اتصل بنا
 

على أنقاض الحياة: نار صغيرة تطهو الصبر

نيسان ـ القدس العربي ـ نشر في 2025-02-27 الساعة 11:22

x
نيسان ـ في أحد أزقة غزة التي خيَّم عليها الصمت بعد عاصفة الحرب، يجلس صبي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره فوق ركام منزله المهدَّم. غبار الركام يغلِّف المكان كستار رمادي، ولكن وسط هذا المشهد القاتم ثمة شعلة نار صغيرة تتراقص أمامه. بأوانٍ معدنية بسيطة متهالكة، يُقلِّب ذلك الطفل طعامًا قليلاً في قدرٍ أسودَ مثقوب، بينما يتوزع حوله أخوته الصغار يراقبونه بعيونٍ مليئة بالتعب والجوع والانتظار. الهواء مشبعٌ برائحة الرماد، وتحت السماء التي بدأت تميل للبرتقالية مع غروب الشمس، يبدو هذا المشهد لوحة من الألم والصمود مرسومة بيد القدر.
ذلك الطفل الصغير الذي صار فجأة رب الأسرة يقاوم بداخله إحساسًا ثقيلًا بالفقد. فقد حُرِمَ حضن أمه الدافئ التي غادرت هذه الدنيا تحت أنقاض الحرب، لكن رغم غصة قلبه ودموعه التي جفَّفتها الأيام، يقف كالرجال بيدين مرتعشتين بعض الشيء من أثر الحزن والبرد، يجمع قطعًا من الخشب والحطام ليغذي بها نار موقده الصغير. يُرتِّب حجرين ليضع عليهما القدر، تمامًا كما شاهد أمه تفعل من قبل، وكأنَّه يستحضر روحها لتعينه. وبرغم طفولته، إلا أن نظرة عينيه تحمل حكمة أكبر من سنّه بكثير، إذ يُدرك أن عليه الآن أن يكون الأم والأب لإخوته، وأن يستمر في مهمته هذه غير المتوقعة رغم كل شيء.
تمر لحظات وهو يُحرِّك الملعقة في القدر، فتفرّ من عينيه دمعة حارقة سرعان ما يمسحها بطرف كُمّه قبل أن يلحظها إخوته. لا يريد لهم أن يروا ضعفه، فهو عمادهم المتبقي. يتذكَّر صوت أمه وهي تغني في المطبخ، رغم ضيق الحال، وكيف كانت ترسم الابتسامة على وجهها لتهوّن عليهم صعوبة الأيام. اليوم يحاول أن يفعل مثلها: يبتسم بينما يغلي الماء ويطهي ما تيسر من طعام بسيط. يوزع نظرات مطمئنة بين إخوته وكأنه يقول لهم «لا تخافوا، سنكون بخير». تلك الابتسامة على شفتيه المرتجفتين هي سلاحه في وجه الحزن، درعٌ يتحدى به اليأس الذي يحوم حولهم.
حين نضج الطعام أخيرًا، وزَّعه بحنان على إخوته. أيديهم الصغيرة تمتد بتلهف نحو الأطباق المتواضعة، وعيونهم تلمع بشيء من الفرح، رغم كل ما مرّوا به. جلس معهم يأكل، وحولهم حطام المنزل الذي كان يومًا عالم طفولتهم الآمن. في تلك اللحظة، ورغم الألم الذي يعتصر قلبه الصغير على فراق أمهم، شعر بشيء من الرضا، لأنه استطاع أن يملأ بطون إخوته ويسمع ضحكة خافتة من أحدهم. تحت سماء الليل التي بدأت تتلألأ فيها نجمة وحيدة، شعر ذلك الطفل بأن روح أمه تراقبهم من بعيد، فابتسم. ابتسم وكأنّه يرد لها وعدًا قطعه: أن يصمد، أن يرعى إخوته، وأن يبقي الأمل حيًا مهما اشتد الظلام.
في غزة، حيث يمتزج الملح بالدمع في خبز الحياة اليومي، تتجلى في هذا الطفل أسمى معاني الصمود. على ركام الألم بنى مائدةً صغيرة للحب، وبموقد الأمل أشعل نارًا تدفئ قلوبًا أرهقها الحزن. ورغم فقده الكبير، ورغم ليل الحرب الطويل، فإن ابتسامته الصغيرة تلك كانت كفيلة بإضاءة العتمة حوله. إنها حكاية أمل وسط الركام، حكاية طفل علّم العالم بأسره أن الإنسانية والأمل يمكنهما البقاء حيّين حتى في أحلك الظروف.
جرذ وكلب وأفعى
في زاويةٍ مظلمة تحت سقفٍ متهالك من بقايا منزلها المدمر، تجثو أم وسيم شعبان على ركبتيها فوق أرض باردة من الإسمنت المحطم. أنفاسها تتصاعد أمام وجهها كسحبٍ بيضاء صغيرة في الهواء البارد. تحضن ابنها الصغير وتهمس له بصوت مرتجف: «سننتهي حالًا يا حبيبي…» لكن كلماتها تضيع في عويل الريح الباردة المتسللة عبر شقوق الركام. تغمس قطعة قماش في وعاء ماءٍ معدني ضئيل، ماء يكاد يجمد من شدة الصقيع. تبدأ بمسح جسد الطفل النحيل بذلك الماء، فترتعش شفتاه ويعلو صراخه بحرقةٍ تمزق قلبها. جلدُه الصغير يزرَقّ تحت لسعات الماء، ودموعه تختلط بقطرات الماء على وجهه. تحتضنه بقوة علَّ دفء جسدها يسكُن رعشته، لكن برد الشتاء أقوى من محاولاتها اليائسة. تنظر إلى عينيه الحمراوين من البكاء، فتغلي في صدرها مرارة العجز.
على مقربة منهما، يتكوّم طفلان آخران في عمر الزهور فوق بطانيةٍ بالية، يراقبان المشهد بعيونٍ واسعة خائفة، وقد ضمّ كلٌّ منهما جسده الصغير إلى الآخر بحثًا عن بعض الدفء. في زوايا المأوى شبه المظلم، تتحرك ظلال الفئران بين الركام بحثًا عن بقايا طعام. تحبس الأم أنفاسها لوهلة حين تمر إحدى هذه الظلال قرب أطفالها؛ تراقب جرذاً يجرّ قطعة خبزٍ قديمة اختلستها من متاع العائلة القليل. ورغم اشمئزازها وخوفها من القوارض، فإنها أضعف من أن تلاحقها في هذه اللحظة التي يئن فيها صغيرها بين ذراعيها. ما زالت آثار ليلةٍ سابقة مرتعبة عالقة في ذاكرتها، حين هاجمهم كلبٌ ضال تحت جنح الظلام؛ نبَحَ بجنون واقتحم فتحة المأوى الضيقة وكاد ينقض على أحد صغارها لولا أنها انتفضت بجسدها أمامه، تصرخ وتلوّح بعصا مكسورة. ما زال قلبها يرتجف وهي تتذكر كيف تراجع الكلب تحت وابل حجارتها وصيحاتها المفجوعة. وفي صباح اليوم التالي قتلت أفعى وجدتها تزحف قرب أطفالها النائمين؛ هشّمت رأسها بحجر وهي ترتجف خوفاً، ثم جلست تبكي كطفلةٍ صغيرة من هول ما تواجهه كل يوم. حتى الحيوانات صارت خطراً داهماً يحيط بهم في هذا الركام الكئيب.
ترفع أم وسيم طرف عينيها إلى الأعلى.. فوقها تماما كتلة إسمنتية كبيرة معلقة بشكلٍ مخيف، تتدلّى من سقفٍ تصدّع وتشقّق. تعلم أن هذا الجزء مما تبقى من منزلهم آيلٌ للسقوط في أيِّ لحظة. حذّرهم رجال الإنقاذ مرارًا من البقاء هنا، لكن أين تذهب بعائلتها؟ المخيمات مكتظة، والخيام شحيحة، والشتاء قاس بالخارج كقسوة هذا الملجأ المنهار. تحت هذا السقف المهشم عاشت أسرتها أياماً وليالي، تأكل مما تيسر، وينامون متكدسين اتقاءً للبرد والمطر. ورغم الخطر المحدق، لم تجد خياراً سوى الاحتماء بجدرانٍ كانت يوماً أسوار بيتها الدافئ. تنظر حولها فتلمح بقايا ذكريات: دمية مغطاة بالغبار لأحد أطفالها بين الركام، صورة عائلية مبتلة وممزقة عند زاوية حجرة كانت غرفة الجلوس. تختلط في عقلها صور الماضي واليوم؛ كيف تحوّل البيت الذي ضحكوا ولعبوا فيه يوماً إلى مأوى أشباحٍ وصقيع؟
يهتز جسد الطفل بين يديها من شدة البكاء والبرد، فتفيق من شرودها. تخلع الأم ما ترتديه من معطفٍ رثّ وتلفه حول جسد صغيرها علّه يمنحه بعض الدفء. الطفل ما زال ينتحب، ووجنتاه محمرتان ومرتجفتان. تحتضنه بحنانٍ يائس وتتمتم له بأغنياتٍ قديمة كانت تنشدها له لينام في ماضي الأيام الجميلة، لكن صوتها يختنق بعبرة. تسند رأسه الصغير على صدرها وتربت على ظهره، فيما ترتجف شفتاها هي الأخرى؛ ليس فقط من البرد، بل من الحزن والقهر. على بُعد خطوات، طفلتاها تتشبثان ببعضهما وتنظران إليها بوجوهٍ شاحبة يعلوها الخوف. تشعر الأم بوخز نظراتهما؛ تعرف أنهما جائعتان وخائفتان، وتعرف أن صراخ أخيهما وزمهرير الجو يُفزِعهما. تحاول رسم ابتسامة واهنة على وجهها المتعب لتطمئنهما، لكن شفتيها لا تستجيبان، فقط دمعة ساخنة انسلت على خدها المتسخ.
في تلك اللحظة، ومن أعماق الانهيار الذي يعتصر قلبها، لم تجد أم وسيم سوى أن ترفع كفيها المرتجفتين إلى السماء. بكت بصوتٍ عالٍ تناجي الله تحت سقف السماء الرمادية التي تمطر برداً وظلاماً. ارتعش صوتها بين شهقاتها وهي تدعو: «يا رب… يا رب ارحم ضعفي وضعف أطفالي… يا رب نشكو إليك حالنا…» تردّد صدى بكائها في فضاء الخراب من حولها، وكأن الجدران المنهارة تبكي معها. احتضنت أطفالها الثلاثة، وضمتهم إلى صدرها كمن يحاول حمايتهم من قسوة عالم بأكمله. كان بكاؤها مراً وعالياً، دموعها تنهمر بغزارة على جبين طفلها الذي هدّه البكاء حتى غفا أخيراً من التعب. تلك العائلة ليست وحدها في هذا المصاب الجلل؛ فحالها هو حال آلاف العائلات في غزة ممن هدمت الحرب بيوتهم، وأصبحوا يعيشون في العراء وتحت الركام في برد الشتاء وعصف الرياح. امتزج صوت نشيج الأم بصوت الهواء الذي يصفّر من خلال الثقوب والخرائب، فكأنما كانت غزة كلها تلك الليلة أماً واحدة تبكي. ومع كل دمعةٍ ودعاء، كانت أم وسيم تشعر أن آلامها وصلاتها تحملها الريح إلى السماء علَّ رحمةً إلهيةً تهبط عليها وعلى أطفالها وعلى كل من يتشارك معها هذا الألم الدامغ.
*كاتبة لبنانية

نيسان ـ القدس العربي ـ نشر في 2025-02-27 الساعة 11:22

الكلمات الأكثر بحثاً