كيف تتخلى عن حزنك... بل كيف تحاول النسيان؟
نيسان ـ الدستور ـ نشر في 2025-01-25 الساعة 09:16
x
نيسان ـ عبد الغني صدوق/ الجزائر
ما أتعسها، تلك الكتابة البائسة التي لا زال الكُتّاب يخنقونها برغباتهم وتأويلاتهم المريضة.
فلنسع جميعًا إلى تخليص كتاباتنا منّا، كدليل دامغ على إثبات حريتنا نحن أيضًا. ولنناضل من أجل تحرير الكتابات الأخرى من ربقة المستثقفين والكَتَبة.
هذا اقتباس من كتاب الهوامش الكونية لصاحبه الأستاذ شرف الدين شكري الصادر عن دار ميم – الجزائر- من جزئه الأول العام 2014.
في عالم صاخب يتقدمّ بإيقاع سريع مولدًا في تقدّمه أفكارًا خبيثة وأخرى حميدة، تحنّ النّفس المفطورة على السلم والسلام إلى طبيعتها المجبولة عليها في غياهب الملكوت، في ذهنية المثقف العربي رؤى تجيز له أن يمدّ هذا العالم بالجمال النابع من الحنين إلى عيشة التنّعم بالجمال الموجود في الذاكرة والخيال، ولأنّ قوّة الأفكار المندفقة من الآخر قد ترغم الضعيف على الذوبان فيها إلى حد التّخلي عن الأفكار المطروحة في محيطه وهي الأولى بامتطاء ظُهور سُروده كلّها، نرى النتاج المحسوب على الثقافة في المحيط بدعامة الإعلام النائم في الشقاء يزداد تدهورًا، لأنّ المغلوب مولع بتقليد الغالب على قول عالم الاجتماع ابن خلدون، ولكننا نتوسّم الخير في هذا التدهور الذي سيعيش أوّج أيامه ليُعدم بسرعة، لإيماننا المطلق أنّ العُملة الغالية تبيد العُملة الرخيصة، ولإيماننا أنّ عامل الوقت هو الحَكم.
برغم القرف بمجرد الإطلالة على صفحة من إصدار مجدّه الإعلام الشقي، إلاّ أنّ التجربة جعلتنا نمضي إلى ما لا يمجدّه، فنجد في المسرودات المهمشّة ما يستحق القراءة.
وعندما نقول الاستحقاق، فنحن لا نلغي الآخر، كلّا، إنّما لكلّ عمل محاسنه ومساوئه، ثمّ أن المساوئ إنْ غيص فيها بمشرط لطيف، يمكن استئصالها بالمرّة، ولولا المساوئ ما ظلّ الجدل قائمًا، وهذا ما يلبس النّقد شرفًا والقراءة حرّية.
وإن كنّا قد أطلنا في الاستهلال، فلتعذرونا، لأنّ الرئة مملوءة، إذ لا بُدّ من تنفيسها كلمّا وجدنا فسحةً ومنصتين يستحملون بعض نفثاتنا.
في المنتصف رواية لـ(أسماء سنجاسني)، صادرة عن دار أحلام بالجزائر في طبعتها الأولى العام 2024، ولأن العيش مرغوب لا يكرهه إلّا يائس، يصارع الأبطال الزمن للفوز عليه دومًا، يبتغون الكمال، والكمال مستحيل، ولكن النفس خُلقتْ مريضة تظنّ شفاها في هواها، يستضعفها الزمن بأنواع الكدمات لعلّها تستفيق حينًا لترى النور الفاني المؤدي إلى النّور الأبدي، الأبطال في المنتصف شخوص مثلك ومثلي يجري عليهم القلم حتى النهاية، لذا تجدني أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، زكريا، أمينة، أحلام، فؤاد، الحاجة أمباركة المشعوذة، إيمان، الشخصية المحورية التي لا مفر من تعلق الذاكرة بها بعد القراءة. إنّ هؤلاء الأبطال يسلكون طرائق قددا باحثين عن ذواتهم القريبة من أوردتهم، ولكنّ القدر سابق لإرادتهم، يعيثون في مضارب الأنا طويلًا لينتهوا إلى اليقين، بعد التقديم وتخطي عتبة النّص يلقي بنا الراوي في الفكرة الرئيسة، إنّها تقنية الاستباق، وهي تقنية جميلة مصيدة لعديمي الصبر على التلقي، إذ يقول» في نظره ملء البطون يكفي لمنح المحبّة والاهتمام، لكن ملء البطون نصف حياة، والنصف لن يوصلنا إلى شيء».
في بعض المحاولات يوفق كُتّاب في عرض مادتهم من الوهلة الأولى ويخفق آخرون، يعود السبب إمّا إلى الخبرة وإمّا إلى الصدفة، ولا أظنني هنا أمام الصدفة، لأن الراوي مثخن بأعباء الشخوص، يريد أن يتخلّص من بعضها، يريد أن يشتبك قارئه مع نّصه باكرًا، يختار الأسئلة طمعًا وطُعمًا واستعطافًا؛ ليفوز بمتلقٍ يثمّن نصّه ويكتب أجوبة باطنية توسّع الآفاق، الرواية لم تكن أبدًا خلاصًا من العُقد المزمنة، إنما ستظل وظيفتها تفتيق الفكر والسعي نحو الامتلاء باليقين» متى تُدرك يا والدي أنّك بالنِصف تُعجِزُنا وتمنحُنا نصف فرحة... وأنصاف المباهج أحزان؟ إلى متى ستبقى غيمتُكَ الأنانية تحجُب جانِبنا المُشرق؟ إلى متى سيستمِرُّ ذوقُكَ بقتلِ أذواقِنا»؟
يقول الأستاذ ماجد صالح السامرائي في كتاب التقنية الروائية والتأويل المعرفي الصادر عن دار الفرقد في دمشق العام 2010 «في عملية النقد الأدبي للرواية لا يكون السؤال: ماذا كتب الروائي؟ بل كيف كتب روايته؟ ومن خلال»سؤال الكيفية» هذا يمكن بلوغ جوهر العملية الفنية لدى الكاتب.
ومعضلة روايتنا اليوم أنّ الحبّ والمال كانا المحركين لعجلاتها إلى الأمام، برغم القطيعة القائمة بينهما من البداية، توهجت جمرة الغَضى في كنفهما ولم تنطفئ حتى النهاية، ذلك ما يجعل المتلقي في شوق للحل في كلّ فصل، والملاحظ أنّ البطل الملذوع أثناء وصفه وما يحمل من علامات، متغافل عن ذكر اسمه وقد سُوِّدتْ بالسرّد صفحة، وهو أخ للبطلة المحورية، بطل خالٍ من المشاعر بطل ناموسه المادة، بطل فاقد للثقة في أي كان، إنّها تربية الأب المغشوشة، ولكي نصعد دروجًا في الرواية ونستبين حدثًا متخيّلًا قبل وقوعه نقرأ بهذا الصدد « فمن تربّيه على الأنانية وعدم الثقة، مستحيل أن يكمل معك الطريق، مستحيل، سيتركك في منتصفه، سيكون أول من يخذلك، أول من يكسرك..»
ولأن المتلقي يتوجس أنّ في النص شيئًا من سيرة الكاتب - ولو بسيطًا- مع أنّ هذا لا يعد قاعدة عامة، تفطنتّ الكاتبة إلى ذلك القارئ الضمني، واستطاعت أن تريحه من الوسوسة والبحث عن الأثر الذي ربما يفقده لذّة القراءة، بعثتْ هويتها كضيفة خفيفة، سكن لحضورها الضجيج الآني المتسلل من فجوة متعمّدة، لتسند إلى السارد مهمة الترحيب والعزل بين الكاتب والبطل في حوار لبق:
- ... أسماء سنجاسني في بيتي ولا أضيّفها؟ والله لو وجدت أثمن من القهوة لقدّمته لك.
- أخجلتني
- كيف هي قهوتك؟
كان ولا زال التناص - لا التلاص - ظاهرة صحيّة في الأدب، تنم عن اطلاع ورغبة في تزيين النتاج الجديد بتجارب المبدعين الفضلاء، لا سيما أن سباقًا محمومًا بات جاريًا بين العدائين في الشعر الذين انتقلوا فرادى وجماعات إلى المنافسة في الرواية:
«لا شيءَ يُعْجبُني»
يقول مسافرٌ في الباصِ – لا الراديو
ولا صُحُفُ الصباح، ولا القلاعُ على التلال
أريد أن أبكي
هذا مطلع قصيدة للراحل محمود درويش، تداعتْ من ذخيرة المبدعة كلمة منثورة في ثنايا المتن، ولعلّها نُثرت بفعل الرنين الذي بثّه الدرويش في الأذان التي هيأها لإفراغ شحنة التشكي إلى حد البكاء، سخط مسافر الصباح الذي من الأحرى أن يكون منشرحًا بنسمة الصباح، فنجد في المنتصف محاكاة تلقائية في الجمل التالية، « إيمان: بصراحة... يعجبني، لكن لا شيء فيه يشبهني، لا أدري إن كان حقًا يعجبني أم يعجبني اهتمامه.
- يتذمر على أمي دائما لا شيء يعجبه.
إن الحقيقة المثلى هي الفناء، لذا لا أحد يجرؤ على الحقيقة، إذِ الأشياء والأفكار نسبية لا تثبت إطلاقًا، متغيرة بتغير المعطيات، تتناغم مع مواضيع الساعة، لكن الإنسان العائش في حلقة مفرغة غالبًا ما يأبى التغيير، لأنّه متعود على مجابهة أيامه بطريقة روتينية يصعب الفكاك منها، لأنه يرى في محاولة التغيير خسارة فادحة، يقف في المنتصف متطلعًا إلى معجزة بنفس المعطيات القديمة.
- تدرين... أظنُّ أنّ والدنا ارتكب شيئًا ما في الماضي فصعب عليه التجاوز، وفي الوقت نفسه كبرياؤه يمنعه من الرجوع لإصلاح ما ارتكب، لذلك هو الآن واقف في المنتصف يترنح لا هو ذاهب ولا هو راجع.
يخسر زكريا كلّ شيء قبل قفل النّص، المادة المعبودة في ناموسه ماتت في منتصف الليل، في عيد مولده قُدّام حشد غفير، أُغدقت عليه ليلتذاك هدايا ثمينة، يقضى علي صديقه وشريكه أحمد في محفل بهيج، بألف دينار، ألف دينار جزائري التي باع بها صديقه ذات يوم على طاولة القمار، يبرّح بها كهدية غالية، يُصفّي بها الحساب.
وعلى العموم، في المنتصف بديعة سلسة الأسلوب، مؤنسة المجلس، محكمة البناء، ببساطة، لأنها مقتبسة من الواقع. ونحن ندرك أنّنا لا نحيا في الحياة بل نموت فيها.
ما أتعسها، تلك الكتابة البائسة التي لا زال الكُتّاب يخنقونها برغباتهم وتأويلاتهم المريضة.
فلنسع جميعًا إلى تخليص كتاباتنا منّا، كدليل دامغ على إثبات حريتنا نحن أيضًا. ولنناضل من أجل تحرير الكتابات الأخرى من ربقة المستثقفين والكَتَبة.
هذا اقتباس من كتاب الهوامش الكونية لصاحبه الأستاذ شرف الدين شكري الصادر عن دار ميم – الجزائر- من جزئه الأول العام 2014.
في عالم صاخب يتقدمّ بإيقاع سريع مولدًا في تقدّمه أفكارًا خبيثة وأخرى حميدة، تحنّ النّفس المفطورة على السلم والسلام إلى طبيعتها المجبولة عليها في غياهب الملكوت، في ذهنية المثقف العربي رؤى تجيز له أن يمدّ هذا العالم بالجمال النابع من الحنين إلى عيشة التنّعم بالجمال الموجود في الذاكرة والخيال، ولأنّ قوّة الأفكار المندفقة من الآخر قد ترغم الضعيف على الذوبان فيها إلى حد التّخلي عن الأفكار المطروحة في محيطه وهي الأولى بامتطاء ظُهور سُروده كلّها، نرى النتاج المحسوب على الثقافة في المحيط بدعامة الإعلام النائم في الشقاء يزداد تدهورًا، لأنّ المغلوب مولع بتقليد الغالب على قول عالم الاجتماع ابن خلدون، ولكننا نتوسّم الخير في هذا التدهور الذي سيعيش أوّج أيامه ليُعدم بسرعة، لإيماننا المطلق أنّ العُملة الغالية تبيد العُملة الرخيصة، ولإيماننا أنّ عامل الوقت هو الحَكم.
برغم القرف بمجرد الإطلالة على صفحة من إصدار مجدّه الإعلام الشقي، إلاّ أنّ التجربة جعلتنا نمضي إلى ما لا يمجدّه، فنجد في المسرودات المهمشّة ما يستحق القراءة.
وعندما نقول الاستحقاق، فنحن لا نلغي الآخر، كلّا، إنّما لكلّ عمل محاسنه ومساوئه، ثمّ أن المساوئ إنْ غيص فيها بمشرط لطيف، يمكن استئصالها بالمرّة، ولولا المساوئ ما ظلّ الجدل قائمًا، وهذا ما يلبس النّقد شرفًا والقراءة حرّية.
وإن كنّا قد أطلنا في الاستهلال، فلتعذرونا، لأنّ الرئة مملوءة، إذ لا بُدّ من تنفيسها كلمّا وجدنا فسحةً ومنصتين يستحملون بعض نفثاتنا.
في المنتصف رواية لـ(أسماء سنجاسني)، صادرة عن دار أحلام بالجزائر في طبعتها الأولى العام 2024، ولأن العيش مرغوب لا يكرهه إلّا يائس، يصارع الأبطال الزمن للفوز عليه دومًا، يبتغون الكمال، والكمال مستحيل، ولكن النفس خُلقتْ مريضة تظنّ شفاها في هواها، يستضعفها الزمن بأنواع الكدمات لعلّها تستفيق حينًا لترى النور الفاني المؤدي إلى النّور الأبدي، الأبطال في المنتصف شخوص مثلك ومثلي يجري عليهم القلم حتى النهاية، لذا تجدني أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، زكريا، أمينة، أحلام، فؤاد، الحاجة أمباركة المشعوذة، إيمان، الشخصية المحورية التي لا مفر من تعلق الذاكرة بها بعد القراءة. إنّ هؤلاء الأبطال يسلكون طرائق قددا باحثين عن ذواتهم القريبة من أوردتهم، ولكنّ القدر سابق لإرادتهم، يعيثون في مضارب الأنا طويلًا لينتهوا إلى اليقين، بعد التقديم وتخطي عتبة النّص يلقي بنا الراوي في الفكرة الرئيسة، إنّها تقنية الاستباق، وهي تقنية جميلة مصيدة لعديمي الصبر على التلقي، إذ يقول» في نظره ملء البطون يكفي لمنح المحبّة والاهتمام، لكن ملء البطون نصف حياة، والنصف لن يوصلنا إلى شيء».
في بعض المحاولات يوفق كُتّاب في عرض مادتهم من الوهلة الأولى ويخفق آخرون، يعود السبب إمّا إلى الخبرة وإمّا إلى الصدفة، ولا أظنني هنا أمام الصدفة، لأن الراوي مثخن بأعباء الشخوص، يريد أن يتخلّص من بعضها، يريد أن يشتبك قارئه مع نّصه باكرًا، يختار الأسئلة طمعًا وطُعمًا واستعطافًا؛ ليفوز بمتلقٍ يثمّن نصّه ويكتب أجوبة باطنية توسّع الآفاق، الرواية لم تكن أبدًا خلاصًا من العُقد المزمنة، إنما ستظل وظيفتها تفتيق الفكر والسعي نحو الامتلاء باليقين» متى تُدرك يا والدي أنّك بالنِصف تُعجِزُنا وتمنحُنا نصف فرحة... وأنصاف المباهج أحزان؟ إلى متى ستبقى غيمتُكَ الأنانية تحجُب جانِبنا المُشرق؟ إلى متى سيستمِرُّ ذوقُكَ بقتلِ أذواقِنا»؟
يقول الأستاذ ماجد صالح السامرائي في كتاب التقنية الروائية والتأويل المعرفي الصادر عن دار الفرقد في دمشق العام 2010 «في عملية النقد الأدبي للرواية لا يكون السؤال: ماذا كتب الروائي؟ بل كيف كتب روايته؟ ومن خلال»سؤال الكيفية» هذا يمكن بلوغ جوهر العملية الفنية لدى الكاتب.
ومعضلة روايتنا اليوم أنّ الحبّ والمال كانا المحركين لعجلاتها إلى الأمام، برغم القطيعة القائمة بينهما من البداية، توهجت جمرة الغَضى في كنفهما ولم تنطفئ حتى النهاية، ذلك ما يجعل المتلقي في شوق للحل في كلّ فصل، والملاحظ أنّ البطل الملذوع أثناء وصفه وما يحمل من علامات، متغافل عن ذكر اسمه وقد سُوِّدتْ بالسرّد صفحة، وهو أخ للبطلة المحورية، بطل خالٍ من المشاعر بطل ناموسه المادة، بطل فاقد للثقة في أي كان، إنّها تربية الأب المغشوشة، ولكي نصعد دروجًا في الرواية ونستبين حدثًا متخيّلًا قبل وقوعه نقرأ بهذا الصدد « فمن تربّيه على الأنانية وعدم الثقة، مستحيل أن يكمل معك الطريق، مستحيل، سيتركك في منتصفه، سيكون أول من يخذلك، أول من يكسرك..»
ولأن المتلقي يتوجس أنّ في النص شيئًا من سيرة الكاتب - ولو بسيطًا- مع أنّ هذا لا يعد قاعدة عامة، تفطنتّ الكاتبة إلى ذلك القارئ الضمني، واستطاعت أن تريحه من الوسوسة والبحث عن الأثر الذي ربما يفقده لذّة القراءة، بعثتْ هويتها كضيفة خفيفة، سكن لحضورها الضجيج الآني المتسلل من فجوة متعمّدة، لتسند إلى السارد مهمة الترحيب والعزل بين الكاتب والبطل في حوار لبق:
- ... أسماء سنجاسني في بيتي ولا أضيّفها؟ والله لو وجدت أثمن من القهوة لقدّمته لك.
- أخجلتني
- كيف هي قهوتك؟
كان ولا زال التناص - لا التلاص - ظاهرة صحيّة في الأدب، تنم عن اطلاع ورغبة في تزيين النتاج الجديد بتجارب المبدعين الفضلاء، لا سيما أن سباقًا محمومًا بات جاريًا بين العدائين في الشعر الذين انتقلوا فرادى وجماعات إلى المنافسة في الرواية:
«لا شيءَ يُعْجبُني»
يقول مسافرٌ في الباصِ – لا الراديو
ولا صُحُفُ الصباح، ولا القلاعُ على التلال
أريد أن أبكي
هذا مطلع قصيدة للراحل محمود درويش، تداعتْ من ذخيرة المبدعة كلمة منثورة في ثنايا المتن، ولعلّها نُثرت بفعل الرنين الذي بثّه الدرويش في الأذان التي هيأها لإفراغ شحنة التشكي إلى حد البكاء، سخط مسافر الصباح الذي من الأحرى أن يكون منشرحًا بنسمة الصباح، فنجد في المنتصف محاكاة تلقائية في الجمل التالية، « إيمان: بصراحة... يعجبني، لكن لا شيء فيه يشبهني، لا أدري إن كان حقًا يعجبني أم يعجبني اهتمامه.
- يتذمر على أمي دائما لا شيء يعجبه.
إن الحقيقة المثلى هي الفناء، لذا لا أحد يجرؤ على الحقيقة، إذِ الأشياء والأفكار نسبية لا تثبت إطلاقًا، متغيرة بتغير المعطيات، تتناغم مع مواضيع الساعة، لكن الإنسان العائش في حلقة مفرغة غالبًا ما يأبى التغيير، لأنّه متعود على مجابهة أيامه بطريقة روتينية يصعب الفكاك منها، لأنه يرى في محاولة التغيير خسارة فادحة، يقف في المنتصف متطلعًا إلى معجزة بنفس المعطيات القديمة.
- تدرين... أظنُّ أنّ والدنا ارتكب شيئًا ما في الماضي فصعب عليه التجاوز، وفي الوقت نفسه كبرياؤه يمنعه من الرجوع لإصلاح ما ارتكب، لذلك هو الآن واقف في المنتصف يترنح لا هو ذاهب ولا هو راجع.
يخسر زكريا كلّ شيء قبل قفل النّص، المادة المعبودة في ناموسه ماتت في منتصف الليل، في عيد مولده قُدّام حشد غفير، أُغدقت عليه ليلتذاك هدايا ثمينة، يقضى علي صديقه وشريكه أحمد في محفل بهيج، بألف دينار، ألف دينار جزائري التي باع بها صديقه ذات يوم على طاولة القمار، يبرّح بها كهدية غالية، يُصفّي بها الحساب.
وعلى العموم، في المنتصف بديعة سلسة الأسلوب، مؤنسة المجلس، محكمة البناء، ببساطة، لأنها مقتبسة من الواقع. ونحن ندرك أنّنا لا نحيا في الحياة بل نموت فيها.