الكائن بين جحيم اللغة و جحيم الواقع
نيسان ـ نشر في 2025-02-21 الساعة 09:44
x
نيسان ـ نظريا، تتشكل الأنساق اللغوية، على ضوء الهزات التاريخية الكبرى، أو اللاتاريخية التي تعصف بسكونيتها، محدثة فيها تلك التشققات الفادحة، التي تسمح لك برؤية ما كان، إلى حين، مسكوتا عنه وغائبا عن دائرة اهتمامك. وتحديدا تشرع الأنساق الجديدة في الانبناء، مفسحة المجال لتنامي طرائق متنوعة للقول، والفعل. الشيء الذي يجعلها قابلة لإذكاء محارق الكارثة، وفي الوقت ذاته، قادرة على الإيهام بدوام الطمأنينة الكاذبة. من هنا يمكن القول إن اللغة تمتلك عدة مدونات، تؤثر في تعدد وظائفها، ومقاماتها وأنساقها، وبفعل هذه المدونات، سيكون بوسعك أن تكون في المكان أو في انعدامه، أي أن تنتسب إلى أتون تلك النار الحارقة، أو تنأى بذاتك جهة الحلم، أن تحظى باستلامك إلى ريح العبث، أو إلى دوامة الجنون.
ولربما آثرت خلافا لذلك أن تنحرف تماما باتجاه زاوية اغترابك، حيث لا أحد هناك سواك. ذلك أن تكسير القشرة الخارجية للغة، هو الذي يسمح بمعاينة ما يتناحر في دواخلها من إرادات ومواقف واختيارات. وبالتالي فإن تشقيق لِحَاءِ القول، هو الذي يسمح برؤية ما يتخلَّله، ويحتجب فيه من مغالطات، ومن حقائق. فاللغة جاهزة باستمرار لممارسة كل المهام المقبولة والمحظورة في آن، لكونها ذلك الفضاء اللانهائي، الذي توجد فيه ثنائيات الخلاص واللعنة في آن، وهي جاهزيةٌ تشجع القتلة على تحميلها بكل ما تختزنه نواياهم المبيَّتَةُ من جرائم.
وفي ذلك تحديدا تكمًن خطورتها، وقد غدت دون سابق إنذار، جاهزة للتواطؤ المكشوف مع الشر. فما من سلطة إلا وتحاول الاستفراد باللغة كي تُملي عليها قوانينها، وآليات اشتغالها، محَمِّلة إياها ما لا طاقة لها بحمله، ودافعة بها في الاتجاه المتماهي مع انتظاراتها.
ومن المؤكد أن الأمر يصبح أكثر ملحاحية، حينما يتعلق بخطاب صادر عن سلطة تمارس حضورها بقوة هيمنتها السياسية، العسكرية والاقتصادية، أي تلك التي تمتلك القدرة على تصنيع وإقرار واقع لغوي، مُسْتوفٍ لشروط البرهنة والاستدلال. ورغم أن هذا الواقع يكون في حكم المؤجل، إلا أن تعامل لغاتِ المتحكمين فيه، بوصفه واقعا مُحَيَّناً وساري المفعول، يسمح لهم بممارسة كل ما تطاله همجيتهم من تجاوزات، في انتظار لحظة تماهيه الفعلي مع النسق اللغوي الذي ينذرون بويلاته.
ضمن هذا السياق تحديدا، يمكن الحديث عن حرب لغوية، تدور رحاها بين الفرقاء المؤهلين أكثر من غيرهم، لتكريس وفرض نسق مقولاتي معيَّن، يعلو ولا يُعلى عليه. فمَنْ ترتفع سومةُ أسهمه في بورصة المَقُولات والأحكام والتوصيفات، هو المؤهل دون غيره لترويج مقولاته وتعليماته ومنهاجياته، في تصنيف وتأطير الانتماءات الحضارية، والمرجعيات العقدية والسلوكية للشعوب. وضمن هذه المنطلقات أيضا، يمكن القول، إن الحديث عن اللغة، هو حديث عن الصيغة التي يتموضع فيها الكائن داخل المضايق الملتبسة لوجوده الغامض. فلا مكان للكائن داخل هذا العالم، إلا بمقدار ما يمتلكه من وعي بأهمية الدور الذي تضطلع به اللغة في تصريفها لانشغالاته الحياتية والفكرية. وحينما يكون الكائن ذاتُه بصدد تحيين ميكانيزمات القول، فذلك يعني أنه بصدد بلورة رؤية محددة، تنسجم مع المواقف التي يقتضيها واقع السياق الموجود فيه. وبالتالي، فإن غياب سؤال اللغة، هو عمليا غياب الحد الأدنى من الوعي بجدوى حضور الكائن أو غيابه، داخل السياق أو خارجه.
إن القدرة على التفكير وعلى الفعل، تكون ناتجة عن قدرة الذات على القول. ومهما حاولت بعض السرديات الفلسفية الكبرى التركيز على سلطة الفكر والتفكير، إلا أن المبادرة الحقيقية تعود مبدئيا لسلطة القول. فمقولة «أنا أتكلم فأنا موجود» هي أكثر إجرائية من مقولة «أنا أفكر فأنا موجود»، بما يعنيه التكلم هنا من إرادة موضوعية لتكريس فِكْر، وإقرار ممارسة سلوكية معينة. فالمقاربة الفكرية لإشكال معرفي ما، الهادفة إلى تحيين وتوصيل خلاصاته، لا تتحقق إلا عبر اشتغال الأنساق اللغوية، التي نهتدي عبرها إلى مقصدية الخطاب الفكري. مع العلم أن إنجاز مهام التفكير ككل، حول إشكال معرفي ما، يتم عمليا عبر وضعه على مِحَكِّ خطابات فكرية محايثة، سبق لها هي أيضا أن كرست سلطة حضورها، على ضوء تميزها بكفايتها اللغوية. وبالتالي، فإن المفهوم الحالي للغة، لم يعد كما سبق لهيدغر أن توهمه، باعتبارها «مسكنا للكائن»، إلا بالنسبة لأصفياء المحفل، الذي تنكتب فيه النصوص الروحية الكبيرة والعالية. أما خارج هذا المحفل، فالهيمنة المطلقة تظل حكرا على سلطة المتموضعين في مركزية القول، ما يجعل من اللغة فردوسا بالنسبة لهؤلاء، وجحيما لغيرهم. فمن هذا المنطلق تختلف وِجهة الشاعر عن وِجهة الفيلسوف، اختلافهما معا عن وجهة المرابين والقتلة. فلكل مسكنه اللغوي والواقعي الخاص به، حيث يتسع الفرق بين التعتيم والإضاءة. كما تطول المسافة بين المسارات المفضية إلى الانعتاق والطمأنينة، ونقيضتها المفضية حتما إلى الجحيم.
وفي ظل الرهاب الحضاري الحالي، المستبد بالشعوب المغلوبة على أمرها، فإن نزوعات التوظيف التحريفي لمعجزة اللغة، تتلذذ بزرع سمومها في فضاءات المنتظم الدولي قاطبة، ونعني به التوظيف المُبيَّتَ، الذي يُجٌبر اللغة على التنكر لمجموع ما يتخلل أنساقها من قيم وتشريعات وتعاليم، كي تكون جاهزة للتواطؤ مع الشيطان، في شرعنته لجرائم الإبادة، بما يرافقها من وحشية التطهير العرقي. شرعنةٌ، يتعذر فيها على اللغات المضطَهَدة الطعن في مصداقيتها، مهما بلغ توثيقها السمعي والبصري لهذه الجرائم والمجازر، من دقة وموضوعية. وهنا تحضر خطورة اللعب بإجرائية التأويل، الذي يتدخل بشكل سافر، قصد إضفاء الشرعية على أضاليله اللٌغْوية، حيث تتفاقم جرائم الإيمان بالقتل ولا شيء عداه، مرددة بفصيح حناجرها المُدَوِّية؛ اقتُل من أجل أن تكون.
وبالنظر إلى الخصوصية التعبيرية التي تتميز بها كل لغة عن غيرها، فإن حروب التأويل المُغْرضة، ستظل مفتوحة على مصاريعها الغامضة، حيث سيكون من الصعب الحديث فلسفيا عما هو جوهري في اللغة، ما دام التأويل يحتفظ بأسبقيته الإجرائية في تحديد دلالتها على أرضية إرادة القوة المتحكمة سلفا في السياق. وإذا كان لنا أن نغامر بتوصيف هذا الجوهر، فهو تعدده المفضي إلى ذلك الالتباس المُمِضِّ، الذي يتشَظَّى معه أي خطاب معرفي، يدَّعي إحاطته المحكمة، والشاملة بهوية الجوهر اللغوي. هكذا سيتبين لنا وبالملموس، كيف تكشف اللغة عن ضراوتها المطلقة في المنعطفات التاريخية الكبرى، حيث يتصاعدُ التقتيل المادي واللغوي، لتندلع الحرب النارية على الجبهات العسكرية، بحجم اندلاعها لغويا على الجبهات الإعلامية. ثم هكذا يتدخل كل منهما، من أجل إصلاح ما يتعرض له الآخر من أعطاب. فالقتل يُصلح أعطاب اللغة المساهمة كي تستعيد عنفها، واللغة العدوانية ترمم كسور القتل كي يصبح أشد فتكا. وهنا يتدخل مفهوم التحريف، الذي يأخذ شكل تأويل موغل في المكر والخبث. وهنا أيضا، يتم كبح جماح اللغة خشية أن تقول غير ما تخطط له الإرادات المتسلطة الممسكة بزمام الإبادات.. علما أن اللعبة التحريفية تظل حاضرة باستمرار، حيث تكون الشعوب المقهورة سياسيا وحضاريا، عرضة دائمة لمكر مقالب اللعبة ذاتها، إما من قِبَلِ اللغة، أو من قِبَل الواقع.
شاعر وكاتب من المغرب
ولربما آثرت خلافا لذلك أن تنحرف تماما باتجاه زاوية اغترابك، حيث لا أحد هناك سواك. ذلك أن تكسير القشرة الخارجية للغة، هو الذي يسمح بمعاينة ما يتناحر في دواخلها من إرادات ومواقف واختيارات. وبالتالي فإن تشقيق لِحَاءِ القول، هو الذي يسمح برؤية ما يتخلَّله، ويحتجب فيه من مغالطات، ومن حقائق. فاللغة جاهزة باستمرار لممارسة كل المهام المقبولة والمحظورة في آن، لكونها ذلك الفضاء اللانهائي، الذي توجد فيه ثنائيات الخلاص واللعنة في آن، وهي جاهزيةٌ تشجع القتلة على تحميلها بكل ما تختزنه نواياهم المبيَّتَةُ من جرائم.
وفي ذلك تحديدا تكمًن خطورتها، وقد غدت دون سابق إنذار، جاهزة للتواطؤ المكشوف مع الشر. فما من سلطة إلا وتحاول الاستفراد باللغة كي تُملي عليها قوانينها، وآليات اشتغالها، محَمِّلة إياها ما لا طاقة لها بحمله، ودافعة بها في الاتجاه المتماهي مع انتظاراتها.
ومن المؤكد أن الأمر يصبح أكثر ملحاحية، حينما يتعلق بخطاب صادر عن سلطة تمارس حضورها بقوة هيمنتها السياسية، العسكرية والاقتصادية، أي تلك التي تمتلك القدرة على تصنيع وإقرار واقع لغوي، مُسْتوفٍ لشروط البرهنة والاستدلال. ورغم أن هذا الواقع يكون في حكم المؤجل، إلا أن تعامل لغاتِ المتحكمين فيه، بوصفه واقعا مُحَيَّناً وساري المفعول، يسمح لهم بممارسة كل ما تطاله همجيتهم من تجاوزات، في انتظار لحظة تماهيه الفعلي مع النسق اللغوي الذي ينذرون بويلاته.
ضمن هذا السياق تحديدا، يمكن الحديث عن حرب لغوية، تدور رحاها بين الفرقاء المؤهلين أكثر من غيرهم، لتكريس وفرض نسق مقولاتي معيَّن، يعلو ولا يُعلى عليه. فمَنْ ترتفع سومةُ أسهمه في بورصة المَقُولات والأحكام والتوصيفات، هو المؤهل دون غيره لترويج مقولاته وتعليماته ومنهاجياته، في تصنيف وتأطير الانتماءات الحضارية، والمرجعيات العقدية والسلوكية للشعوب. وضمن هذه المنطلقات أيضا، يمكن القول، إن الحديث عن اللغة، هو حديث عن الصيغة التي يتموضع فيها الكائن داخل المضايق الملتبسة لوجوده الغامض. فلا مكان للكائن داخل هذا العالم، إلا بمقدار ما يمتلكه من وعي بأهمية الدور الذي تضطلع به اللغة في تصريفها لانشغالاته الحياتية والفكرية. وحينما يكون الكائن ذاتُه بصدد تحيين ميكانيزمات القول، فذلك يعني أنه بصدد بلورة رؤية محددة، تنسجم مع المواقف التي يقتضيها واقع السياق الموجود فيه. وبالتالي، فإن غياب سؤال اللغة، هو عمليا غياب الحد الأدنى من الوعي بجدوى حضور الكائن أو غيابه، داخل السياق أو خارجه.
إن القدرة على التفكير وعلى الفعل، تكون ناتجة عن قدرة الذات على القول. ومهما حاولت بعض السرديات الفلسفية الكبرى التركيز على سلطة الفكر والتفكير، إلا أن المبادرة الحقيقية تعود مبدئيا لسلطة القول. فمقولة «أنا أتكلم فأنا موجود» هي أكثر إجرائية من مقولة «أنا أفكر فأنا موجود»، بما يعنيه التكلم هنا من إرادة موضوعية لتكريس فِكْر، وإقرار ممارسة سلوكية معينة. فالمقاربة الفكرية لإشكال معرفي ما، الهادفة إلى تحيين وتوصيل خلاصاته، لا تتحقق إلا عبر اشتغال الأنساق اللغوية، التي نهتدي عبرها إلى مقصدية الخطاب الفكري. مع العلم أن إنجاز مهام التفكير ككل، حول إشكال معرفي ما، يتم عمليا عبر وضعه على مِحَكِّ خطابات فكرية محايثة، سبق لها هي أيضا أن كرست سلطة حضورها، على ضوء تميزها بكفايتها اللغوية. وبالتالي، فإن المفهوم الحالي للغة، لم يعد كما سبق لهيدغر أن توهمه، باعتبارها «مسكنا للكائن»، إلا بالنسبة لأصفياء المحفل، الذي تنكتب فيه النصوص الروحية الكبيرة والعالية. أما خارج هذا المحفل، فالهيمنة المطلقة تظل حكرا على سلطة المتموضعين في مركزية القول، ما يجعل من اللغة فردوسا بالنسبة لهؤلاء، وجحيما لغيرهم. فمن هذا المنطلق تختلف وِجهة الشاعر عن وِجهة الفيلسوف، اختلافهما معا عن وجهة المرابين والقتلة. فلكل مسكنه اللغوي والواقعي الخاص به، حيث يتسع الفرق بين التعتيم والإضاءة. كما تطول المسافة بين المسارات المفضية إلى الانعتاق والطمأنينة، ونقيضتها المفضية حتما إلى الجحيم.
وفي ظل الرهاب الحضاري الحالي، المستبد بالشعوب المغلوبة على أمرها، فإن نزوعات التوظيف التحريفي لمعجزة اللغة، تتلذذ بزرع سمومها في فضاءات المنتظم الدولي قاطبة، ونعني به التوظيف المُبيَّتَ، الذي يُجٌبر اللغة على التنكر لمجموع ما يتخلل أنساقها من قيم وتشريعات وتعاليم، كي تكون جاهزة للتواطؤ مع الشيطان، في شرعنته لجرائم الإبادة، بما يرافقها من وحشية التطهير العرقي. شرعنةٌ، يتعذر فيها على اللغات المضطَهَدة الطعن في مصداقيتها، مهما بلغ توثيقها السمعي والبصري لهذه الجرائم والمجازر، من دقة وموضوعية. وهنا تحضر خطورة اللعب بإجرائية التأويل، الذي يتدخل بشكل سافر، قصد إضفاء الشرعية على أضاليله اللٌغْوية، حيث تتفاقم جرائم الإيمان بالقتل ولا شيء عداه، مرددة بفصيح حناجرها المُدَوِّية؛ اقتُل من أجل أن تكون.
وبالنظر إلى الخصوصية التعبيرية التي تتميز بها كل لغة عن غيرها، فإن حروب التأويل المُغْرضة، ستظل مفتوحة على مصاريعها الغامضة، حيث سيكون من الصعب الحديث فلسفيا عما هو جوهري في اللغة، ما دام التأويل يحتفظ بأسبقيته الإجرائية في تحديد دلالتها على أرضية إرادة القوة المتحكمة سلفا في السياق. وإذا كان لنا أن نغامر بتوصيف هذا الجوهر، فهو تعدده المفضي إلى ذلك الالتباس المُمِضِّ، الذي يتشَظَّى معه أي خطاب معرفي، يدَّعي إحاطته المحكمة، والشاملة بهوية الجوهر اللغوي. هكذا سيتبين لنا وبالملموس، كيف تكشف اللغة عن ضراوتها المطلقة في المنعطفات التاريخية الكبرى، حيث يتصاعدُ التقتيل المادي واللغوي، لتندلع الحرب النارية على الجبهات العسكرية، بحجم اندلاعها لغويا على الجبهات الإعلامية. ثم هكذا يتدخل كل منهما، من أجل إصلاح ما يتعرض له الآخر من أعطاب. فالقتل يُصلح أعطاب اللغة المساهمة كي تستعيد عنفها، واللغة العدوانية ترمم كسور القتل كي يصبح أشد فتكا. وهنا يتدخل مفهوم التحريف، الذي يأخذ شكل تأويل موغل في المكر والخبث. وهنا أيضا، يتم كبح جماح اللغة خشية أن تقول غير ما تخطط له الإرادات المتسلطة الممسكة بزمام الإبادات.. علما أن اللعبة التحريفية تظل حاضرة باستمرار، حيث تكون الشعوب المقهورة سياسيا وحضاريا، عرضة دائمة لمكر مقالب اللعبة ذاتها، إما من قِبَلِ اللغة، أو من قِبَل الواقع.
شاعر وكاتب من المغرب