اتصل بنا
 

سوريا: ليس دفاعاً عن المكوّعين ولكن…

إعلامي سوري

نيسان ـ نشر في 2025-02-22 الساعة 08:21

نيسان ـ «التكويع» مصطلح سياسي سوري بات يُطلق على الذين يغيرون خطهم وموقفهم وولاءهم السياسي، والكلمة مشتقة من «كوع، والكوع يأخذ شكلاً منحنياً، والمكوع هو شخص يشبه في شكل من أشكاله حرف الـ U الإنكليزي، ولا شك أن بعضكم سمع بمصطلح «يو تيرن» والإنكليز يستخدمونه لوصف حالة اللف وتغيير الاتجاه والعودة بالاتجاه المعاكس، لكنه يختلف عن الكوع بالمفهوم السوري الذي يأخذ فقط نصف انحناءة لتغيير الاتجاه.
ويُستخدم الكوع عادة في عملية تركيب «الصوبيات» المدافئ المنزلية وذلك لتوصيل «القساطل» أي الأنابيب التي يخرج منها الدخان إلى خارج المنزل، فلا يمكن مثلاً أن يخرج القسطل «الأنبوب» من المدفأة مباشرة ويدخل في ثغرة داخل الحائط ثم يخرج إلى الخارج، بل يحتاج إلى كوع ليوصله بأنبوب آخر يصعد إلى الأعلى ثم يدخل في كوع ثان يربطه بكوع ثم يخترق الحائط ويخرج خارج البيت. باختصار فإن العملية هي بمثابة انحناءات وتحويلات وتكويع بتكويع. لهذا صارت مفردات الكوع أو التكويع أو المكوعين دارجة جداً في سوريا لوصف المتحولين أو المتقلبين الذين لا يسيرون في اتجاه مستقيم بل يلفون ويدورون ويلجؤون إلى أكبر عدد من التحويلات للوصول إلى غاياتهم ووجهاتهم. وهذا ما يحصل اليوم بكثرة في سوريا. وقد بات السوريون هذه الأيام يستخدمون مصطلح التكويع للسخرية من الذين غيروا اتجاههم السياسي بعد سقوط النظام الأسدي وتحرير سوريا؟ لكن هل التكويع كله مذموم؟ طبعاً لا أريد هنا أن أدافع عن المكوعين أو المنقلبين على توجهاتهم السياسية القديمة والالتحاق بالتوجهات الجديدة لأن لعبة السياسة نفسها هي بالأصل لعبة تكويع بامتياز، فلا مبادئ في السياسة أصلاً. وقد قال السياسي الأمريكي روس بيرو ذات يوم ما معناه إن السياسة أكثر فوضى وانفلاتاً وتقلباً من الحرب، فالأخيرة تحكمها مبادئ وقوانين، بينما السياسة لا مبادئ ولا قوانين ولا أقانيم لها، وبالتالي ما العيب في تغيير التوجهات والاتجاهات؟
أما الشبيحة الكبار الذين كانوا متورطين مع النظام في القتل والإجرام والإرهاب والتعفيش والدعاية، وهم بالآلاف ويحاولون التكويع اليوم، فهؤلاء يجب عزلهم ومحاكمتهم
ولا ننسى أيضاً وهو الأهم أن السياسة لعبة مصالح بالدرجة الأولى، فليس هناك أعداء دائمون ولا أصدقاء دائمون، بل هناك مصالح كما يقول السياسي البريطاني بالميرستون، لذلك فإن التكويع والانقلاب وتغيير التحالفات والولاءات هو أساس السياسة الأول، والثابت الوحيد في علم السياسة هو المتحول، فالأوضاع تتغير، والمصالح تتغير، والسياسات تتغير، والساسة والقادة يتغيرون، والحكومات تتغير، والأحزاب تتغير، وموازين القوى تتحول، وبالتالي كما يقول المثل الشعبي، حسب السوق يجب أن تسوق. وغالباً ما يشبهون بعض السياسيين بأنهم مثل سائق التاكسي ليس لديه موقف محدد، ولا شك أنكم تعرفون العديد من هذا النوع الزئبقي من السياسيين. طبعاً إن مثل هذا التحول والتذبذب والتقلب قد يبدو لا أخلاقياً أو نوعاً من الخيانة والنذالة في نظر الناس الأسوياء، لكن يا جماعة الخير شتان بين السياسة والشرف، فهما نقيضان لبعضهما البعض. وقد قال السياسي البريطاني الشهير وينستون تشيرتشل ذات يوم: «رأيت وأنا أسير في أحد المقابر ضريحاً كُتب على شاهده هنا يرقد الزعيم السياسي والرجل الصادق، فتعجبت كيف يدفن الاثنان في قبر واحد؟».
وحتى في الحياة بشكل عام، ليس من الخطأ تغيير المواقف، فهناك مثل فرنسي يقول: «الحمير وحدها لا تغير آراءها». والبعض الآخر يقول: «فقط موقف السيارات لا يغير موقفه» وذلك للتأكيد على أن التشبث بالرأي نقيصة وليست فضيلة. وهناك قول دارج يقول: «الاعتراف بالخطأ فضيلة». وهذا ما يدعيه الكثير من المكوعين عادة بأنهم اكتشفوا الخطأ، فأرادوا أن يصححوه، مع العلم أن التصحيح ربما أتى من أجل مصالح معينة وليس لأسباب أخلاقية، إلا أنه في كلا الحالتين، يستطيع المكوّع أن يدافع عن نفسه سياسياً.
لكن هل علينا أن نقبل بكل أنواع المكوعين في سوريا اليوم عملاً بمقولة إن السياسة هي لعبة تكويعية أصلاً، أم ينبغي أن نميز بينهم وألا تكون عملية التكويع مجانية للجميع؟ هناك طبعاً أكثرية كبيرة في سوريا لم تكن أصلاً موالية للنظام الساقط، بل اضطرها النظام الفاشي الوحشي أن تصمت أو أن تؤيده زوراً وبهتاناً للحفاظ على نفسها ولقمة عيشها، فكما كان معلوماً لكل السوريين أن النظام لم يكن يقبل بأي نوع من المعارضة حتى لو كانت نصيحة بريئة، فكان يرمي بكل من يفتح فمه خارج عيادة طبيب الأسنان في غياهب السجون لعشرات السنين أو كان يقذف به خلف الشمس، وبالتالي فإنه لا بأس أن نقبل بتكويعة هذا الرهط من المؤيدين القدامى المغلوبين على أمرهم الذين لم يكن لهم لا حول ولا قوة. أما الشبيحة الكبار الذين كانوا متورطين مع النظام في القتل والإجرام والإرهاب والتعفيش والدعاية، وهم بالآلاف ويحاولون التكويع اليوم، فهؤلاء يجب عزلهم ومحاكمتهم ورفض تكويعهم، فهم ليسوا سياسيين بالمصطلح الماكيافيلي، ويمكن أن يغيروا اتجاهاتهم وتوجهاتهم لدوافع سياسية نفعية مقبولة ومتعارف عليها، بل هم مجرمون يجب ألا تقبل توبتهم أو تحولهم إلا بعد أن يدفعوا ثمن إجرامهم في المحاكم، كما لا يجب مطلقاً إعطاؤهم شهادة «لا حُكم عليه» أو «لا كوع عليه» كما يتندر السوريون هذه الأيام.
كاتب واعلامي سوري
falkasim@gmail.com

نيسان ـ نشر في 2025-02-22 الساعة 08:21


رأي: د. فيصل القاسم إعلامي سوري

الكلمات الأكثر بحثاً