اليافطة”الخظرا” والتغريب وارتباك الذاكرة..
نيسان ـ نشر في 2025-04-12 الساعة 18:53
نيسان ـ كلّما حاولت أن أفتح نافذةً جديدة في الكتابة، أُفاجَأ بأنّها تطلّ على ذات المشهد، هذا المشهد الذي اسبح فيه في دوّامة من الإحباط ، تبدأ من الشارع، ولا تنتهي أبدا، كنت أظنّ "وخاب ظني"، لفترة طويلة، أنّ شارع المدينة الطبية ومحيط قصر الحسينيّة وإشارات النسر، تُشكّل مشهدًا حضريًّا أنيقًا، يغذّي الذاكرة البصريّة بشعورٍ جماليٍّ يتجاوز العمارة والشجر والمسجد والحديقة، إلى شيء أعمق، وهو الشعور بالانتماء للمكان والرغبة في تعميم هذه الجمالية على عمان، لكنّ تلك اليافطة المرتجلة الخضراء المضيئة في الظلام الحالك التي اقتحمت أحد الأكشاك هناك، كانت كافية لتكسر هذا التناسق، فاليافطة لم تكن قبيحةً فقط، بل كانت طعنه للطابع الذي يحكم الفضاء العام.
شعوري تجاه هذه اليافطة، قد يرى بأنه شعور آني، لكني ادرك قطعا اثره في خلخلة الذاكرة الجمعية، التي ترتبط بالمكان لا بوصفه نقطة على الخريطة، بل كمستودع للهوية، هذه الخسارة الرمزية لما أراه، تفتح فجوة بين ما أعيشه وبين ما أتذكّره، وتُنتج نوعًا من الاغتراب النفسي الذي لا يُفهم إلا عبر مفاهيم الحنين المركّب، حيث لا أشتاق فقط لما كان، بل لما كنتُ أنا فيه.وهذا ما يجعلني أربط بين ذلك المشهد العابر، ومشهد آخر يتكرّر في أكثر من مكان، في المشاريع السياحية الجديدة التي تنتشر في مدننا بحفاوة لافتة، لكنها لا تحتفي بما هو منّا، بل تقدّم نسخًا ناعمة من ثقافاتٍ أخرى، فيُستبدل المطبخ المحلي بنكهات دخيلة، وتُزاح “لزاقياتنا” بمنتجات مستوردة، وتتحوّل تجربة الزائر من دخول في خصوصيتنا إلى تجوّل في قشرة منمّقة لا تشبهنا، ولا تشبه الذين مرّوا من هنا.
هذه الحالة ليست نتيجة لانفتاح ثقافي متبادل، بل انعكاس لاستلاب ثقافي واضح، يظهر حين تُختار العناصر الأجنبية عنّا لتكون عنوانًا للحداثة، في حين يُترك الموروث المحلي على الهامش، فالسائح " مقبل علينا" يتعرف على الثقافة والتراث والهوية الأردنية الأصيلة لا ليرتدي زي عثماني في قلعة اردنية ولا ليتذوق كيكة الحليب "التريليتشي" المنتشرة في جميع محلات الحلويات، وهنا تبرز أزمة هوية حقيقية، لا على مستوى الفرد فقط، بل على مستوى الجماعة التي لم تعد تمتلك تمثيلًا بصريًا ثابتًا في فضائها العام ولا محتوى تراثي حقيقي تقدمه للزائر.
ولعل ما يعمّق هذا التوتر الداخلي هو شعوري المتكرر بأنني ممزّقة بين تقديري لبعض هذه المشاريع من حيث قدرتها على تحسين الواقع الاقتصادي والسياحي، وبين رفضي التام لشكلها ومحتواها، وهو ما يخلق بداخلي صراعًا نفسيًّا يسمّيه علماء النفس بالتناقص المعرفي، حين لا ينسجم الفكر مع الشعور، وحين لا يعود الرضا ممكنًا دون إعادة صياغة القيم أو السلوك، فإمّا أن أبرر هذا التناقض وأصمت، أو أرفضه علنًا وأكتب، وقد اخترت الكتابة لا لتُرضي، بل لتُنبّه.فالتراث، في هذا السياق، لا يندرج ضمن ما يُستعرض، بل ينتمي إلى ما يُدافع عنه، لأنه ليس مجرد ماضٍ، بل رصيد مستقبليّ، ليس أرشيفًا محفوظًا، بل خطاب حيّ في مواجهة التجريف، وما أكثر ما نحتاج لهذا الخطاب، لا بصفته عاطفيًّا، بل بوصفه مشروعًا للممانعة الرمزية في وجه ثقافة عابرة لا ترى في المكان سوى فرصة استهلاكية.
إن إعادة تشكيل المدن ليست قرارًا هندسيًا عند أمانة عمان أو تحت بلدية ما، بل قرار له ما له من الأثر على الوعي الجمعي، وعلى الإحساس بالانتماء، فالجمال في السياق الاردني ليس ترفًا، بل شرطًا من شروط الطمأنينة، وما نشهده من فقدان للجماليات الأصيلة، وما يُرافقه من انهيار في الذوق العام، ما هو إلا وجه من وجوه الانقطاع العميق عن الذاكرة الجماعية، وعن سرديّات المكان الذي كان، والذي لم يعُد.لكن، ورغم هذا الاضطراب، ما زلت أؤمن أن الأمل ممكن، لا في الرجوع إلى الوراء، بل في التقدّم باتجاه أصالةٍ مصمّمة بوعي، حداثةٍ تُبنى على أرضٍ معروفة، لا على صور مستوردة، ومشاريع سياحية تُبنى لا لتُدهش الآخر، بل لتُعرّفه بنا، وتُعرّفنا بأنفسنا من جديد.
فالمدن التي تنسى ما كانت عليه، لا تعرف كيف تكون، وكلّما فقدنا مشهدًا بصريًّا من تراثنا، كلما خسرنا جزءًا من أنفسنا، وكلّما أبقينا قوسًا حجريًا، أو شريطًا من نسيج مألوف، أو اسمًا من أسماء قُرانا على لافتة، كلما احتفظنا بخيطٍ يصل بين ما نحن عليه، وما نريد أن نكون.
شعوري تجاه هذه اليافطة، قد يرى بأنه شعور آني، لكني ادرك قطعا اثره في خلخلة الذاكرة الجمعية، التي ترتبط بالمكان لا بوصفه نقطة على الخريطة، بل كمستودع للهوية، هذه الخسارة الرمزية لما أراه، تفتح فجوة بين ما أعيشه وبين ما أتذكّره، وتُنتج نوعًا من الاغتراب النفسي الذي لا يُفهم إلا عبر مفاهيم الحنين المركّب، حيث لا أشتاق فقط لما كان، بل لما كنتُ أنا فيه.وهذا ما يجعلني أربط بين ذلك المشهد العابر، ومشهد آخر يتكرّر في أكثر من مكان، في المشاريع السياحية الجديدة التي تنتشر في مدننا بحفاوة لافتة، لكنها لا تحتفي بما هو منّا، بل تقدّم نسخًا ناعمة من ثقافاتٍ أخرى، فيُستبدل المطبخ المحلي بنكهات دخيلة، وتُزاح “لزاقياتنا” بمنتجات مستوردة، وتتحوّل تجربة الزائر من دخول في خصوصيتنا إلى تجوّل في قشرة منمّقة لا تشبهنا، ولا تشبه الذين مرّوا من هنا.
هذه الحالة ليست نتيجة لانفتاح ثقافي متبادل، بل انعكاس لاستلاب ثقافي واضح، يظهر حين تُختار العناصر الأجنبية عنّا لتكون عنوانًا للحداثة، في حين يُترك الموروث المحلي على الهامش، فالسائح " مقبل علينا" يتعرف على الثقافة والتراث والهوية الأردنية الأصيلة لا ليرتدي زي عثماني في قلعة اردنية ولا ليتذوق كيكة الحليب "التريليتشي" المنتشرة في جميع محلات الحلويات، وهنا تبرز أزمة هوية حقيقية، لا على مستوى الفرد فقط، بل على مستوى الجماعة التي لم تعد تمتلك تمثيلًا بصريًا ثابتًا في فضائها العام ولا محتوى تراثي حقيقي تقدمه للزائر.
ولعل ما يعمّق هذا التوتر الداخلي هو شعوري المتكرر بأنني ممزّقة بين تقديري لبعض هذه المشاريع من حيث قدرتها على تحسين الواقع الاقتصادي والسياحي، وبين رفضي التام لشكلها ومحتواها، وهو ما يخلق بداخلي صراعًا نفسيًّا يسمّيه علماء النفس بالتناقص المعرفي، حين لا ينسجم الفكر مع الشعور، وحين لا يعود الرضا ممكنًا دون إعادة صياغة القيم أو السلوك، فإمّا أن أبرر هذا التناقض وأصمت، أو أرفضه علنًا وأكتب، وقد اخترت الكتابة لا لتُرضي، بل لتُنبّه.فالتراث، في هذا السياق، لا يندرج ضمن ما يُستعرض، بل ينتمي إلى ما يُدافع عنه، لأنه ليس مجرد ماضٍ، بل رصيد مستقبليّ، ليس أرشيفًا محفوظًا، بل خطاب حيّ في مواجهة التجريف، وما أكثر ما نحتاج لهذا الخطاب، لا بصفته عاطفيًّا، بل بوصفه مشروعًا للممانعة الرمزية في وجه ثقافة عابرة لا ترى في المكان سوى فرصة استهلاكية.
إن إعادة تشكيل المدن ليست قرارًا هندسيًا عند أمانة عمان أو تحت بلدية ما، بل قرار له ما له من الأثر على الوعي الجمعي، وعلى الإحساس بالانتماء، فالجمال في السياق الاردني ليس ترفًا، بل شرطًا من شروط الطمأنينة، وما نشهده من فقدان للجماليات الأصيلة، وما يُرافقه من انهيار في الذوق العام، ما هو إلا وجه من وجوه الانقطاع العميق عن الذاكرة الجماعية، وعن سرديّات المكان الذي كان، والذي لم يعُد.لكن، ورغم هذا الاضطراب، ما زلت أؤمن أن الأمل ممكن، لا في الرجوع إلى الوراء، بل في التقدّم باتجاه أصالةٍ مصمّمة بوعي، حداثةٍ تُبنى على أرضٍ معروفة، لا على صور مستوردة، ومشاريع سياحية تُبنى لا لتُدهش الآخر، بل لتُعرّفه بنا، وتُعرّفنا بأنفسنا من جديد.
فالمدن التي تنسى ما كانت عليه، لا تعرف كيف تكون، وكلّما فقدنا مشهدًا بصريًّا من تراثنا، كلما خسرنا جزءًا من أنفسنا، وكلّما أبقينا قوسًا حجريًا، أو شريطًا من نسيج مألوف، أو اسمًا من أسماء قُرانا على لافتة، كلما احتفظنا بخيطٍ يصل بين ما نحن عليه، وما نريد أن نكون.
نيسان ـ نشر في 2025-04-12 الساعة 18:53
رأي: ريمان الدويك