غرائبية الأشخاص والحكاية
نيسان ـ القدس العربي ـ نشر في 2025-02-05 الساعة 11:25
x
نيسان ـ كتب لي قارئ من السعودية، يسألني عن شخصيات كتبتها بغرابة، وهل من الممكن أن تكون هناك شخصيات شبيهة لها في الحياة العادية، أم لا؟ ولماذا يوجد أشخاص غريبون، وتوجد حكايات غريبة عند بعض الكتاب، بينما الحياة العادية منطقية، وتحمل معاني كثيرة يمكن كتابتها؟، وضرب القارئ مثلا بشخصية واحد يحمل جوالا من الحجارة على ظهره، ويتجول به، وواحدة تلتقط صورة داخل استوديو مع حمار؟ كنت كتبتهما داخل أحد النصوص.
السؤال ليس جديدا بالطبع، وأعني سؤال الغرابة والغرائبية، وكتابة الشخصيات غير السوية، أو التي فيها زوائد غير موجودة في الحياة العادية، ليس بدعة جديدة، لكن هو أولا أسلوب لدى بعض الكتاب، أعتقد أنهم ولدوا به، بمعنى أن الكتابة عندهم لا تحدث النشوة الكاملة لديهم، إلا بجعلها كتابة موازية للواقع، وليس كتابة واقعية صرفة، وفي أثناء قراءتك لرواية من روايات هؤلاء، تجد شيئا غير عادي حدث في منتصف الحكاية، مثلا، أحدهم يتمشى مع حبيبته في شارع هادئ، وفجأة يكتشف الحبيب أنه يمسك بيد نعجة، يفلتها ويحاول الهرب، وتلحق به وتسأله عن السبب في هروبه، وتكون هي الحبيبة نفسها التي رآها نعجة.
مثل هذه الكتابة لا يضع لها الكاتب تفسيرا، وإنما يتركها هكذا في سياق الحكاية الواقعية، ويعرف أنها ستحدث صدمة للقارئ، ما يلبث أن يفوق منها ليتابع الحكاية في مستواها الواقعي، أيضا حين تجد امرأة ريفية بعد هطول المطر، ملاكا يرتجف في فناء بيتها، كما في إحدى قصص ماركيز، فالقارئ سيندهش طبعا من هذه الواقعة، لكنه يتابعها كما يتابع قصة عادية، وتفقد إدهاشها بعد عدة سطور. وفي رواية مثل «بدرو برامو» لخوان رولفو، إحدى أوائل الكتابات في الواقعية السحرية، تجد الموتى يعيشون بطريقة عادية، ويتحركون في الفضاءات، من دون أن يترك لك الكاتب تفسيرا لشيء، هو يتركك متعثرا داخل حكايته، فإما أن تحبها وإما أن تعتبرها مجرد تخاريف. أيضا حين تقرأ لكاتب مثل نيل جايمان، فلا تتوقع أنك ستنجو بقصة عادية تدور أحداثها في البيوت العادية، والشوارع العادية، ويحركها البشر العاديون، هناك شيء خارق دائما، ربما تجده في بداية الحكاية، أو وسطها، أو تنتهي به الحكاية. وبالطبع قراءة مثل هذه التجارب تحتاج إلى قارئ يحبها، لا قارئا يبحث عن ملامح شارع عادي مليء بالبشر والصخب والحياة المتوازنة، أو شخوص يأكلون ويشربون ويثرثرون في أحوال الطقس، والوضع الاقتصادي، وهيمنة الديكتاتوريات، وأطفال يولدون ويكبرون ويشيخون من دون بهار مختلف يرش على طبخات حياتهم. وفي تجربتي الطويلة في كتابة الواقعية الغرائبية، لا أجد نفسي غريبا، ولا أعرف كيف أكتب واقعا صرفا صراحة، إنما هي طريقة ولدت بها، أن أتذوق العالم بطريقة موازية، وبالتالي الكتابة بطريقة موازية. لكن صراحة، الشخصيات الغريبة في كثير من الأحيان، ليست اختراعا صرفا من اختراعات الكاتب، إنما هي موجودة وسط المجتمع، وربما تعود الناس عليها جعلها عادية، وتتبع السياق العادي للحياة، ولا ينتبه لها إلا أشخاص قليلون، ومنهم بالطبع كتاب الرواية والشعراء، لأن هؤلاء لديهم إحساس مختلف، وينتبهون لكل التفاصيل التي تصادفهم.
وخلال عملي الطبي، صادفت هذه الشخصيات الغريبة بالفعل، واستوحيت بعضها في الكتابة، وأذكر هنا شخصية مراد الآسيوي، الذي كان عجوزا ربما في الثمانين، ويعمل صبيا، يقدم القهوة في أحد المجالس العربية، ولا يبدو غريبا أبدا لرواد ذلك المجلس، ولا لزملائه العاملين معه، والمقيمين معه في السكن، على الرغم من أنه يعمل وبيده مسجل كاسيت مكسور وبلا بطاريات، وعلى كتفه حقيبة من الجلد البني المقشر، كانت فارغة، ويضع على رأسه طاقية من الخرز الملون نسجها وحده، أيضا غالبا يرتدي فردة حذاء واحدة، مرة في الرجل اليمين، ومرة في الرجل اليسار، أنا التقطت تلك الغرابة الكبيرة، منذ المرة الأولى التي شاهدت فيها الرجل، وسألت أحد العاملين معه، فقال لي ببساطة، إن الرجل طبيعي جدا في أكله وشربه وجلوسه مع الناس، وهذا» استايل» خاص به.
أنا لن أعتبر ذلك مجرد» استايل»، ولكن يدعم كلامي في وجود الشخصيات الغريبة داخل المجتمع، من دون أن يفكر الناس في غرابتها. شخصية الرجل الذي يحمل كيسا مليئا بالحجارة على كتفه، التي تساءل عنها القارئ، لم أخترعها، وهو رجل صادفته حين كنت أعمل في السودان، رجل عادي، عامل في إحدى الشركات، وكان عضه كلب مرة، وعانى من مضاعفات العضة، والحقن تحت الجلد أيام المصل القديم، الذي كان أكثر من عشرين حقنة، فعبأ كيسا بالحجارة، وأصبح يحمله متنقلا به هكذا، هذا الرجل متزوج ولديه أبناء، وأهل يعيشون معه بعادية مطلقة، من دون إحساس بغرابته.
هناك شخصيات قد لا نعرفها كثيرا في مجتمعاتنا، على الرغم من أنني عرفت واحدا من قبل، وهي شخصيات القتلة المتسلسلين، أي الذين ينفذون عددا من جرائم القتل بنمط معين، مثل الذي يقتل النساء الشقراوات فقط، والذي يقتل العميان فقط، هؤلاء قد تكون لديهم عقد أو مبررات ما، لكن بعيدا عن نشاطهم الإجرامي هذا، ستجدهم عاديين جدا وسط مجتمع لا ينتبه لعيوب فيهم على الإطلاق، ولكن حين يكتبون في الروايات، سيبحث القارئ عن مبرر لسلوكهم، وهذا قد يمنحه الكاتب أو لا يمنحه.
في النهاية، كتابة الغرائبية، مشروعة، والذي لا يتذوقها غير مجبر على متابعتها طبعا، إنما قراءة غيرها وسط أساليب أخرى عديدة.
كاتب سوداني
السؤال ليس جديدا بالطبع، وأعني سؤال الغرابة والغرائبية، وكتابة الشخصيات غير السوية، أو التي فيها زوائد غير موجودة في الحياة العادية، ليس بدعة جديدة، لكن هو أولا أسلوب لدى بعض الكتاب، أعتقد أنهم ولدوا به، بمعنى أن الكتابة عندهم لا تحدث النشوة الكاملة لديهم، إلا بجعلها كتابة موازية للواقع، وليس كتابة واقعية صرفة، وفي أثناء قراءتك لرواية من روايات هؤلاء، تجد شيئا غير عادي حدث في منتصف الحكاية، مثلا، أحدهم يتمشى مع حبيبته في شارع هادئ، وفجأة يكتشف الحبيب أنه يمسك بيد نعجة، يفلتها ويحاول الهرب، وتلحق به وتسأله عن السبب في هروبه، وتكون هي الحبيبة نفسها التي رآها نعجة.
مثل هذه الكتابة لا يضع لها الكاتب تفسيرا، وإنما يتركها هكذا في سياق الحكاية الواقعية، ويعرف أنها ستحدث صدمة للقارئ، ما يلبث أن يفوق منها ليتابع الحكاية في مستواها الواقعي، أيضا حين تجد امرأة ريفية بعد هطول المطر، ملاكا يرتجف في فناء بيتها، كما في إحدى قصص ماركيز، فالقارئ سيندهش طبعا من هذه الواقعة، لكنه يتابعها كما يتابع قصة عادية، وتفقد إدهاشها بعد عدة سطور. وفي رواية مثل «بدرو برامو» لخوان رولفو، إحدى أوائل الكتابات في الواقعية السحرية، تجد الموتى يعيشون بطريقة عادية، ويتحركون في الفضاءات، من دون أن يترك لك الكاتب تفسيرا لشيء، هو يتركك متعثرا داخل حكايته، فإما أن تحبها وإما أن تعتبرها مجرد تخاريف. أيضا حين تقرأ لكاتب مثل نيل جايمان، فلا تتوقع أنك ستنجو بقصة عادية تدور أحداثها في البيوت العادية، والشوارع العادية، ويحركها البشر العاديون، هناك شيء خارق دائما، ربما تجده في بداية الحكاية، أو وسطها، أو تنتهي به الحكاية. وبالطبع قراءة مثل هذه التجارب تحتاج إلى قارئ يحبها، لا قارئا يبحث عن ملامح شارع عادي مليء بالبشر والصخب والحياة المتوازنة، أو شخوص يأكلون ويشربون ويثرثرون في أحوال الطقس، والوضع الاقتصادي، وهيمنة الديكتاتوريات، وأطفال يولدون ويكبرون ويشيخون من دون بهار مختلف يرش على طبخات حياتهم. وفي تجربتي الطويلة في كتابة الواقعية الغرائبية، لا أجد نفسي غريبا، ولا أعرف كيف أكتب واقعا صرفا صراحة، إنما هي طريقة ولدت بها، أن أتذوق العالم بطريقة موازية، وبالتالي الكتابة بطريقة موازية. لكن صراحة، الشخصيات الغريبة في كثير من الأحيان، ليست اختراعا صرفا من اختراعات الكاتب، إنما هي موجودة وسط المجتمع، وربما تعود الناس عليها جعلها عادية، وتتبع السياق العادي للحياة، ولا ينتبه لها إلا أشخاص قليلون، ومنهم بالطبع كتاب الرواية والشعراء، لأن هؤلاء لديهم إحساس مختلف، وينتبهون لكل التفاصيل التي تصادفهم.
وخلال عملي الطبي، صادفت هذه الشخصيات الغريبة بالفعل، واستوحيت بعضها في الكتابة، وأذكر هنا شخصية مراد الآسيوي، الذي كان عجوزا ربما في الثمانين، ويعمل صبيا، يقدم القهوة في أحد المجالس العربية، ولا يبدو غريبا أبدا لرواد ذلك المجلس، ولا لزملائه العاملين معه، والمقيمين معه في السكن، على الرغم من أنه يعمل وبيده مسجل كاسيت مكسور وبلا بطاريات، وعلى كتفه حقيبة من الجلد البني المقشر، كانت فارغة، ويضع على رأسه طاقية من الخرز الملون نسجها وحده، أيضا غالبا يرتدي فردة حذاء واحدة، مرة في الرجل اليمين، ومرة في الرجل اليسار، أنا التقطت تلك الغرابة الكبيرة، منذ المرة الأولى التي شاهدت فيها الرجل، وسألت أحد العاملين معه، فقال لي ببساطة، إن الرجل طبيعي جدا في أكله وشربه وجلوسه مع الناس، وهذا» استايل» خاص به.
أنا لن أعتبر ذلك مجرد» استايل»، ولكن يدعم كلامي في وجود الشخصيات الغريبة داخل المجتمع، من دون أن يفكر الناس في غرابتها. شخصية الرجل الذي يحمل كيسا مليئا بالحجارة على كتفه، التي تساءل عنها القارئ، لم أخترعها، وهو رجل صادفته حين كنت أعمل في السودان، رجل عادي، عامل في إحدى الشركات، وكان عضه كلب مرة، وعانى من مضاعفات العضة، والحقن تحت الجلد أيام المصل القديم، الذي كان أكثر من عشرين حقنة، فعبأ كيسا بالحجارة، وأصبح يحمله متنقلا به هكذا، هذا الرجل متزوج ولديه أبناء، وأهل يعيشون معه بعادية مطلقة، من دون إحساس بغرابته.
هناك شخصيات قد لا نعرفها كثيرا في مجتمعاتنا، على الرغم من أنني عرفت واحدا من قبل، وهي شخصيات القتلة المتسلسلين، أي الذين ينفذون عددا من جرائم القتل بنمط معين، مثل الذي يقتل النساء الشقراوات فقط، والذي يقتل العميان فقط، هؤلاء قد تكون لديهم عقد أو مبررات ما، لكن بعيدا عن نشاطهم الإجرامي هذا، ستجدهم عاديين جدا وسط مجتمع لا ينتبه لعيوب فيهم على الإطلاق، ولكن حين يكتبون في الروايات، سيبحث القارئ عن مبرر لسلوكهم، وهذا قد يمنحه الكاتب أو لا يمنحه.
في النهاية، كتابة الغرائبية، مشروعة، والذي لا يتذوقها غير مجبر على متابعتها طبعا، إنما قراءة غيرها وسط أساليب أخرى عديدة.
كاتب سوداني