هل كانت جائحة 'كورونا' مجرد حدث عابر؟
نيسان ـ نشر في 2025-03-10 الساعة 12:22
x
نيسان ـ في الخامس من مارس 2020، كنت على متن رحلة ألاسكا إيرلاينز رقم 1805 من لوس أنجلوس إلى واشنطن العاصمة، وكانت المقصورة شبه فارغة من الركاب، الأمر الذي خلق جواً من «الوحشة المهيبة».
لم أستوعب حينئذ حجم التغيير الذي طرأ على العالم إلا بعد هبوطي في العاصمة الأمريكية التي بدت مهجورة تماماً.
لكن سرعان ما عادت الحياة إلى طبيعتها بوتيرة أسرع مما توقع حتى أشد المتفائلين. فبحلول عام 2022، استعادت المدن إيقاعها المعتاد، واستعادت السياحة عافيتها وزخمها (من كان يتخيل في ذروة الجائحة أن الحكومة البريطانية ستدعم إنشاء مدارج إضافية في مطاري هيثرو وغاتويك!).
كما امتلأت طاولات المطاعم بالحجوزات، رغم استمرار بعض آثار الجائحة في معدلات إشغال المكاتب، والديون العامة، والمشكلات الصحية المستمرة، والذكريات المؤلمة. لكن التوقعات السابقة بتغيير جذري للمجتمع تبددت، ليبرز درس محوري بعد 5 سنوات، وإن كان من الصعب على الصحفيين تقبله وهو أن: معظم الأحداث عابرة.
لقد كانت المنعطفات التاريخية التي عاصرتها طيلة حياتي هي سقوط الاتحاد السوفيتي، انتخاب دونالد ترامب، والحرب الأوكرانية، وربما يضاف إليها الأزمة المالية عام 2008، إلا أن تأثيرها كان أوروبياً بشكل أساسي، بينما تجاوزها الاقتصاد الأمريكي واستمر صعود الصين والهند. أما حرب العراق؟ فقد كانت كارثة، نعم، لكنها لم تكن نقطة تحول عالمية.
إذن، يبدو تقريباً أن كل ما يطلب منك أن تكرس وقتك واهتمامك له في المجال العام هو مجرد سراب، وأتذكر أنني خصصت موسم الصيف بأكمله عندما كنت في العشرينات من عمري لتغطية «فضيحة نفقات البرلمان» البريطاني.
وبعد أحداث 11 سبتمبر، كان من المسلمات أن الإرهاب سيهيمن على التفكير الاستراتيجي الغربي إلى الأبد.
لكن هل من أحد يراه اليوم تهديداً للحياة والحرية يفوق خطر الحروب التقليدية بين الدول؟ أتذكر زميلاً سابقاً، في ذروة صعود تنظيم (داعش)، كان يدعو بريطانيا إلى تقليص نفقات الردع النووي لتمويل القوات الخاصة والاستخبارات باعتبارها أصولاً أكثر مرونة في مواجهة التهديدات المعاصرة. في ذلك الوقت، بدت الفكرة مقنعة تماماً.
لكن بالنظر إلى الوراء، ندرك أننا بالغنا في تقدير التغيير الذي أحدثته تلك المرحلة. ويتطلب الأمر قدراً من التجرد يكاد يكون فوق القدرات البشرية لتقييم الأحداث التي تعاصرها في حياتك ووصفها بالعابرة، إلا أن الفشل في ذلك يقود إلى «أخطاء لا رجعة فيها» (وهذا لا ينطبق فقط على السياسة، بل حتى على الفنون، حيث إن الأعمال الفنية التي تحاول مواكبة اللحظة الراهنة بشدة غالباً ما تفقد قيمتها بمرور الوقت).
إن مصطلح «نقطة تحول» هو نفسه تعبير يكتنفه بعض الغموض، إذ إن معظم التغيرات الاجتماعية تحدث تدريجياً. ومع ذلك، ما هي التحولات الكبرى التي شهدناها فعلاً؟ صعود الصين والقوى غير الغربية. وماذا عن التحول الرقمي؟ بعيداً عن «مفارقة سولو» أو مفارقة الإنتاجية، لم نشهد معدلات نمو تفوق ما كان عليه الاقتصاد في العصر التناظري.
وفي بريطانيا، فرغم عقود من سيادة القيم الليبرالية، و«النسبية الثقافية»، وتراجع الإجلال التقليدي للسلطة، فإن مشاعر الحداد على الملكة إليزابيث بدت وكأنها تعود لعصر الستينيات. إن دور مهنة الصحافة هو توثيق الأحداث والظواهر الجديدة، إلا أنها قد تبالغ في تقدير مدى تغلغل تلك الاتجاهات أو الأفكار الجديدة في النسيج الاجتماعي.
ويمكنك أن تسلك مسارين هنا. الأول هو أن تواسي نفسك، بمنطق «هذا أيضاً سيمضي». لكن هناك زاوية أكثر قتامة: الإقرار بـ«هشاشة وتفاهة معظم الأحداث»، فإذا كان حدث هائل بحجم الجائحة لم يضع المجتمع على مسار جديد، فما احتمالية أن تفعل ذلك ظواهر مثل «وباء الوحدة»، أو غالبية الانتخابات، أو صيحات جيل «زد»؟
لكن الجائحة كشفت لنا دروساً أخرى، فالناس سيئون في التنبؤ بسلوكهم المستقبلي - يكفي مقارنة التطعيمات المرتفعة فعلياً بالنسب المنخفضة في استطلاعات الرأي. كذلك، لا أحد ممن يدافعون عن مدن خالية من السيارات يبدو أنه فكر في الأمر ملياً؛ فحين اختفى ضجيج المرور، لم يحل محله الصفاء، بل ساد صمت جامد أقرب إلى العصور الوسطى منه إلى السكينة. لكن الدرس الأكبر، بعد خمس سنوات، هو مدى «رسوخ» الطبيعة البشرية أمام الأحداث العابرة.
كثيرون من المحافظين رأوا في تلك الفترة وما صاحبها من إجراءات تقييدية نموذجاً صارخاً للاستبدادية، لكن ربما كان من الأحرى بهم رؤيتها كـ«أسمى تصديق لنظرتهم إلى العالم».
لم أستوعب حينئذ حجم التغيير الذي طرأ على العالم إلا بعد هبوطي في العاصمة الأمريكية التي بدت مهجورة تماماً.
لكن سرعان ما عادت الحياة إلى طبيعتها بوتيرة أسرع مما توقع حتى أشد المتفائلين. فبحلول عام 2022، استعادت المدن إيقاعها المعتاد، واستعادت السياحة عافيتها وزخمها (من كان يتخيل في ذروة الجائحة أن الحكومة البريطانية ستدعم إنشاء مدارج إضافية في مطاري هيثرو وغاتويك!).
كما امتلأت طاولات المطاعم بالحجوزات، رغم استمرار بعض آثار الجائحة في معدلات إشغال المكاتب، والديون العامة، والمشكلات الصحية المستمرة، والذكريات المؤلمة. لكن التوقعات السابقة بتغيير جذري للمجتمع تبددت، ليبرز درس محوري بعد 5 سنوات، وإن كان من الصعب على الصحفيين تقبله وهو أن: معظم الأحداث عابرة.
لقد كانت المنعطفات التاريخية التي عاصرتها طيلة حياتي هي سقوط الاتحاد السوفيتي، انتخاب دونالد ترامب، والحرب الأوكرانية، وربما يضاف إليها الأزمة المالية عام 2008، إلا أن تأثيرها كان أوروبياً بشكل أساسي، بينما تجاوزها الاقتصاد الأمريكي واستمر صعود الصين والهند. أما حرب العراق؟ فقد كانت كارثة، نعم، لكنها لم تكن نقطة تحول عالمية.
إذن، يبدو تقريباً أن كل ما يطلب منك أن تكرس وقتك واهتمامك له في المجال العام هو مجرد سراب، وأتذكر أنني خصصت موسم الصيف بأكمله عندما كنت في العشرينات من عمري لتغطية «فضيحة نفقات البرلمان» البريطاني.
وبعد أحداث 11 سبتمبر، كان من المسلمات أن الإرهاب سيهيمن على التفكير الاستراتيجي الغربي إلى الأبد.
لكن هل من أحد يراه اليوم تهديداً للحياة والحرية يفوق خطر الحروب التقليدية بين الدول؟ أتذكر زميلاً سابقاً، في ذروة صعود تنظيم (داعش)، كان يدعو بريطانيا إلى تقليص نفقات الردع النووي لتمويل القوات الخاصة والاستخبارات باعتبارها أصولاً أكثر مرونة في مواجهة التهديدات المعاصرة. في ذلك الوقت، بدت الفكرة مقنعة تماماً.
لكن بالنظر إلى الوراء، ندرك أننا بالغنا في تقدير التغيير الذي أحدثته تلك المرحلة. ويتطلب الأمر قدراً من التجرد يكاد يكون فوق القدرات البشرية لتقييم الأحداث التي تعاصرها في حياتك ووصفها بالعابرة، إلا أن الفشل في ذلك يقود إلى «أخطاء لا رجعة فيها» (وهذا لا ينطبق فقط على السياسة، بل حتى على الفنون، حيث إن الأعمال الفنية التي تحاول مواكبة اللحظة الراهنة بشدة غالباً ما تفقد قيمتها بمرور الوقت).
إن مصطلح «نقطة تحول» هو نفسه تعبير يكتنفه بعض الغموض، إذ إن معظم التغيرات الاجتماعية تحدث تدريجياً. ومع ذلك، ما هي التحولات الكبرى التي شهدناها فعلاً؟ صعود الصين والقوى غير الغربية. وماذا عن التحول الرقمي؟ بعيداً عن «مفارقة سولو» أو مفارقة الإنتاجية، لم نشهد معدلات نمو تفوق ما كان عليه الاقتصاد في العصر التناظري.
وفي بريطانيا، فرغم عقود من سيادة القيم الليبرالية، و«النسبية الثقافية»، وتراجع الإجلال التقليدي للسلطة، فإن مشاعر الحداد على الملكة إليزابيث بدت وكأنها تعود لعصر الستينيات. إن دور مهنة الصحافة هو توثيق الأحداث والظواهر الجديدة، إلا أنها قد تبالغ في تقدير مدى تغلغل تلك الاتجاهات أو الأفكار الجديدة في النسيج الاجتماعي.
ويمكنك أن تسلك مسارين هنا. الأول هو أن تواسي نفسك، بمنطق «هذا أيضاً سيمضي». لكن هناك زاوية أكثر قتامة: الإقرار بـ«هشاشة وتفاهة معظم الأحداث»، فإذا كان حدث هائل بحجم الجائحة لم يضع المجتمع على مسار جديد، فما احتمالية أن تفعل ذلك ظواهر مثل «وباء الوحدة»، أو غالبية الانتخابات، أو صيحات جيل «زد»؟
لكن الجائحة كشفت لنا دروساً أخرى، فالناس سيئون في التنبؤ بسلوكهم المستقبلي - يكفي مقارنة التطعيمات المرتفعة فعلياً بالنسب المنخفضة في استطلاعات الرأي. كذلك، لا أحد ممن يدافعون عن مدن خالية من السيارات يبدو أنه فكر في الأمر ملياً؛ فحين اختفى ضجيج المرور، لم يحل محله الصفاء، بل ساد صمت جامد أقرب إلى العصور الوسطى منه إلى السكينة. لكن الدرس الأكبر، بعد خمس سنوات، هو مدى «رسوخ» الطبيعة البشرية أمام الأحداث العابرة.
كثيرون من المحافظين رأوا في تلك الفترة وما صاحبها من إجراءات تقييدية نموذجاً صارخاً للاستبدادية، لكن ربما كان من الأحرى بهم رؤيتها كـ«أسمى تصديق لنظرتهم إلى العالم».