التراث الأردني والرأسمالية: الأصالة حين تُعاد صياغتها للبيع
نيسان ـ نشر في 2025-03-23 الساعة 22:57
نيسان ـ خلال إحدى التجارب التراثية التي قمتُ بها مؤخرًا، لفت انتباهي تقديم طبق "شرقي" كجزء من التجربة، فسألت ببساطة: لماذا هذا الطبق؟ لماذا لا يكون المنسف، أو المغموسة، أو البجيلة مثلًا؟ وجاءني الردُّ مباشرة: لأنّ المنسف "غير جاذب" سياحيًّا، ولا يصلح لأن يكون تجربة ضيافة لحاجته إلى تحضيرات مسبقة. في تلك اللحظة أدركت أننا لا نقدّم ما هو أردني بالضرورة، بل ما هو قابل للبيع، وأنّنا، دون وعي، نُعيد تكييف تراثنا لنُرضي ذوقًا خارجيًّا لا يمتّ لنا بصلة.
وأتعجّب كلّ العجب من استهلاك تجارب غير أردنية على هذه الأرض، فمِن المفهوم أن تتواجد تجارب تحاكي ثقافات أخرى بحكم وجود عمّال وافدين وطلاب يدرسون هنا، ولكن أن تُستهلك هذه التجارب من قبل الزوّار وأبناء البلد على حدّ سواء، فهو أمر يدعو للتساؤل، فإن كنّا نرغب في عيش أجواء القاهرة، فيمكننا زيارتها، وإن أردنا تجربة حمّام دمشقيّ أصيل، فدمشق ليست خيالًا، وهناك الكثير من الأمثلة القائمة التي لا توازيها، للأسف، أي مشاريع أردنية أصيلة.
هذا الموقف، ورغم بساطته، فتح أمامي بابًا واسعًا للتساؤل المشوب بشيء من الحسرة: هل ما نقدّمه للسائح هو فعلًا نحن؟ أم أنّه نسخة محسّنة ومفلترة منّا، تمّت إعادة إنتاجها وفق معايير الجذب لا معايير الأصالة؟ فما نعيشه اليوم يطابق تمامًا ما وصفه الباحث روبرت هيويسون بـ"صناعة التراث"، حيث يُعاد تشكيل الذاكرة الجمعية وفق متطلّبات السوق السياحي، ويُعاد ترتيب الموروث بما يخدم الخطاب التسويقي لا الخطاب الثقافي.
وما نمرّ به الآن هو حالة من الضياع، وصفها دين ماكانيل بـ"الأصالة المصطنعة"، حيث يتمّ تكييف التراث ليتوافق مع توقّعات الزائر الغربي، أمّا هوبزباوم فحذّر من اختراع تقاليد لا وجود لها أساسًا، تُقدَّم كحقيقة فقط لأنّ السوق يطلب ذلك، ومع تطوّر التجارب السياحية، واعتقاد العاملين في هذا المجال بأنّهم يقدّمون تجربة أصيلة، أصبح هذا المجال بحاجة إلى ضبط واضح، بجهدٍ مشتركٍ بين وزارة السياحة ومديرية التراث الثقافي غير المادي.
في الأردن، تظهر المفارقة جليّة، فنحن نروّج للتراث من خلال رموز قابلة للتسويق، فنحوّل المطبخ إلى ما يستمتع به السائح، والموسيقى إلى فقرة عرض رمضانية أو وطنية حصرا، والحكاية الشعبية تحت بند الخرافة لا الحقيقة، وكلّ ذلك لا لنعرض مَن نحن، بل لنُرضي مَن يزورنا، أو "أبناء البلد الباحثين عن تجارب جديدة"، فالرأسمالية الحديثة لا تستهلك المنتجات فقط، بل تستهلك الرموز والمعاني والهويّة، وتُفرغها من مضمونها وتُعيد تعبئتها في قوالب جذّابة وسهلة التقديم.
تُقدَّم اليوم مشاريع كثيرة تحت عنوان "الحفاظ على التراث" أو "حمايته"، لكنها تُقصي حقيقة الرواية، وتُقصي الحرفيين، وتضع التراث في قاعات عرض أنيقة لكنّها فارغة من الحياة، كما يُحذّر مايكل هيرزفيلد من "تجنيس التراث" وتحويله إلى عرضٍ عالميٍّ يفقد جذوره، وما زلت أطرح أسئلة برسم الإجابة: ما الفائدة من معرضٍ يعرض فناناتٍ من العالم العربي في عمّان؟ ولماذا يقدم المتحف الأجمل –في رأيي– من بين جميع المتاحف في العالم، محتوى عربيًّا غير متخصّص بالأرض؟
وهنا يبرز سؤال آخر: كيف نُعيد التوازن بين الأصالة والتسويق؟ كيف نمنع تحوّل التراث إلى "منتج" يفقد روحه لمجرّد أنّ السوق –والمسوّق– لا يفهمه؟
الجواب –برأيي– يبدأ من إدراكنا بأن التراث لا يُدار من قبل أصحاب المصالح التجارية، بل من قبل ناس من "جَوّا القصة"، من أهل البلد، من الحرفيين، والرُواة، والباحثين، والأكاديميين، من أصحاب الاختصاص الذين يعلمون بأنّ التراث الأردني ليس "كتالوجًا"، ولا واجهة عرض، بل هويّة أصيلة.
نحن لا نحتاج إلى رأسماليين يصوغون تجارب غير أصيلة تحت بند الاستثمار أو التجارة، نحن نحتاج إلى مَن يقدّم الأردن كما هو، دون زيف أو نقصان أو تكييف، إلى مَن يعلم جيّدًا أنّ "الأصالة خطّ أحمر"، إلى مَن يعتزّ بالدحيّة، وصوت المهباش، ورائحة القهوة بالهيل، والمغموسة، والمنسف، وكلّ ما هو أصيل ومتجذّر.
فإذا أردنا أن نوازن المشهد، علينا أن نتدخّل في تفاصيل أي مشروع، فكما نحصل على تراخيص صحيّة، يجب أن نحصل على "تراخيص أصالة"، وأن نُدقّق عند تصميم المنتج، فنحكي قصّتنا كما هي، لا كما يرغب السائح بسماعها، ونحافظ على هويتنا العظيمة دون نقص أو زيف أو تشويه.
وأتعجّب كلّ العجب من استهلاك تجارب غير أردنية على هذه الأرض، فمِن المفهوم أن تتواجد تجارب تحاكي ثقافات أخرى بحكم وجود عمّال وافدين وطلاب يدرسون هنا، ولكن أن تُستهلك هذه التجارب من قبل الزوّار وأبناء البلد على حدّ سواء، فهو أمر يدعو للتساؤل، فإن كنّا نرغب في عيش أجواء القاهرة، فيمكننا زيارتها، وإن أردنا تجربة حمّام دمشقيّ أصيل، فدمشق ليست خيالًا، وهناك الكثير من الأمثلة القائمة التي لا توازيها، للأسف، أي مشاريع أردنية أصيلة.
هذا الموقف، ورغم بساطته، فتح أمامي بابًا واسعًا للتساؤل المشوب بشيء من الحسرة: هل ما نقدّمه للسائح هو فعلًا نحن؟ أم أنّه نسخة محسّنة ومفلترة منّا، تمّت إعادة إنتاجها وفق معايير الجذب لا معايير الأصالة؟ فما نعيشه اليوم يطابق تمامًا ما وصفه الباحث روبرت هيويسون بـ"صناعة التراث"، حيث يُعاد تشكيل الذاكرة الجمعية وفق متطلّبات السوق السياحي، ويُعاد ترتيب الموروث بما يخدم الخطاب التسويقي لا الخطاب الثقافي.
وما نمرّ به الآن هو حالة من الضياع، وصفها دين ماكانيل بـ"الأصالة المصطنعة"، حيث يتمّ تكييف التراث ليتوافق مع توقّعات الزائر الغربي، أمّا هوبزباوم فحذّر من اختراع تقاليد لا وجود لها أساسًا، تُقدَّم كحقيقة فقط لأنّ السوق يطلب ذلك، ومع تطوّر التجارب السياحية، واعتقاد العاملين في هذا المجال بأنّهم يقدّمون تجربة أصيلة، أصبح هذا المجال بحاجة إلى ضبط واضح، بجهدٍ مشتركٍ بين وزارة السياحة ومديرية التراث الثقافي غير المادي.
في الأردن، تظهر المفارقة جليّة، فنحن نروّج للتراث من خلال رموز قابلة للتسويق، فنحوّل المطبخ إلى ما يستمتع به السائح، والموسيقى إلى فقرة عرض رمضانية أو وطنية حصرا، والحكاية الشعبية تحت بند الخرافة لا الحقيقة، وكلّ ذلك لا لنعرض مَن نحن، بل لنُرضي مَن يزورنا، أو "أبناء البلد الباحثين عن تجارب جديدة"، فالرأسمالية الحديثة لا تستهلك المنتجات فقط، بل تستهلك الرموز والمعاني والهويّة، وتُفرغها من مضمونها وتُعيد تعبئتها في قوالب جذّابة وسهلة التقديم.
تُقدَّم اليوم مشاريع كثيرة تحت عنوان "الحفاظ على التراث" أو "حمايته"، لكنها تُقصي حقيقة الرواية، وتُقصي الحرفيين، وتضع التراث في قاعات عرض أنيقة لكنّها فارغة من الحياة، كما يُحذّر مايكل هيرزفيلد من "تجنيس التراث" وتحويله إلى عرضٍ عالميٍّ يفقد جذوره، وما زلت أطرح أسئلة برسم الإجابة: ما الفائدة من معرضٍ يعرض فناناتٍ من العالم العربي في عمّان؟ ولماذا يقدم المتحف الأجمل –في رأيي– من بين جميع المتاحف في العالم، محتوى عربيًّا غير متخصّص بالأرض؟
وهنا يبرز سؤال آخر: كيف نُعيد التوازن بين الأصالة والتسويق؟ كيف نمنع تحوّل التراث إلى "منتج" يفقد روحه لمجرّد أنّ السوق –والمسوّق– لا يفهمه؟
الجواب –برأيي– يبدأ من إدراكنا بأن التراث لا يُدار من قبل أصحاب المصالح التجارية، بل من قبل ناس من "جَوّا القصة"، من أهل البلد، من الحرفيين، والرُواة، والباحثين، والأكاديميين، من أصحاب الاختصاص الذين يعلمون بأنّ التراث الأردني ليس "كتالوجًا"، ولا واجهة عرض، بل هويّة أصيلة.
نحن لا نحتاج إلى رأسماليين يصوغون تجارب غير أصيلة تحت بند الاستثمار أو التجارة، نحن نحتاج إلى مَن يقدّم الأردن كما هو، دون زيف أو نقصان أو تكييف، إلى مَن يعلم جيّدًا أنّ "الأصالة خطّ أحمر"، إلى مَن يعتزّ بالدحيّة، وصوت المهباش، ورائحة القهوة بالهيل، والمغموسة، والمنسف، وكلّ ما هو أصيل ومتجذّر.
فإذا أردنا أن نوازن المشهد، علينا أن نتدخّل في تفاصيل أي مشروع، فكما نحصل على تراخيص صحيّة، يجب أن نحصل على "تراخيص أصالة"، وأن نُدقّق عند تصميم المنتج، فنحكي قصّتنا كما هي، لا كما يرغب السائح بسماعها، ونحافظ على هويتنا العظيمة دون نقص أو زيف أو تشويه.
نيسان ـ نشر في 2025-03-23 الساعة 22:57
رأي: ريمان الدويك