الوضوء لـ (نوح كرايمة)
نيسان ـ نشر في 2015-12-10 الساعة 20:27
عبد الستار رجلٌ نزقٌ جدًّا، فلاحٌ يزرع ويقلع، ويربي الأبقار، يحلبها إذا كان الصباح ويعاود الكرَّة إذا كان المساء، من النادر جدًّا ألّا تراه غاضبًا، إنْ لم يكن غاضبًا فهو مهيأٌ للغضب، لا يطيق أنْ تهبط الذبابة على أنفه، عندما كان يعود من مزرعة الأبقار بعدَ الغروب بقليل يفتحُ باب بيته بعنف، خالعًا شماخه الأحمر من على رأسه، راميًا له بقوةٍ على كرسي خشبيٍّ قديم في المَمَرّ، باصقًا على الحياة شاتمًا لها " تفوووه على أبوك من حياة "، هكذا كان يقول، عندما كان يبصق يتناثر رذاذٌ من بصاقه أحيانًا على أبنائه وبناته، لكن هل يستطيعون التكلم ؟ ليتكلموا ويجرِّبوا ستنهالُ عليهم شتائم متواصلة ربما تستمر أكثر من ثلاث ساعات!
تجاوز الخامسة والستين من عمره، قصير القامة نحيفها، أصلع، أسمر اللون، معالمه صغيرة جدًّا ودقيقة، شبه أُميّ يجيدُ القراءة والكتابة بصعوبة، إذا قرأ يقرأ القرآن فقط، أمُّه فايزة تعيش عنده، زوجته مريم لم تكن سعيدة بذلك لكنّها لا تجرؤ على التصريح أمامه، بناته الثلاث وأبناؤه الأربعة سعيدون جدًّا لوجود جدتهم فايزة بينهم.
فايزة تجاوزت الخامسة والثمانين من عمرها، أصبحت صمّاء لا تسمع بشكلٍ كامل تقريبًا، أكثر الأيام تقف أمام نافذة البيت المطلة على الشارع لترى المارّة، مرتديّةً ثوبها الأسود المألوف، مُغلِّفةً رأسها بشماخها الأبيض، لقد أصبح جسدها صغيرًا جدًّا ومتقلصًا كالقُنفُذ، عندما كان أطفال الحيّ يمرون من الشارع يشتمونها فتعتقد أنّهم يُسلّمون عليها، ترفع يديها مشوّحةً لهم، ترد على الشتيمة بتحيّة،بوجهٍ باسم، فاتحةً فمها الخالي من الأسنان على مصراعيه !
عندما عاد عبد الستار مرّة من المرات من مزرعة الأبقار غاضبًا كالعادة، دخلَ البيت، رمى شماخه على الكرسي، مرَّ من عند المِغسلة، رأى فايزة تتوضأ استعدادًا لصلاة المغرب، انتبه إليها، لاحظَ أنّها تتوضأ بشكل خاطئ، لأولِ مرّة منذ سنين يلاحظ ذلك، وجدها تغسل وجهها أولاً، ثم تمسح رأسها، ثم ترفع رجليها على قاعدة المغسلة وتغسلهما، لم تكن تكشف عن ساقيها خوفًا من إغراء الشياطين، هكذا كان وضوؤها فقط ثلاث خطوات، حدَّق بها عبد الستار " إيه إيه إيه، أمي تتوضأ خطأ، بدي أعلمها الوضوء"، قال هكذا على مسمع زوجته وأبنائه، أخذها من يدها الصغيرة إلى الحمام كأنّها ابنته الصغيرة، أجلسها على مقعد خشبيٍّ مستطيليّ قديم، عَبَّأ الإبريق البلاستيكيّ القديم بالماء، جلس بجانبها " أول شيء تغسلين يديك " قال لها، ثمّ أعطاها الإبريق، أخذتْهُ وغسلت رجليها ساكبةً عليهما قليلاً من الماء بسرعة!
تناول عبد الستار الإبريق وقال بصوتٍ مرتفع : " يُمه، أول شيء تغسلين يديك ، يديك يديك".
فايزة : " هاه " .
عبد الستار : " يديك، يديك "، وأشار إليهما .
فايزة : " هاه ، والله ما أني فاهمة عليك " .
أزاحَ عبد الستار وجَهَهُ عنها، أغمضَ عينيه " جُكْ جُكْ جُكْ، الله والي آمنوا فيه، لا حول ولا قوة إلّا بالله "، هكذا قال وقد بدأ يتضايق، أرجعَ وجهه إليها، أمسك يديها الصغيرتين بقوة،وقال بغضب:" هذول، هذول، تغسليهما أولاً، فهمتِ؟ " .
فايزة بصوتها الرفيع كصوت جرو العنزة : "كسرت يدي، خلص فهمت، بديش أغسل يدي أولاً".
صرخَ عبد الستار بأعلى صوته : " يا الله بعدين، بعدين ، أنا شو الي علَّقني هالعلقة، يلعن الساعة التي نويت أعلمك فيها ، يلعن ..، استغفر الله العظيم يا الله " .
بانت شرايين رقبته كأغصان تحت ماء عَكِر، ضرب رأسه بكلتا يديه، تناول الإبريق، سكب ماءه على أرضية الحمام " والله لألعن أبو إلي صنعك أنت الثاني " هكذا قال له، ثم رماه بقوة خارج الحمام، ارتطم بالجدار الخارجيّ للمطبخ المقابل، خرجَ سريعًا، صائحًا بأعلى صوته " والله لألعن أبوكِ من حياة "، دخلَ إحدى الغرف، أغلق بابها عليه بأقصى قوته فصدر صوتٌ كصوت المفرقعات الناريّة.
بعدَ دقائق، خرجت فايزة من الحمام، بطيئة الخطى معقوفة الظهر كسلحفاة، نظرت بعينيها الصغيرتين إلى الباب الذي أغلقه عبد الستار، وبصوتٍ بطيءٍ هادئ بعيد كأنه آتٍ من بئر عميق قالت:" روح انقلع، ولْ عليك ما أنزقك " ، ثم توجهت إلى إحدى الغرف وصلّتِ المغرب.


