيل حول نوايا تركيا. بالمقابل، يعتبر الأتراك الموقف الإسرائيلي من تركيا تهديداً، ويعتبرون دعوات دعم الأكراد وتعزيز العلاقات مع اليونان وقبرص دليلاً على مخاوفهم التي تكاد تكون جنون اضطهاد لكنها متفجرة، ودليلاً أيضاً على التحالف الدولي المتبلور ضد دولتهم.
ثمة رأي عام معادٍ ليس عاملاً جديداً في علاقات تركيا – إسرائيل، لكن هناك جماعات في الدولتين أخذت على عاتقها صيانة العلاقات. في التسعينيات، كان هؤلاء هم رجال الجيش، وفي الـ 15 سنة الأخيرة أضاف رجال الأعمال مضموناً جديداً للعلاقات. في فترات الأزمة السياسية أيضاً بين تركيا وإسرائيل، ازدهرت التجارة بينهما واعتبرت خيطاً رابطاً يمنع اتخاذ خطوات متطرفة. في هذا السياق، يبدو قرار اردوغان فرض المقاطعة قراراً ذا مغزى جسيم. في كل يوم يمر يجد رجال الأعمال الأتراك والإسرائيليون بدائل للطرف الآخر، وينشأ واقع جديد يصبح فيه ترميم التجارة المتبادلة، في حالة رغبت الحكومتان بذلك، أصعب فأصعب. بكلمات أخرى، قليلة هي الأمور التي تربطنا بتركيا اليوم، وسيكون صعباً بناء علاقات جديدة في المدى البعيد.
على إسرائيل أن تكون الراشد المسؤول
ثمة عامل آخر سيؤثر على دينامية العلاقات بين الدولتين، وهو ميزان القوى بينهما. فطوال عشرات السنين، كان انعدام تماثل في صالح تركيا. المعنى الاستراتيجي للعلاقات بالنسبة لإسرائيل كان عالياً جداً، حيث حددت أنقرة وتيرة العلاقات وعمقها. التطبيع الأخير بين أنقرة و”القدس” [تل أبيب] وقع في واقع مختلف: مكانة إسرائيل تعززت عقب التعاون في شرق البحر المتوسط واتفاقات إبراهيم، وتركيا، بالمقابل اعتبرت منعزلة وضعيفة. لأول مرة في تاريخ العلاقات كان يمكن لإسرائيل إملاء وتيرة تقدمها.
بات الوضع سائلاً جداً. في كل من أنقرة و”القدس” ثقة كبيرة بالذات، لكن هناك نقاط ضعف في الدولتين أيضاً. رغم أكثر من سنة من القتال، لم تحقق إسرائيل أهداف الحرب بعد. الوضع غير المستقر في سوريا قد ينقلب على تركيا. كما أنه من السابق لأوانه أن نعرف ماذا ستكون آثار إدارة ترامب الجديدة على الشرق الأوسط. ميزان القوى بين أنقرة و”القدس” قد يتغير، وكل تغيير كهذا سيؤثر أيضاً على العلاقات بينهما.
إسرائيل وتركيا الآن في إحدى الفترات المعقدة والباعثة على التحدي في علاقاتهما وفيها مخاطر واضحة وفرص محدودة. إلى جانب حاجة حقيقية للاستعداد لأي سيناريو محتمل، وبخاصة في سوريا، لا يزال من المجدي توجيه التفكير إلى الحد الأقصى من الفرص القائمة والامتناع عن تعريف تركيا كتهديد على إسرائيل. إلى جانب الحذر، على إسرائيل أن تكون “الراشد المسؤول” وتعمل بمنطق، رغم المشاعر الناشئة لسماع خطاب معاد آخر من اردوغان. مصالح إسرائيل في المنطقة تتطلب الآن إيجاد تسوية مؤقتة مع تركيا. أمر كهذا مركب وحساس وغير شعبي، لكنه ضروري.
د. رامي دانييل
إسرائيل اليوم 8/1/2025