الأمن الأوروبي مهدد بسبب فوضى ترامب
نيسان ـ نشر في 2025-03-10 الساعة 23:31
x
نيسان ـ تمتلك الولايات المتحدة ما يكفي من قوة للصمود، حتى بعد التخلي عن حلفائها القدامى. ولكن في حال نفذ الرئيس الأميركي تهديداته وقطع المساعدات عن أوكرانيا، فستدفع القارة برمتها ثمناً باهظاً.
إن تخلي الولايات المتحدة، تحت إدارة ترامب، عن أوكرانيا يهدد الأمن الأوروبي، ويكشف هشاشة اعتماد الاتحاد الأوروبي على واشنطن، ويستدعي تحركاً أوروبياً عاجلاً لإعادة التسلح وضمان الاستقلال الاستراتيجي قبل أن تؤدي الفوضى العالمية الجديدة إلى تداعيات كارثية.
***
ذات مرة، علق وزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، بقوله: "ربما تكون معاداة الولايات المتحدة أمراً خطيراً، لكن صداقتها قد تكون مميتة".
في الواقع، كان هنري كيسنجر، مهندس السياسة الخارجية في عهد ريتشارد نيكسون، يقر بهذا التصريح بأن البنتاغون مستعد لإلحاق أذى كبير بأي دولة غير نووية تحاول تحدي إرادة واشنطن. أما الدول الأضعف التي تراهن على القوة الأميركية لتعزيز قدراتها الدفاعية، فقد تجد نفسها في مهب الريح، بل وربما تواجه خطر الزوال بمجرد أن يسحب البيت الأبيض يده منها. في الحقيقة، يبدو أن شبح الانهيار الشائن في جنوب فيتنام في العام 1975 لم يفارق كيسنجر يوماً.
شكلت المواجهة التلفزيونية الصاخبة ليلة الجمعة الماضي في المكتب البيضاوي بين دونالد ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي جرس إنذار للأجيال في الغرب بشكل خاص، وإشارة إلى العالم، بما في ذلك الخصوم المحتملون، بأن المصالح الأميركية الأساسية لا تضع مصالح حلفائها في الحسبان.
بدت النخب السياسية الأوروبية مذهولة أمام المشادة التي شهدها المكتب البيضاوي؛ فكثيراً ما اعتبر قادة الاتحاد الأوروبي أن ثروات بلادهم ستمنحهم القدرة على شراء النفوذ لكتلتهم واستغلاله لمصلحتهم على المستوى العالمي، من دون أن يضطروا إلى الانغماس في دهاليز السياسة القذرة للقوة. ومع ذلك، كانت ستة أسابيع من عهد دونالد ترامب الثاني كافية لتبديد هذه الأوهام.
ولا تُقتصر المسألة على أن التزامهم تجاه أوكرانيا سيصبح أجوف في حال قرر ترامب قطع المساعدات الأميركية، بل إن الاعتماد الأمني للاتحاد الأوروبي على الولايات المتحدة أصبح هو أيضاً على المحك.
سوف يكون على الأميركيين اتخاذ قرار حاسم بشأن ما إذا كان التخلي عن أوكرانيا وتجاهل الأوروبيين سيسمح لهم بـ"جعل أميركا عظيمة مرة أخرى" -لكن الوقت يداهم الأوروبيين، وليس بإمكانهم التريث للتفكير في ما ينبغي عليهم فعله.
يقف الأوروبيون اليوم أمام واقع مرير، حيث يرون أنفسهم عاجزين عن تنفيذ استراتيجية دفاعية بديلة بين ليلة وضحاها -حتى لو توصلوا غداً إلى اتفاق حول تفاصيلها. وهكذا، فإن أفضل ما يمكن للمرء أن يأمله في المستقبل المنظور هو ألا يكتفي كير ستارمر بصياغة اتفاق لتغطية نقاط ضعفهم، بل أن يتوصل إلى خطة استراتيجية فعلية ومتفق عليها، تتضمن التزامات ملموسة وقابلة للتنفيذ.
في هذا السياق، يجدر التذكير بأن باراك أوباما؛ الرئيس الأميركي الذي يختلف بشكل جذري عن ترامب، كان يشعر بالإحباط من حلفائه الأوروبيين الذين ظلوا يكررون التزامهم بزيادة إنفاقهم على الدفاع، فقط ليعودوا ويتراجعوا لاحقاً عن هذا الالتزام.
على الرغم من تصريحات قادة الاتحاد الأوروبي بأنهم سيواصلون تقديم المساعدات لأوكرانيا بغض النظر عما يفعله ترامب، أظهرت أرقام حديثة أن الأوروبيين أنفقوا على مشتريات الطاقة من روسيا 3 مليارات دولار أكثر من المبلغ الذي خصصوه للمساعدات المقدمة لزيلينسكي.
أما الأهم من ذلك، فهو أن جزءاً كبيراً من المساعدات العسكرية المرسلة من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة إلى أوكرانيا يتألف في الواقع من أسلحة وذخائر وآليات أميركية الصنع -مع أن ثمنها يتم تسديده من جيوب دافعي الضرائب الأوروبيين، بغض النظر عن مزاعم ترامب. ومع ذلك، فإن قدرة أوروبا على مواصلة جهود الحرب الأوكرانية في غياب مشاركة الولايات المتحدة، وعلى تحديد مسار الأحداث المستقبلية في القارة، ستتطلب تقديم تضحيات كبيرة هنا في الغرب.
لا شك في أن قيام كير ستارمر بخفض موازنة المساعدات الخارجية سيظل أمراً بسيطاً بالمقارنة مع الزيادات الضريبية المتوقعة، ومع المبالغ الإضافية التي سيتعين اقتراضها لإعادة تسليح أنفسنا على جناح السرعة، مع العمل في موازاة ذلك على زيادة حجم المساعدات المقدمة لأوكرانيا.
في الأفق الأوكراني، تلوح أعراض انقسامات سياسية مثيرة للقلق. فمن جهة، قدم رئيس بلدية كييف، فيتالي كليتشكو، دعمه المتحفظ لزيلينسكي عقب المشادة التي وقعت في البيت الأبيض. ومن جهة أخرى، أدرك أصحاب المواقف العسكرية المتشددة في أوكرانيا، ومن بينهم نائب أوديسا، أولكسي غونتشارينكو، أن تصريحات الاتحاد الأوروبي ليست كفيلة بتدمير دبابات روسيا، وأن زيلينسكي أخطأ في تقدير الأثر الذي ستحدثه تعليقاته في البيت الأبيض.
إن المأساة التي تواجه زيلينسكي هي أن انتصار روسيا قد يحدد مصيره. ولكن، حتى من دون خسارته أمام بوتين، فإن الرئيس الأوكراني قد يتعرض للطعن في الظهر، حرفياً.
في بداية عهد زيلينسكي في العام 2019، هدد المتشددون العسكريون بالانقلاب عليه في حال أبرم اتفاقاً مع بوتين لتهدئة الحرب غير المعلنة في جنوب شرقي أوكرانيا. ومع ذلك، فإنهم قد يحاولون اليوم الإطاحة به بسبب معارضته ترامب ورفضه التعامل مع بوتين وفق الشروط الأميركية. وهكذا، فإن هذا المزيج من التطرف والانتهازية قد يتسبب في نشوب حرب أهلية داخلية، على غرار تلك التي أدت إلى انهيار الجمهورية الإسبانية في العام 1939 وسط تقاتل مختلف الفصائل في ما بينها بدلاً من التصدي لفرانكو.
لقد رفض زيلينسكي الخروج من كييف عندما أطلق بوتين غزوه منذ ثلاثة أعوام. ولكن، لا بد من أن تتحسب بريطانيا والدول الأوروبية الحليفة لأسوأ السيناريوهات، وأن تضع خطة طوارئ لإنقاذه من انقلاب داخلي أو من سيطرة روسية محتملة.
ختاماً، لا بد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة قوية بما فيه الكفاية للإبقاء على صدقيتها حتى لو تخلت عن حلفائها، وهو ما حصل في الماضي. أما بريطانيا وحلفاؤها الأوروبيون، فسيكون عليهم دفع الثمن اللازم لضمان صدقيتهم وسط الفوضى العالمية الجديدة. ولذلك، فإن وقوفنا إلى جانب حلفائنا القادة، حتى لو تعذر علينا إنقاذ بلدانهم -كما فعل ونستون تشرشل مع الحكومات الأوروبية في المنفى بعد العام 1940- يعد خطوة تمهيدية لحصولنا على فرصة، في المستقبل البعيد، لخلق عالم يساندنا ويخدم مصالحنا، إذا ما بذلنا الجهد اللازم لوقف الفساد والانهيار.
إن تخلي الولايات المتحدة، تحت إدارة ترامب، عن أوكرانيا يهدد الأمن الأوروبي، ويكشف هشاشة اعتماد الاتحاد الأوروبي على واشنطن، ويستدعي تحركاً أوروبياً عاجلاً لإعادة التسلح وضمان الاستقلال الاستراتيجي قبل أن تؤدي الفوضى العالمية الجديدة إلى تداعيات كارثية.
***
ذات مرة، علق وزير الخارجية الأميركي السابق، هنري كيسنجر، بقوله: "ربما تكون معاداة الولايات المتحدة أمراً خطيراً، لكن صداقتها قد تكون مميتة".
في الواقع، كان هنري كيسنجر، مهندس السياسة الخارجية في عهد ريتشارد نيكسون، يقر بهذا التصريح بأن البنتاغون مستعد لإلحاق أذى كبير بأي دولة غير نووية تحاول تحدي إرادة واشنطن. أما الدول الأضعف التي تراهن على القوة الأميركية لتعزيز قدراتها الدفاعية، فقد تجد نفسها في مهب الريح، بل وربما تواجه خطر الزوال بمجرد أن يسحب البيت الأبيض يده منها. في الحقيقة، يبدو أن شبح الانهيار الشائن في جنوب فيتنام في العام 1975 لم يفارق كيسنجر يوماً.
شكلت المواجهة التلفزيونية الصاخبة ليلة الجمعة الماضي في المكتب البيضاوي بين دونالد ترامب والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي جرس إنذار للأجيال في الغرب بشكل خاص، وإشارة إلى العالم، بما في ذلك الخصوم المحتملون، بأن المصالح الأميركية الأساسية لا تضع مصالح حلفائها في الحسبان.
بدت النخب السياسية الأوروبية مذهولة أمام المشادة التي شهدها المكتب البيضاوي؛ فكثيراً ما اعتبر قادة الاتحاد الأوروبي أن ثروات بلادهم ستمنحهم القدرة على شراء النفوذ لكتلتهم واستغلاله لمصلحتهم على المستوى العالمي، من دون أن يضطروا إلى الانغماس في دهاليز السياسة القذرة للقوة. ومع ذلك، كانت ستة أسابيع من عهد دونالد ترامب الثاني كافية لتبديد هذه الأوهام.
ولا تُقتصر المسألة على أن التزامهم تجاه أوكرانيا سيصبح أجوف في حال قرر ترامب قطع المساعدات الأميركية، بل إن الاعتماد الأمني للاتحاد الأوروبي على الولايات المتحدة أصبح هو أيضاً على المحك.
سوف يكون على الأميركيين اتخاذ قرار حاسم بشأن ما إذا كان التخلي عن أوكرانيا وتجاهل الأوروبيين سيسمح لهم بـ"جعل أميركا عظيمة مرة أخرى" -لكن الوقت يداهم الأوروبيين، وليس بإمكانهم التريث للتفكير في ما ينبغي عليهم فعله.
يقف الأوروبيون اليوم أمام واقع مرير، حيث يرون أنفسهم عاجزين عن تنفيذ استراتيجية دفاعية بديلة بين ليلة وضحاها -حتى لو توصلوا غداً إلى اتفاق حول تفاصيلها. وهكذا، فإن أفضل ما يمكن للمرء أن يأمله في المستقبل المنظور هو ألا يكتفي كير ستارمر بصياغة اتفاق لتغطية نقاط ضعفهم، بل أن يتوصل إلى خطة استراتيجية فعلية ومتفق عليها، تتضمن التزامات ملموسة وقابلة للتنفيذ.
في هذا السياق، يجدر التذكير بأن باراك أوباما؛ الرئيس الأميركي الذي يختلف بشكل جذري عن ترامب، كان يشعر بالإحباط من حلفائه الأوروبيين الذين ظلوا يكررون التزامهم بزيادة إنفاقهم على الدفاع، فقط ليعودوا ويتراجعوا لاحقاً عن هذا الالتزام.
على الرغم من تصريحات قادة الاتحاد الأوروبي بأنهم سيواصلون تقديم المساعدات لأوكرانيا بغض النظر عما يفعله ترامب، أظهرت أرقام حديثة أن الأوروبيين أنفقوا على مشتريات الطاقة من روسيا 3 مليارات دولار أكثر من المبلغ الذي خصصوه للمساعدات المقدمة لزيلينسكي.
أما الأهم من ذلك، فهو أن جزءاً كبيراً من المساعدات العسكرية المرسلة من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة إلى أوكرانيا يتألف في الواقع من أسلحة وذخائر وآليات أميركية الصنع -مع أن ثمنها يتم تسديده من جيوب دافعي الضرائب الأوروبيين، بغض النظر عن مزاعم ترامب. ومع ذلك، فإن قدرة أوروبا على مواصلة جهود الحرب الأوكرانية في غياب مشاركة الولايات المتحدة، وعلى تحديد مسار الأحداث المستقبلية في القارة، ستتطلب تقديم تضحيات كبيرة هنا في الغرب.
لا شك في أن قيام كير ستارمر بخفض موازنة المساعدات الخارجية سيظل أمراً بسيطاً بالمقارنة مع الزيادات الضريبية المتوقعة، ومع المبالغ الإضافية التي سيتعين اقتراضها لإعادة تسليح أنفسنا على جناح السرعة، مع العمل في موازاة ذلك على زيادة حجم المساعدات المقدمة لأوكرانيا.
في الأفق الأوكراني، تلوح أعراض انقسامات سياسية مثيرة للقلق. فمن جهة، قدم رئيس بلدية كييف، فيتالي كليتشكو، دعمه المتحفظ لزيلينسكي عقب المشادة التي وقعت في البيت الأبيض. ومن جهة أخرى، أدرك أصحاب المواقف العسكرية المتشددة في أوكرانيا، ومن بينهم نائب أوديسا، أولكسي غونتشارينكو، أن تصريحات الاتحاد الأوروبي ليست كفيلة بتدمير دبابات روسيا، وأن زيلينسكي أخطأ في تقدير الأثر الذي ستحدثه تعليقاته في البيت الأبيض.
إن المأساة التي تواجه زيلينسكي هي أن انتصار روسيا قد يحدد مصيره. ولكن، حتى من دون خسارته أمام بوتين، فإن الرئيس الأوكراني قد يتعرض للطعن في الظهر، حرفياً.
في بداية عهد زيلينسكي في العام 2019، هدد المتشددون العسكريون بالانقلاب عليه في حال أبرم اتفاقاً مع بوتين لتهدئة الحرب غير المعلنة في جنوب شرقي أوكرانيا. ومع ذلك، فإنهم قد يحاولون اليوم الإطاحة به بسبب معارضته ترامب ورفضه التعامل مع بوتين وفق الشروط الأميركية. وهكذا، فإن هذا المزيج من التطرف والانتهازية قد يتسبب في نشوب حرب أهلية داخلية، على غرار تلك التي أدت إلى انهيار الجمهورية الإسبانية في العام 1939 وسط تقاتل مختلف الفصائل في ما بينها بدلاً من التصدي لفرانكو.
لقد رفض زيلينسكي الخروج من كييف عندما أطلق بوتين غزوه منذ ثلاثة أعوام. ولكن، لا بد من أن تتحسب بريطانيا والدول الأوروبية الحليفة لأسوأ السيناريوهات، وأن تضع خطة طوارئ لإنقاذه من انقلاب داخلي أو من سيطرة روسية محتملة.
ختاماً، لا بد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة قوية بما فيه الكفاية للإبقاء على صدقيتها حتى لو تخلت عن حلفائها، وهو ما حصل في الماضي. أما بريطانيا وحلفاؤها الأوروبيون، فسيكون عليهم دفع الثمن اللازم لضمان صدقيتهم وسط الفوضى العالمية الجديدة. ولذلك، فإن وقوفنا إلى جانب حلفائنا القادة، حتى لو تعذر علينا إنقاذ بلدانهم -كما فعل ونستون تشرشل مع الحكومات الأوروبية في المنفى بعد العام 1940- يعد خطوة تمهيدية لحصولنا على فرصة، في المستقبل البعيد، لخلق عالم يساندنا ويخدم مصالحنا، إذا ما بذلنا الجهد اللازم لوقف الفساد والانهيار.