اتصل بنا
 

أنطون حنا دياب … على الطريق من حلب إلى باريس

نيسان ـ نشر في 2025-02-27 الساعة 11:13

x
نيسان ـ يقترح الأكاديمي والمستعرب الأمريكي روبن كريسويل في هذه الدراسة التي نقدم ترجمتها عن الأصل الإنكليزي دراسة عميقة في يوميات الرحالة السوري أنطون حنا دياب، إبان القرن السابع عشر الميلادي في فرنسا، واستقباله من لدن الملك لويس الرابع عشر، علاوة على بلدان أخرى من منطقة حوض الأبيض المتوسط. وحري بالإشارة في هذا الخصوص اعتماد الكاتب على الترجمة الإنكليزية للأصل العربي الذي صدر بتحقيق مشترك بين محمد مصطفى الجاويش وصفاء أبو شهلا جبران عام 2017 عن دار الجمل. والكاتب أستاذ للأدب المقارن في جامعة يال الأمريكية.
النص
كتب أنطوان غالان مترجم «ألف ليلة وليلة» إلى الفرنسية في 17 مارس/آذار 1709 في يومياته عن لقائه بشخص اسمه حنا، وهو مسيحي ماروني يتحدث الفرنسية والتركية علاوة على لغته الأم العربية. وسوف يلتقي غالان بعد أسبوع من ذلك مجددا بحنا ويستمع منه إلى عدد من الحكايات والقصص العربية، التي وعد بكتابتها وإرسالها إلى أنطوان غالان. وبالنسبة إلى المترجم الفرنسي فإن هذا اللقاء كان فاصلا سعيدا. كان الجزء السابع من ترجمته لألف ليلة وليلة قد صدر عام 1706، وكان مخزونه من الحكايات قد نفد. وكان قد اعتمد في ترجمته على المخطوطة العربية التي يعود تاريخها إلى القرن الخامس عشر والتي وافاه بها صديق من سوريا. كان النص الأصلي يفتقر إلى عدد من الليالي القصيرة. وفي شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران من عام 1709 قدم حنا دياب لغالان ستين حكاية جديدة، وضمّنها بعضا من القصص الطويلة والمحبوبة مثل، «علاء الدين» و»علي بابا والأربعين حرامي». وقد أصبح غالان والحالة هذه متوفرا على حكايات الليالي التي كان في حاجة إليها. صار عدد أجزاء ألف ليلة وليلة اثني عشر جزءا، وسرعان ما أصبح الكتاب الأكثر شهرة في الأدب الفرنسي.
أحاط الباحثون علما بعض الشيء بأصول هذه الحكايات اليتيمة لكن وجه الماروني الحلبي يبقى مركونا في الظل. من كان؟ وما الذي كان يفعله في باريس لويس الرابع عشر؟ ومن أين استقى تلكم الحكايات التي رواها لغالان؟ وما الذي حدث له بعد ذلك؟ وتتمثل الإشارة الأخيرة له في يوميات غالان عام 1709 في ذكر اسم أسرته «دياب» ووجوده في مدينة مارسيليا ربما في انتظار باخرة. وتبقى حظوظ الإحاطة علما أكثر بالرحالة السوري الوحيد الذي مر من باريس قبل ثلاثمئة سنة شحيحة، غير أن الحظ كان حليف الباحثين، على الرغم من ذلك.
اكتشف المستعرب الفرنسي جيروم لانتان عام 1993 مخطوطة في مكتبة الفاتيكان وضعها بول سبيث وكان راهبا من حلب عام 1928. ولأن المخطوطة كانت تفتقر إلى صفحاتها الأولى فإن بول سبيث صنفها بوصفها مجهولة. غير أن الصفحة الأخيرة كانت تشتمل في الحقيقة على إشارة يعود تاريخها إلى عام 1766 وتحيل إلى اسم المؤلف، أنطون حنا دياب. كانت المخطوطة المكتوبة باللغة المحكية السورية المنمقة والشبيهة إلى حد ما باللغة العربية التي كتبت بها ألف ليلة وليلة، محصلة ما دونه حنا دياب في خاتمة حياته، عن رحلاته في بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط ما بين 1706 و1710 بما في ذلك فترة إقامته في باريس وهو في مقتبل شبابه. نشرت الترجمة الفرنسية عام 2015 وتتوفر الآن على الطبعة الإنكليزية التي ترجمها إلياس مهنا والتي تضم أيضا الأصل العربي.
تميزت الفقرات المخصصة لأنطوان غالان في يوميات دياب بالإيجاز، ولم يكن يدعو الرجل الفرنسي باسمه، وإنما يشير إليه بالرجل العجوز الذي كان يحظى بمنزلة في المكتبة، وكان علاوة على ذلك يترجم ألف ليلة وليلة: «كان راغبا في مساعدته على فهم بعض الأشياء التي استعصت عليه. وكان الكتاب يفتقر إلى بعض الليالي، وكان أن رويت له بعض الحكايات التي كنت أعرفها واستعملها لإتمام عمله.
لم يزعم دياب أن الحكايات التي رواها لغالان كانت من ألف ليلة وليلة، ولم يكن له أي علم حين تدوينه ليومياته عام 1766 أن ترجمة غالان أثارت اهتماما كبيرا بالحكايات الشرقية التي مارست تأثيرا لافتا على الآداب الأوروبية. سوف يشعر القراء الراغبون في الإحاطة علما بما جرى بين غالان والراوي الحلبي بالخيبة والإحباط مما تضمنته اليوميات؛ إذ لم يكتب أي شيء عن الحكايات التي رواها، أو عن محتواها ومصدرها. بيد أن كتابه الرحلي يسلط بطريقة غير مباشرة الضوء على مواهبه في الحكي. وتثير في السياق نفسه أسئلة ملغزة عن العلاقة بين ما هو سير ذاتي وما هو تخييلي وبين المغامرات الحياتية الواقعية والمغامرات الفانتازية. ولم يكن لقاء دياب بغالان إلا حلقة من سلسلة لقاءات محتملة. وخلال رحلته إلى باريس جرى اختطافه من لدن القراصنة، ونام في وادي السباع في تونس وتمكن من النجاة من موجة الصقيع العظيمة لعام 1709 والتقى بالملك الشمس لويس الرابع عشر في قصر فرساي، وقدم نفسه بوصفه طبيبا فرنسيا مارس الطب في أدغال الأناضول، وعديلا لشهرزاد وحماء لقصص ألف ليلة وأي فرجة أخرى، ومعها الوعد بحكايات أخرى مقبلة مدهشة. وكان كتابه الرحلي نموذجا لذلك.
كان حنا أصغر ثلاثة أخوة لأسرة مارونية تحترف تجارة النسيج. كانت حلب موطن العديد من الشركات من فرنسا والبندقية، تملك وكلاء في كل المنطقة. وكانت بداية حنا في هذا الوسط المتعدد اللغات. وفي عام 1706 دخل إلى دير مار ليشع في وادي قاديشا في نهاية طور مراهقته. وعلى الرغم من إعجابه بورع وتقوى الرهبان فإنه لم يلبث أن أدرك أنه لم يخلق ليكون ناسكا. وكان أن عاد إلى حلب. رفض مشغله القديم عودته إلى العمل وهو ما جعله نهبا للضياع. لم يعد أمام المسيحي الشاب الذي لم يعد صالحا للكنيسة، والذي كان مطرودا من التجار من خيار جيد. وكان أن قرر العودة مجددا إلى دير مار اليشع. التقى حنا دياب في مستهل سنة 1707 ببول لوكاس وكان فرنسيا مكلفا بمهمة تخول له البحث عن قطعة أثرية ومخطوطات لصالح ملك فرنسا لويس الرابع عشر. كان لوكاس منبهرا بمهارات دياب في الترجمة ـ كانت للمترجم حرفة مشرقية أخرى- وكان أن سأله عن وجهته. كتب دياب في يومياته بأنه شعر بالحرج من أن يروي له حكايته الحقيقية. كان هذا اللقاء الأول والذي كان خليطا من الخداع والصدفة منطلق علاقتهما. وقد صرفا سنتين ونصف السنة معا، وهما يتجولان في منطقة حوض الأبيض المتوسط، بدءا بقبرص وتونس ومصر وإيطاليا وانتهاء بفرنسا.
كان الاستشراق الفرنسي عند منعطف القرن الثامن عشر في بداياته، وكانت الدراسة المؤسسة للشرق الأدنى ـ اللحظة الإمبريالية التي قام إدوارد سعيد بتحليلها في كتابه «الاستشراق» قد بدأت منذ أكثر من قرن. وخلال مرحلة حكم لويس الرابع عشر وتحديدا وزير دولته القوي جان بابتيست كولبيرت، جرى برعاية ملكية تأسيس مدارس اللغات الشرقية، والتشجيع على جمع واقتناء المنمنمات والمخطوطات الشرقية لفائدة مكتبة الملك التي كانت سابقة على المكتبة الوطنية الحالية. بيد أن الغاية الرئيسية تتمثل في جمع أشياء وأدوات من شأنها إعلاء شأن وقدر الملك. وكانت ثمة محاولة بسيطة لإقامة مؤسسات مستقلة للتعليم، وكانت لشبكة العلاقات الشخصية الغلبة على الاستحقاق الأكاديمي.
اضطلع أعوان الملك بهذه المهمة، وكانوا يؤثرون في هذا السياق لصوص الثروات الذين يسرقون المخطوطات والقطع والنقوش الأثرية، والحيوانات أيضا لصالح الملك. قام غالان بتطوير هذه الخدمات لصالح الملك قبل أن يستقر في باريس، كما أن لوكاس الذي كان صاحب حظوة لدى كتبي الملك القس بينيون، قد سار على الدرب نفسه. كانت علاقته بأنطون دياب أكثر شفافية. وقد وعده لوكاس في لقائهما الأول بأن يعثر له على وظيفة في المكتبة الملكية. وفي المقابل تعهد دياب بالتفاوض مع باعة القطع الأثرية والوساطة لدى الحكام المحليين.
تعتبر يوميات دياب عن مغامراته المتوسطية، مزيجا من الملاحظة الدقيقة والنظرة البريئة الساذجة. ويجلي تقريره عن طرائق تفاوض القناصلة مع الوجهاء والولاة اعجابا بالدبلوماسية. وتعتبر حادثة تهريبه للتبغ في جزيرة كورسيكا دليلا على الشجاعة والجسارة.. بيد أن الفصول الأكثر إثارة تتمثل في وصفه للمآثر السياحية من قبيل متحف باردو في تونس ودار الأوبرا في باريس وإفلاته بأعجوبة من الإعصار والغرق والقرويين الغاضبين. بيد أن الأعجوبة الكبرى تتمثل في قصر فرساي الذي يقول عنه دياب إنه لا مثيل له على وجه الأرض. والذي تزينه حدائق غناء ومنتزهات من كل الأنواع. وقد أوصاه لوكاس في ما يهم استقباله من لدن لويس الرابع عشر أو الملك الشمس، بأن يرتدي ثيابه الشرقية بكل ألوانها الزاهية.. قفطان طويل وسروال فضفاض وخنجر من البرونز وخوذة من فرو الثعالب. وكي يكتمل المشهد، فقد جرى تقديم دياب بمعية قفص يحوي اثنين من الجرابيع تم جلبهما من مصر. وسرعان ما سوف يتحول دياب وهذين الحيوانين إلى مصدر تسلية وفرجة لأمراء وأميرات القصر.
*كاتب أمريكي / ** كاتب ومترجم مغربي

نيسان ـ نشر في 2025-02-27 الساعة 11:13

الكلمات الأكثر بحثاً