اتصل بنا
 

سِكّير للقاص الاردني نوح كرايمة 

نيسان ـ نشر في 2015-12-14 الساعة 11:30

x
نيسان ـ

- بكم تلك؟

- تقصد الفودكا؟

- نعم نعم، تلك الزجاجة.

- بدينار .

- اجعلها بتسعين قرشًا.

- " روح انقلع من هون، دوّر على خمّارة ثانية بلكي باعوك إياها ببلاش" .

- " لا لا، خلص يزم هاتها، لويش معصب؟ " .

أخذ الزجاجة وغادر، " يلعن أبو شرف شرفك ما أقرفك! " ، هكذا قال عن صاحب الخمارة بينه وبين نفسه، صاحب الخمارة هذا رجلٌ عجوز سيء التعامل جدًّا مع زبائنه، وجهُهُ مخيف، يلبس نظارةً تغطي نصف وجهه، عيونه كعيون الأفعى، طويلٌ سمين، شعره أبيض بالكامل كرغوة الصابون، صوته قبيح كصوت الغراب، لا يجيد التعامل إلّا بجلافة.

أخذ السِكّير زجاجة فودكا من النوع الرديء، على بعد أمتارٍ من الخمارة توجد زقةٌ فيها مساكن قديمة مهجورة مليئة بالقاذورات والزبالة، يحلو للسِكّير أنْ يسكر فيها، ويشرب من فم الزجاجة مباشرةً، لا يخلط الخمرة بالماء أو الثلج أو العصائر، على العلم أنّ من السهل عليه أن يشرب حسب الأصول وفي مكانٍ نظيفٍ مرتب! لكنّه أحبّ هذه الطريقة وأدمن عليها بعدَ أنْ تحرج من الجامعة، وبعد أنْ فُصلَ من عمله في إحدى المؤسسات الحكوميّة لتأخره المستمر عن الدوام!

اكتشفَ مشروبًا آخر غير الفودكا، إنّه العرق، من النادر جدًّا أنْ تجد أحدًا يشرب العرق دون خلطه بالماء والثلج، عشِقَ هذا المشروب بدون ماءٍ ولا ثلج، إنّه مشروب لا يمزح، يضربُ مباشرةً، وكعادته لم يكن يشربه في البيت أو في سهرةٍ جماعيّة مرتبة منظمة " لا أبدًا، شُربُ العرق في الأحياء الشعبيّة وزقاقها القذرة أفضل، على دَرَجٍ صاعد طويل قديم يوصل من شارع إلى آخر، على دَرَجٍ في بنايةٍ قديمة، على دَرَجٍ قذر في بناية يوصلُ إلى بيت دعارة، لكنكم لا تفهمون في الأصول والإتيكيت"، هكذا كان يقول لأصدقائه الذين كانوا يستغربون من تصرفاته الغريبة ويضحكون منها ومنه، ويضحك معهم كذلك!

توصلَ إلى طريقةٍ للتخفيف من لذعة العرق، طبعًا ليس خلطه بالماء والثلج، مرّة من المرات، وبعدَ أنْ اشترى زجاجة عرق، وذهب إلى الزقاق القريبة من الخمارة وبدأ يشرب، أحسَّ بلذعةٍ قويةٍ في الحلق وفي المعدة، نزلتْ دموعه، كأنَّ أحدًا جاء برأس بصل مُقشر ووضعه في عيونه، عاندَ هذا كلّه وأكمل الشرب حتى انتهت الزجاجة، فرماها أرضًا وانكسرتْ، " إححححح " ، قال هذا من شدة اللذع، ظلَّ واقفًا في مكانه كالصنم، حاجةٌ قويّةٌ إلى التقيؤ، قاومها بعنف، شنّجَ شفتيه، لكن بلا فائدة، جاءته فكرة، تخيّلَ أن هذا العرق عرق امرأة فاتنة حسناء، تعيش في مدينةٍ مطلةٍ على بحر، لم يمسسها أحدٌ لأنّها لا ترضى بأيّ أحد، وافقت عليه هو فقط، وكيف وافقت؟! وافقت بأنْ أهدتْه عرقَها واضعةً إياه في زجاجة بعدَ أن أكملت رياضتها على شاطئ البحر! هذا ما تخيّله، فتحولت اللذعة إلى لذة لا توصف، عاد إلى رشده أخيرًا !

خرج من الزقاق متثاقلاً تثاقلاً لذيذاً، الحياة في المدينة تمشي ببطء، هكذا يراها، كأنّها فيلم يُعرض عرضًا بطيئًا، كلّ الذين أمامه كائناتٌ مائيّة تتلاصق وتنفصل، خدرٌ جميل في رجليه، صوتٌ في أذنيه شبيهٌ بذلك الصوت الذي نسمعه ونحن نغرق، أوصلتْه رجلاه بصعوبةٍ إلى الحافلة، فهو على موعدٍ مع أصدقائه وصديقاته في مقهى قريب، كان يوماً شتائيًا باردًا من أيام كانون الأول.

في الحافلة، أصبح كلُّ مَنْ فيها أصدقاءه الآن، ينظرُ بعينيه الحمراوين إليهم، يوزّع ابتساماته بكلّ وقاحة كأنّه يعرفهم منذ سنين، يريد أن يزجرَ الجالسين في الكراسي أمامه ويسألهم عن الساعة، علمًا بأنّ ساعةً في يده، يريد أن يقول لهم : " والله الجو بارد كثير اليوم " .

اجتمع مع الأصدقاء والصديقات في المقهى، ضحكوا حتى كادت أحشاؤهم أن تخرج، أكثر من ثلاث ساعات وهم يقهقهون، ودّعوا بعضهم بحبّ، غادر كلٌّ منهم إلى بيته، في الطريق إلى بيته اشترى السِكّير مجموعةً من الكتب كعادته، إذ بقي شيءٌ من المال الذي كسبه من بعض الأعمال الحرّة التي يعملها بشكلٍ متقطع، يعمل ليسكر، ويسكر ليعمل!

" لقد حاولت أن أكون في حياتي مثاليًا، كانت أحلامي أكبر من الواقع أو الواقع أكبر منها، لا أدري بالضبط، لم أصبح مثاليًا طبعًا بل كنتُ عكس ذلك تمامًا، أو لم أكن، لا أدري ... عمري الآن ثلاثةٌ وثلاثون عامًا، لا أدري لأنني مؤخرًا أصبحت أتوه في تعريف المفاهيم، ولكي أنهي هذه الدوّامة من رأسي، حاولتُ جاهدًا أنْ أجرّد المفاهيم من معانيها، أصبحتُ أمثّلُ هذا التجرد على أرض الواقع، صرتُ أكسرُ القواعد الاجتماعيّة، ولم أجد ضالتي في هذا الكسر إلّا في السُكر، المجتمع يعيبُ السُكرَ خصوصًا إذا كان علنيًا؟ إذن، سأسكر أمام الناس، في الأماكن العامة، فلا معنى لكلامهم ولا معنى لسلوكي، من كَثرِ ما كنتُ فاشلاً اخترتُ السُكرَ وسيلةً لتمثيل فكرتي على أرض الواقع، إن كان للفشل معنى، وإن كان للنجاح معنى!

بتمثيلي لفكرتي الفاشلة أو الناجحة على الواقع لم أخرج إذن من إعطاء المعاني للأشياء، لا مخرج ... لا مخرج لا من المعاني ولا من المفاهيم، ولا من الأحلام ولا من الواقع ما دمتُ ههنا في الحياة، المخرج الوحيد هو إعمالُ ثقب في الأرض وتوسيعه ليكون على مقدار جسدي أدخلُ فيه وأهرب، لا مخرج إلا بالموت، وأشكّ أيضًا في هذا الحلّ!

تورطتُ في شيءٍ آخر دعمَ فكرة الموت والمغادرة عندي، إنّه العشق، لا أقصد عشقَ امرأة ولا هم يحزنون، بل عشق الوجود والكون، فلم أعدْ أكتفي بالاستمتاع بمنظر الغروب، وإنّما أريد السفر إليه للتوحد معه، ولم أعد أكتفي بحبّ الأشجار والحيوانات والحشرات والطير والجماد، وإنّما أريد السفر إلى كلّ هذا لأتوحدَ معه، لم أعد أحبّ الأرض والتمتّع في النظر إليها، بل أريد أن أكون ذرة تراب!

أشواقٌ غريبة باتتْ تقوى وتزداد مع الأيام، اشتقتُ إلى الله جدًّا، سأسافر إليه، بأنْ أموت، لأتوحدَ معه في قبره هناك ... " .

- هذه الكلمات وجدوها مكتوبةً على ورقة مرميّة على طاولة في غرفته بعدَ أن دفنوه في السابع والعشرين من كانون الأول سنة ألفين وتسعة .

نيسان ـ نشر في 2015-12-14 الساعة 11:30

الكلمات الأكثر بحثاً