اتصل بنا
 

أجمل قصة حب

كاتبة أردنية

نيسان ـ نشر في 2015-12-08 الساعة 09:16

نيسان ـ

وأنا المسكنوتة بقصص الجدات و الأجداد، كنت أحب قصة جدتي و جدي، أحب بيتهم بكل تفاصيله، بكل حكاياته. جدتي الهادئة التي لم تكن تقول اكثر من عشر جمل في اليوم، والتي لم تفارق عيناها نظرة مطمئنة.. مطمئتة بشكل غريب. ولم يفارق قلبها سلام داخلي خاص. وجدي ذلك الفرح المليء بالقصص، المليء بفرح يحلق و يجعلك تحلق معه. كان له كرش كبير.
" لما كرشك كبير ؟ " كنت أسأله .يضحك ويقول لي : "خبأت فيه الكثير من البطيخ و الشمام " أضحك معه، كنا نعرف عشقه للبطيخ و الشمام، ننتظره كل مساء ونلتصق حوله ليحكي لنا حكاية. كان بيتهم فيه اكتفاء ذاتي غريب، له (حاكورة)، كما يسمونها، تنتج الكثير من النعناع , الليمون تنتج مشمش وتفاح و دالية، يأتي جدي في المساء، يختار من يومه أجمل ما يمكن أن يحكيه ليقصه علينا ،نشوي كستناء، ونستمع له و لصوت البابور و هو يغلي الشاي، وتحيك جدتي كنزة و تخبره أخبار الليمونة و أخبار الأولاد، ولا تنسى أن تنقل له آخر شجارات قطط البيت، ونضحك و نضحك، كنا نضحك كثيرا، ليس لسبب محدد، أكثر من فائض سعادة يخرج على شكل ضحكات بنغمات مختلفة، كان هو عامود البيت، سندنا النفسي و المعنوي، و نبيلة جدتي سكرة البيت وحلواه.
هو من سند روحي رغم الأيام القليلة التي قضيتها معه في اجازات الصيف , سند هيكلي الذي كاد أن يتكسر مرارا. وهي أورثتني هدوء، هدوء المطمئن, لسنين من عمري.
كان بيت يصنع الحب يوميا مع خبز الصباح، رغم أنه مر بالنكبة و النكسة، إلا أنه صمد، صمد كصبارة فلسطينية عنيدة. كان نجاتي جدي يجد طريقة دائما ليحمي ذالك البيت، أمهر خياط برام الله كان، يعرف مقاسات الناس جيدا من أول نظرة. يعرف مقاس الجسد و مقاس الروح و يخيط بدل تبقى أجمل ما لبس أي من زبائنه .كان يجد طريقة دائما ليطور رزقه وليحمي بيته .
ومرت النكبة و النكسة و احتلت البلد.لكن نجاتي جدي الكردي و الفلسطيني جدا,.نجى .
.كان يقول لنا : " احتلوا البلد ...لكن لم يحتل أحد داخلنا,.ما زلت حرا من داخلي ." علمته مهنته الصبر, كما كفت عائلته و حمت كرامتهم .فمر الاحتلال و لم يحتلوا، ونبيلة جدتي القبرصية، والفلسطينية جدا ، سكنت فلسطين من عمر ال16 عندما تزوجت، لم ترَ أهلها بعدها الى أن ماتت الا مرات قليلة ...حتى أنني كنت افكر أنها بلا أهل، هكذا وجدت لوحدها كنبتة برية، وكنت أفكر أن نجاتي جدي بلا أهل أيضا، كان يتيم، ولم أكن أعرف أقارب له، كانت نبيلة وطنه وأهله و كان هو سند الروح عامود البيت، تاج الراس، أجمل وطن عرفته.
كما كان نجاتي يعرف كيف يخيط أجمل ملابس، كانت نبيلة تعرف.كيف تزرع الحاكورة و تخبز الخبز، تكدس الماقدوس و تصنع جرار التطلي والزيتون، قليلا ما كانوا يشترون منتجات جاهزة من السوق، كان ذالك البيت يصنع كل احتياجاتهم. هذه هي قصة نبيلة و نجاتي، كما سجلتها ذاكرتي، بل ذاكرتي سجلت شعور لا يحكى ولا يخرج على ورق ، شعور لفني لفا، غلفني وحماني . فائض حب، سكن قلبي فائض دفيء..
وأنا المسكونة بقصص الجدات و الأجداد، وأنا التي تهوى القصص و تبحث عنها ...كنت أبحث عن قصة أخرى لتسند الروح، قصة مثل قصة نبيلة و نجاتي، قصة حلوة، فيها امرأة مطمئنة و رجل يفيض حب، فيها امرأة واثقة ورجل سند. وهل أجمل من قصص الحب ؟ وماذا تعني الحياة كلها ؟ كيف تحتمل دون قصة فيها امرأة مطمئنة محبة و رجل محب مطمئن. ...وبحثت عن القصص لأسمع قصص كثيرة، منها كانت حلوة ومنها مرة بمرارة العلقم.
" هل كان سندك و عامود البيت؟ "سألت عجوزا ذات يوم:
"آه يما قالت لي عامود البيت كان، حيطة مايلة كان بعيد عنك .. مالت عليه و على أهله" أضحك أنا و العجوز الى أن يأتي زوجها العجوز و نكتم ضحكاتنا.
قصص كثيرة مرت، أين أذهب بكل هذه القصص التي عرفت؟ قصص حلوة و أخرى مرة ، قصص مجروحة مشروخة مخدوشة و أخرى صافية كصفاء الماء، قصص مرة و أخرى سكر.
وأعود لقصة نبيلة و نجاتي التي حمت الروح ..عندما دخل الى رأسي كم كبير من النظريات و التحليلات ، كان يحلو لي أن أفسر قصة سعادة جدتي وجدي استنادا لهذه النظريات ...فتارة أدخل ماركس على القصة ليشرحها لي من زاوية القوانين المادية و وسائل الانتاج وفائض القيمة , وتارة أقحم على القصة نظريات الجندر و الدور الاجتماعي لتفسير القصة، لماذا فعلت هذا ؟وهل الفرح له أسباب أخرى سوى أن نبيلة كانت هادئة مطمئنة و نجاتي كان يفيض حبا؟ لما أحاول تفسير سبب السعادة ؟ لما أدخل على عذرية القصة مشرحة التحليل الاجتماعي والنفسي وأدواته ؟ انني أشفق على جمال القصة أن تزج فيها معاني التحليل النقسي و الاجتماعي . لكن ندرة القصص الحلوة (قلتها) جعلتني أبحث عن تفسير ما، هل تنجح قصة نبيلة و نجاتي في اجتياز معايير ماركس للعدالة الاجتماعية ؟هنا تنجح القصة من زاوية ما، اذ كان نجاتي يملك ما ينتج كما تمتلكه نبيلة ...هو ينتج ملابس وهي تنتج أكل البيت ويوزعونه بتساوي على كل العائلة. وهل تنجح القصة في أن تكون قصة سعيدة ضمن معايير الجندر؟ أي الدور الاجتماعي المرتبط بالجنس و أثره على العلاقات، هنا كانت الأدوار واضحة، هو سند البيت، ذلك الذي يحميه ماديا و معنويا و هي حلوة البيت، حاكورة البيت، تنتج عنبا و تطلي و أولاد ، كل منهم كان يعرف دوره جيدا ولم يكن يشعر أنه مغبون فيه أو أن مجهوده و ما يدخله على البيت أقل أو اكثر من الآخر. وهل تنجح قصة نبيلة ونجاتي استنادا الى الرؤيا الاسلامية؟ هنا هي سكنه و هو سكنها، وهنا جعل الله بينهم مودة ورحمة .

نيسان ـ نشر في 2015-12-08 الساعة 09:16

الكلمات الأكثر بحثاً