اتصل بنا
 

تحطيم قبر أبي العلاء المعري

نيسان ـ نشر في 2025-04-04 الساعة 07:14

x
نيسان ـ في أحدث تجليات المأساة السورية، يأتي الهجوم الوحشي على قبر أبي العلاء المعري لتهدم جدران ضريحه. وهذا الهجوم ليس الأول من نوعه منذ اندلاع الثورة السورية، بل هو حلقة في سلسلة من الاعتداءات المتكررة. ويا للمفارقة، فبدلاً من أن يكرر السوريون محاولاتهم لفهم "رهين المحبسين"، يجدون أنفسهم يعيدون تكرار عدائهم لوعي ذلك الشاعر والفيلسوف المبدع. ولكن المعري، بحسه المرهف، استشرف هذه الحقيقة منذ زمن بعيد عندما قال: يكررني ليفهمني رجال كما كررت معنى مستفادا.
نحن، ويا لجهلنا، لم نكن نعلم أن وزير الثقافة السوري الجديد، "الشاعر" محمد صالح، سيُكَلّل أسبوعه الأول في الوزارة بوقوع هذا الهجوم الهمجي على ضريح صاحب المعرة، ولم نكن ندرك أن شعار "دمشق لنا إلى يوم القيامة" سيعني في تطبيقه البسيط إلغاء شاهد المعرة، "رهين المحبسين"، ووضعه في خانة النسيان.
كأن الظلاميين في "سوريا الجديدة" قرروا زيادة معاناة المعري بإضافة محبسه الثالث، وهو ظلامهم، كما لو كان ذلك انتقامًا ونكايةً بأدونيس، الذي قال قبل أيام قليلة إن المعري أعظم من دانتي، فهو الشاعر والفيلسوف الإنساني الكبير، بينما دانتي لم يكن سوى شخص حاقد وعنصري، منغلق في معتقداته الكنسية.
إذن، هي ربما كانت معركة إرادات بين دانتي ورهين المحبسين، وبين الشاهدين الحاضرين في هذه المأساة، الأول هو العملاق أدونيس، الذي بدا كأنه يحذر من الاستفراد برهين المحبسين، والثاني هو وزير الثقافة محمد صالح، الذي كان يصرخ بأن "دمشق له إلى يوم القيامة" في الوقت الذي كان فيه الضريح هدفًا للضلال وإلغاء الوعي السوري، نعم، فما هي في الحقيقة إلّا معركة الوعي ضد اللاوعي.
لكن ثمة شاهدًا ثالثًا في هذه المأساة؛ هو أبو سليمان، القادم من قرية الرصافة في مصياف، المكلوم بفقدان أهله على يد نفس العصابة الوحشية التي تنشر الرعب والدمار في شمال سوريا وأرجائها، وهناك أيضًا الشاهد الرابع، الشاهد الملك، الذي لا يتوانى عن إدارة المقتلة السورية اليوم، وتوجيه الهجمات على مواقع وبقايا الجيش، ترسيخًا لنيران الحرب، لتبقى مشتعلة بين قوى الهدم السوري الذاتي.
لكن المعري، العائد من بغداد العباسيين إلى عزلته، كان قد اعتاد على "الصدعات"، فقد داس جنود النظام السوري بأقدامهم مقامه قبل سنوات، وثقبوا جدران ضريحه بالرصاص، كأنهم يمعنون في اغتياله بعد ألف عام من موته، وبالمثل، فقد قتله التكفيريون بقطع رأس تمثاله قبل أكثر من عشر سنوات، واليوم، جاء من يهشم مخدعه في محاولة لتأكيد المجهلة السورية الكبرى، ورغم وجود لافتة تحذيرية مشهرة على ضريحه تقول: "جَنَاهُ أَبي عَلَيَّ وما جَنَيْتُ عَلَى أَحَدْ"، إلا أن ذلك لم يشفع له لا لدى النظام السوري الهالك، ولا لدى فصائل المعارضة الظلامية التي تسيطر اليوم على مفاصل الحياة السورية.
في عام 2013، قام مسلحون متشددون من الجماعات التكفيرية بقطع رأس تمثال المعري في معرة النعمان، وشوّهوا قاعدته وأطلقوا الرصاص عليه، هؤلاء المتطرفون انتقموا من المعري لأن نقده اللاذع للتعصب الديني كان يفضح بشاعة ممارساتهم، وقد قال المعري، في قولة لا تزال صالحة إلى يومنا هذا: اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا دين، وآخر ديّن لا عقل له.
هؤلاء الذين يزعمون أنهم ينتمون إلى "الثورة السورية"، هم أنفسهم الذين قطعوا رأس تمثال صاحب العقل، في فعل يعكس عقلية الجهل والتطرف التي تحكم فكرهم.
أما فيما يخص جنود النظام السوري السابق، فإنهم كانوا قد هاجموا ضريح المعري في معرة النعمان، اعتدوا على صاحب المقام في قبره، ونهبوا محتوياته، انتقامًا من أهل المعرة الذين ثاروا ضدهم، وما هذه الاعتداءات التي نراها اليوم وقبله، إلا تطبيق عملي لمنهج يعادي مبادئ المعري، الذي كان يرتكز على "الثورة"، بما هي تحرر من قيود الظلامية والقهر والعقل المصلوب.
اليوم، بينما تستمر الأطراف المتطرفة في صراعها للاستحواذ على السلطة في سوريا، لا تجد إلّا الحقد والجهل لتفرغه على رجل قضى منذ أكثر من ألف عام، تأكيدًا على يقينه بأن هذه الأرض ما هي إلا مقبرة هائلة، كما قال في تحذيره: خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذي الأجساد.

نيسان ـ نشر في 2025-04-04 الساعة 07:14

الكلمات الأكثر بحثاً