اتصل بنا
 

مخطوطة لغوية أدبية تنشر للمرة الأولى

نيسان ـ الدستور ـ نشر في 2025-01-31 الساعة 11:17

x
نيسان ـ إبراهيم خليل
تعد المقامات نوعا أدبيا من الأنواع التي درست معالمها، وطُمست آثارُها، ولم يتبق منها سوى الاهتمام بما ورثه اللاحقون عن السابقين، فيقرؤونه، ويشرحونه، ويحللون ما يشرحون. فهذا يقف عند المفردات، وذاك عند المحسنات، من بديع وبيان، ومن أضرب المعاني، ومشكلات النحو والإعراب. ومن الدارسين من يهتم بأصولها، ومن هو أول من كتبها. فيختلفون بين ابن دريد، والتنوخي، والبديع، وبعضهم يهتمون بمآلاتها، وانتشارها في المشرق والمغرب، وتأثر الأدب الفارسي بها، وكذلك الأدب العبري. ومن الدارسين من يؤكد تأثيرها في أدب الشطار والصعاليك الإسبان، وشيوع نموذج الكِدْية في قصص البيكارسك على رأي المستشرق جيمز مونرو Monroe الذي صنف في ذلك كتابا قيما بعنوان The Art’ of Badi’ Az-Zaman al-Hamadani As Picaresque Narrative عربه الراحل خليل أبو رحمة بالعنوان مقامات بديع الزمان الهمذاني وقصص البيكارسك، ونشرته جامعة اليرموك 1995(1).
والحريري (446- 516هـ) أحد أمراء البيان في القرن الخامس الهجري وأوائل السادس، عُرف بما أثر عنه من مقامات اتسعت شهرتها اتساعا فاق التوقع. فقد ذكر أنه وقّع بخطه في بضعة أشهر من العام 514ه نحو 700 نسخة. وعكف ورّاقو بغداد على نسخ المقامات لشدة الطلب. وذُكر أن فريقا من علماء الأندلس وصل إلى بغداد للاطلاع عليها، والاستماع لها من المؤلف.
وفي ديباجة مقاماته الخمسين يعترف الحريري بريادة البديع هذا الباب، وتقدمه لاختراع هذا النوع من الآداب. وعنه أخذ اللاحقون، وهو منهم، يغترف من معينه، ويقتبس من رَخيّهِ، ومتينه، وقد حاكاه في أن نحل الرواية في المقامات للحارث بن همام، الذي يناظر عند البديع عيسى بن هشام، واتخذ من أبي زيد السروجي بطلا يتكرر في المقامات نظير أبي الفتح الإسكندري لدى الهمذاني. وقد ذكر هذا في تقديمه لها، غير أنه حاول أن يتفوق على البديع في الصنعة، فأفرط في التجنيس، وفي السجع، وفي الترادف، والمزاوجة، والإغراب في اللفظ في غير قليل من الأحيان، بحيث يصعُب فَهْمُ بعض ما يقوله الراوي. ففي مستهل المقامة الثالثة، وهي بعنوان «الدينار» يقول مفرطا في السجع والتجنيس: نظمنى وأخدانا لي نادٍ، لم يخِب فيه منادٍ، ولا كبا قدْحُ زنادٍ، ولا ذكت نار عنادٍ، فبينا نحن نتجاذب أطراف الأناشيد، ونتوارد طرف الأسانيد، إذ وقف بنا شخص عليه سَمَل، وفي مشيه قَزَل (عرج). وكثُر هذا في مقاماته كثرة دعت الكثيرين للاهتمام بشرحها، وتفسير غريبها، ومنهم شُمَيْم (بوزن عُمَيْر) الحلي(2)، وهذا لقبٌ عُرف به الأديب أبو الحسن، علي بن الحسن بن ثابت الحلّي المتوفى سنة 601 هـ.
الحلّي من هو؟
وعلى عادة المحقّقين، يعرفنا المحقق الفاضل د. محمد عايش بالحلي. فقد ولد ونشأ في الحلة، وغادرها إلى بغداد طلبا للعلم، ثم إلى بلاد الشام. واتصل بالسلطان يوسف بن أيوب – صلاح الدين – وامتدحه في غير قصيدة. وصنف فيه كتابا سماه «أُنس الجليس في التجنيس». وكانت له جولاتٌ في نصيبين، وديار بكر، وماردين، ونهل من المعارف السائدة في عصره. وبرع على نحو خاصٍّ بالنحو، ورواية الشعر، ونظمه، وشهد له تلاميذه بحسن أدائه، ومتانة نسْجه، في الخطب، والمواعظ، وأدب الرسائل بنوعيه؛ الديواني والإخواني.
ويذكر الدكتور عايش، نقلا عمَّن ترجموا له، وعنوا بأخباره، أن من بين شيوخه ابن الخشاب البغدادي المتوفى سنة 567هـ. وهو أحد أئمة البيان في عصره. ومنهم النحوي المعروف بمَلِكِ النحاة الحسن بن صافي بن عبدالله البغدادي المتوفى سنة 568هـ. وقد نوّه ياقوت الحموي في معجم الأدباء لأسلوب شُمَيْم الحلي المستحسن في النثر الأدبي. ومن تآليفه الجمَّة، ومصنفاته المهمّة، كتابه هذا في شرح مقامات الحريري الذي اختُلِف في عنوانه. فقد ذكر في بعض المصادر بعنوان «النُكَتُ المُقْحمات في شرح المقامات». وفي أخرى «النكت المُفْحِمات» لا المقحمات، وقيل في مصادر أخرى «المُعْجِمات» لا المقْحَمات، ولا المفحِمات. ويميل المحقّق، وحقَّ له هذا، للعنوان «النكت المفْحِمات في شرح المقامات». وهو العنوان الأكثر ملاءمة للمحتوى، والأكثر بعدًا عن التزيُّد الذي توحي به كلمة المقحمات، والتقيد بالدلالات الذي توحي به لفظة المعْجِمات.
الأوائل ومقامات الحريري:
والمعروف أن مقامات الحريري لا تسمو سموَّ مقامات البديع، فقد ُنظر إليها على الدوام بصفتها أدنى منزلة من تلك. إلا أنَّ القدماء اهتموا بها اهتمامهم بمقامات البديع. وقد أثنى عليها كل من ياقوت الحموي، وابن الصلاح في طبقات الشافعية، والقلقشندي في صبح الأعشى، وقال فيها الدُمْياطي -مؤلف المستفاد من ذيل تاريخ بغداد-: سارت مسير الشمس، وتلقاها الناس بالقبول. أما أبو محمد ابنُ الخشاب، فقد أخذ على الحريري أشياءَ تصدّى للرد عليها ابنُ برّي.
ومن أبرز شرّاحها، عدا شُمَيْم الحلي، ابن حميدة (550هـ) وتاج الدين المسعودي (584هـ) والخوارزمي المطرَّزي المتوفى سنة 610هـ وأبو البقاء العُكبري (616هـ) الذي اقتصر على شرح ما فيها من غريب الألفاظ. وقد شرحها أحمد بن عبد المؤمن المتوفى سنة 619هـ ثلاثة شروح. وشرحها أبو عبد الله ابن عبد القادر الرازي المتوفى سنة 681هـ والإمام الفقيه أبو الحسن القزويني المتوفى سنة 745هـ ولم يفُتْ المحقق أن يومئ لاتساع أفق المقامات، وتنقُّلَها بين الشرق والغرب، ومن الأدب العربي إلى الفارسي، والعبري، والأدب الأوروبي. فقد نقلت إلى كل من الإنجليزية، والألمانية، مثلما ذُكِـرَ في أعلام الزَرْكلي.
النحو والصرف:
وكغيره من شرّاح المقامات، يغلب على الحلي –مثلما يؤكد المحقق- العناية المفرطة بالألفاظ. فهو يذكر الكلمة أولا، ثم يردُّها -في الكثير من الأحيان- إلى جذرها الثلاثي ثانيا، وكثيرًا ما يذكر شاهدًا ينم على صحة الرد، إما من القرآن الكريم، أو من غيره، كالحديث النبوي الشريف، أو الشعر، وفي هذا الأخير لا يقتصر على شواهد عصر الاحتجاج، إذ لا يفتأ يورد شواهد من شعر أبي تمام والبحتري والمتنبي وغيرهم من المولّدين، والمتأخّرين. ولا يفَوّت الفرص السانحة لزيادة تستزاد في الشرح؛ كأن يدلي بخبر مستظرف، أو رأي مستطرف، أو قول مُسْتحْسَن مُسْتَلْطَف. وعلى الرغم من اعتماده الإيجاز، على سبيل الحقيقة لا المجاز، والاختصار، على سبيل التكثيف لا الاقتصار، إلا أنه لا يفتأ يتناسى ذلك مُطنبًا في بعض مسائل النحو الشائكة، والشائقة. فإذا مرَّ بكلمة تنطوي على مسألة من مسائل الخلاف، لم يذكرها الأنباريُّ في الإنصاف، استثارت شهيّته النحوية للجدل والملاحاة، والمناكفة والمداجاة. فتوقَّف إزاء ذلك، وأطال، ولج في الإجابةِ، والسؤال. كوقفته من كلمة (اللهمّ) وهي من التعبيرات المتداولة في العربية بمعنى: أدعو الله معتمدًا، أي أنّ فيها شيئا من معنى الدعاء، ولكنه لا يُسلِّم بهذا التفسير، وصحته، تسليما يغنى عن اللجاج، والحجاج. بل نجدُهُ يستوفي أقاويل النحاة، وما زعموه من مزاعم الرواة، عن الميم المشدَّدة التي هي عوضٌ عن (يا) المنادى. ثم يذكر ما رُويَ، ونُقل، عن الفرّاء من تخريج –أقربَ إلى التهريج- زاعمًا أنها في الأصل يا الله، أُمَّنا بخير. فلما كثُر تداول ذلك في كلامهم، وازداد في لغوهم، ألقوا الهمزة من أُمّنا، فاتصلت الميم لفظا بالهاء في الله، واختلطتا، فصارتا كالشيء الواحد. ثم يأتي بردّ النحاة على الفرّاء، وبيان ما فيه من فساد، يدعو/ لا للإنكار، بل للاستبعاد، ثم يستطرد طويلا عن عدم جواز الجمع بين الميم المشدّدة في اللهم و(يا) التي للنداء، فلا يسوغ القولُ: يا اللهمَّ، ولا يجوز قطعًا، وما رُوي شعرًا: (أقولُ: يا اللهمّ) ضرورة، والأرجح أنه من جملة ما اخترعه ظِرافُ النحويّين؛ إذ لا يُعرف له قائلٌ من القائلين.
أما عن موازنة بعضهم بين اللهم، ولاهِ ابن عمِّكَ، لذي الإصبع العدواني، من قوله:
لاهِ ابن عمكَ، لا أفْضَلْتَ في حَسَبٍ
عني، ولا أنت دياني.. فتخـــزوني
فهو استطراد آخر لا ضرورة له، ولا مزيّة فيه، مثلما لا يجد القارئ ضرورة للحديث عن نداءِ المعرَّف، مثل القول: أيها الرجل، إذ لا يقال يا الرجل، وجلُّ ما جاء في هذا السياق لا يعدو الفضولَ، غيرَ المقبول. وهو كالحديث عن وجوه الإعراب في: يا أيتها المرأة. إلخ..
وَيُشْبهُ هذا الحديث ما جاء عنده عن همزة أخْليْتُ، وأحمَدْتُ. وهي همزة زيدت للدلالة على وجدان الشيء على صفةٍ الفِعْل، كقولنا أكبرتُ الأمر، وأعظمتُه، أي وجدتُه عظيمًا، وكبيرًا.
تِبيان وتِلقاء:
وهذه أمثلة تكثر في ديباجة الكتاب، لا في شرحه للمقامة الأولى الصنعاوية. والشيء الآخر الذي يغلب على نهجه عنايته بتصريف اللفظ. فقد توقف عند كلمة (بيان) التي تلتها كلمة (تِبْيان) فذكر معنى البيان، ثم قال: والتبيانُ مصدر بيَّن تِبْيانا، ولم يأتِ في المصادر على وزن تِفْعال سوى تِبْيان، وتِلْقاء، وما عداهما بفتح تاء تَفْعال، لا كسرها، مثل: تَصْهال في قول الحارث بن حلزة اليشكري:
(أجمعوا أمرهم عِشاءً فلما/ أصْبَحوا أصبحتْ لهم ضوْضاءُ/ من منادٍ ومن مجيبٍ ومنْ تَصْهــالِ خيــلٍ خـــلال ذاكَ رُغـــــــاءُ)
فكلمة تَصْهال، بفتح التاء، لا بكسرها، كما في تِلقاء، وتِبيان. وهذا، وغيره، يشهدان على شدة عنايته بالصرف إلى جانب عنايته بالنحو، وبالمعجم، وهو لا يفتأ يحتج بآراء النحويين، واللغويين، وبأقوالهم من أمثال الفراء، والأخفش، والمبرد، وثعلب، وابن دريد، والمازني، وابن جني.
مزايا التحقيق:
وتحقيقُ المخطوطاتِ يحتاج، فضلا عن الخبرة بالخطوط، والمعرفة باللغة، وبالعصر الذي ينتمي له مؤلف المخطوط، وبالموضوع، فإنّ تحقيق كتاب في الفلاحة -مثلا- يختلف عن تحقيق كتاب في النحو، فكل منهما يحتاج لتخصص قريب منه، لصيق به. ولا بد من أن يطلع المحقق على ما يرد في المخطوط من إشاراتٍ، واقتباساتٍ، وأسماء مدن أو قرى أو قبائل، أو آيات، أو أحاديث، أو أمثال، وحكم مأثورة؛ فهذا كله يحتاج إلى ضبط، وتخريج؛ بذكر المصدر الذي تَسْهلُ العودة إليه للتأكد من صحّة الاقتباس. وهذا الجهد يعد جهدًا خارجيًا في التحقيق، والجهد الداخلي، وهو الأكثر أهمية، هو ضبط النص بالشكل التام، وتصحيح ما يعد، أو يُتكهَّن، أنه من باب التصحيف، أو التحريف، وتزويد النص بالإخراج الطباعي المتاح ليغدو الكتاب مشرقا قابلا للقراءة، والفهم، والاستيعاب، وتزويده بشروح الحوشيّ من اللفظ. والتعريف بالأعلام مع ضبطها بالحركات، وذكر المصادر التي يمكن الرجوع إليها لمعرفة المزيد عن كلِّ علم من الأعلام، إن لم يكن معروفًا، ولا مشهورًا. وهذا كله مما قام، ويقوم به المحقق الفاضل محمد عايش، علاوة على وصف المخطوط الذي يعتمده في التحقيق، ومقابلة ما يرد في الطبعة بالأصل غير المطبوع، ليكون القارئ مطمئنًا لما يقرأ، وأنّ وقته لا يذهب سُدىً، ولا تضيع منه الساعات هباءً منثورًا. ولا تفوتنا الإشارة لما يلزم التحقيق من إضافة فهارس دقيقة ينتفع بها القارئ، ومسرد لمصادر التحقيق، ومراجعه.
لهذا كله نسْعَدُ بتوجيه الشكر الجزيل، والامْتنان على هذا العطاء الجليل، والإرث النادِر الأصيل، الذي كشف لنا الدكتور عايش عنْه النِقاب، كشفا يغني الخزانة الأدبيّة بالكتابِ تِلْوَ الكتاب، بعد الذي حققه وأومأنا إليه من الاقتصار للصفدي، والرقم على البردة لابن الصايغ.(3)
الهوامش:
1.وقد صدر في نيف و200ص من القطع الكبير بمقدمة من المترجم مؤرخة في 1994 وإشارات مزيدة ذات فائدة.
2.صدر عن دار المنهاج، جدة، السعودية، ط1، 2024
3.انظر كتابنا: لغويات، ط1، عمان: دار الخليج، 2024 جـ 3، ص ص183 -199

نيسان ـ الدستور ـ نشر في 2025-01-31 الساعة 11:17

الكلمات الأكثر بحثاً