السردية تكتب عن نزيه أبو نضال.. ناقشَ الحبرَ على كفِّ القمر
نيسان ـ نشر في 2025-04-21 الساعة 11:58
نيسان ـ "رجلٌ جاء وذهب، لكنّ مجيئه لم يكن مرتجلاً، بل كان حافلًا مورقًا، حيث وضع توقيعه نهاية السطر.
وكذلك لم يكن ذهابه عاديًا، بل وكأنه قرر اختيار اللمسة الأخيرة...
رحل، متلفّعًا بنضالاته، محتضنًا كتاباته، مناديًا في وادي عروبته على أمته التي أحبّها، فلم يُجبه سوى الصدى...
لتكن قيامتك حيث الراحة الأبدية، أيها النبيل الأصيل."
أُعيد نشر ما كتبته عن جزءٍ من مسيرته الحافلة، وكانت هديتي له في ذكرى مولده في وقتٍ مضى...
وفرح بها يوم ذاك كفرحة أول صباحات العيد.
الطفل أمام بوابة الحياة
كنتُ أطوي كتاب مذكرات نزيه أبو نضال، من أوراق ثورة مغدورة، وأذهب لأبحث عن بعض الأسماء في عالم "غوغل"، لأرى صور من جاء على ذكرهم في تلك المذكرات أو في الاسترجاعات التي جاءت إثر لقاء أجراه معه الباحث الدكتور زياد منى – رحمه الله.
أخذت المذكرات مسارب عدّة، ما بين الشخصي، الذي لا بد منه، إلى العام، حيث تشكل وتكوّن وعي الرجل في مراحله المختلفة، حتى ليبدو وكأنه لم يعش حياةً واحدة، بل حيوات كثيرة.
من الإرهاصات الأولى – وكما قال:
"الإنسان ابن شرطه الثقافي والاجتماعي ومكوناته المعرفية والذهنية والنفسية" –
إلى المرحلة النضالية، فالتنقّل بين العواصم والمدن والمحطات، إلى التأليف والتنظير والكتابة في عشرات الصحف والمجلات العربية، التي توّجت بمجموعات من الكتب في شتى ميادين الثقافة والأدب والسياسة.
التكوين الثقافي والوجداني الأول
عن تكوينه الثقافي ونهمه القرائي، يقول:
"صحوت على الدنيا في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وجدت في بيتنا مكتبة ورثها أخي عن خالي، طوّرها من دخله الزهيد كميكانيكي. قرأت كل ما وقع تحت يدي؛ قصصًا، شعرًا، روايات بوليسية، كتبًا لكتّاب مهمين أو مجهولين."
لاحقًا، تعرّف على مكتبة قرب الجامع الحسيني، كان يستأجر منها الكتاب بـ"نصف قرش".
أحيانًا، كان ينهي قراءة الكتاب قبل أن يصل البيت!
كان لتلك القراءات المبكرة أثرٌ كبير، كما يقول، في صوغ منظومة من القيم والأخلاقيات، وتعلّم منها معنى الصداقة الحميمة التي جمعته بأصدقاء العمر: نزيه خوري، منيب حداد، فخري قعوار، وغيرهم.
نموّ المراهق واتّساع إطار الصورة
امتدت قراءاته لاحقًا إلى نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، تولستوي، ديكنز، جاك لندن، هوغو، مكسيم غوركي، وسارتر وكامو.
أما الكتاب المفصلي، فكان قصة الحضارة لوِل ديورانت:
"بعد قراءة هذا الكتاب، غادرت الفكر اللاهوتي إلى الفكر العلماني، إذ اكتشفت أن كل تاريخ الأديان مترابط متشابه. بعد ذلك، أصبحت حرًا خارج المألوف، قادرًا على بلورة ما أقتنع به من قرارات."
أول مظاهرة شارك فيها كانت ضد "حلف بغداد"، وكان بعمر الرابعة عشرة فقط.
وقد اختبر، مع أسرته، أشكالًا من التواطؤ النبيل مع النضال، من إيواء مطاردين إلى إخفاء منشورات سرية.
لنضع النقاط على الحروف
انتقل إلى مدرسة الأحنف بن قيس، وانضمّ من خلالها إلى حركة القوميين العرب.
راوده حلم القاهرة، لكن أخاه اعتذر عن مساعدته.
فكتب له نزيه رسالة بعنوان لنضع النقاط على الحروف، كانت مفتاح الرحلة:
"سأعمل وأدرس بالمراسلة."
عمل أولًا في محل حدادة، ثم تدخّل صديق للعائلة تأثر برسالته وتكفّل بسفره إلى القاهرة.
القاهرة.. ونضج الحلم
في القاهرة، سكن مع فخري قعوار وهشام يانس.
تعرّف إلى نجيب محفوظ وجمال الغيطاني وغالب هلسه، وحضر مسارح ودور أوبرا، وقرّبته سور الأزبكية من عشرات العوالم الأدبية والفكرية.
نكسة حزيران.. نقطة وسطر جديد
بعد نكسة 1967، قرر ترك الدراسة والانضمام إلى "فتح"، فسافر إلى دمشق ومنها إلى معسكرات الفدائيين، واتّخذ اسم "نزيه أبو نضال".
"اكتشفت لاحقًا أن الهزائم الكبرى لا تصنعها الضربات الكبرى، بل الممارسات اليومية، والتفاصيل الصغيرة حيث تكمن الشياطين."
جولة حول الشرق
زار الصين، كوريا الشمالية، الهند، فيتنام، كوبا، فرنسا، إسبانيا.
التقى قادة كبارًا مثل شوان لاي، أنديرا غاندي، كيم إل سونغ، وتعرّف إلى تجارب الشعوب في الكفاح والتنمية.
النشاط الثقافي والإعلامي
كتب في السفير، اللواء، الهدف، الدستور، وعمل في إذاعات "زمزم"، "صوت فلسطين"، "صوت لبنان العربي".
أخرج أفلامًا وثائقية، وفاز بجوائز في مهرجان بغداد.
أسهم في تأسيس الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وترأس فرعه في لبنان لسنوات طويلة.
من كتبه:
الشعر الفلسطيني
أدب السجون
مواجهات سياسية
الثقافة والديمقراطية
حدائق الأنثى
تمرد الأنثى
الكتابة الساخرة
القصة القصيرة الأردنية
حطّ الرحال وركن حقائب التعب
قال:
"أتلفّت حولي لا أرى أحدًا...
ورفاق دربي قد غدوا بددًا
وقد تساوت العواصم والخيل
وبات من يرى كمثل من به رمدا...
فشدّدتُ الرحال إلى عمّان
وقد ضيّعتُ من استُشهد ومن ضحّى ومن شهِدَا"
عاد إلى عمّان، فواصل العمل الثقافي والفكري، وشارك في تأسيس وتفعيل مؤسسات أردنية وعربية ثقافية.
نال جوائز وتكريمات عديدة، وبقي ينبض بالحرف ويقاوم الانطفاء، وينثر الحبر على كفّ القمر.
وهكذا قال...
"فهل من طفلٍ طالعٍ قد تبرعمَ بالندى...
يمضي للأمام واثقًا بما وجد؟"
وكذلك لم يكن ذهابه عاديًا، بل وكأنه قرر اختيار اللمسة الأخيرة...
رحل، متلفّعًا بنضالاته، محتضنًا كتاباته، مناديًا في وادي عروبته على أمته التي أحبّها، فلم يُجبه سوى الصدى...
لتكن قيامتك حيث الراحة الأبدية، أيها النبيل الأصيل."
أُعيد نشر ما كتبته عن جزءٍ من مسيرته الحافلة، وكانت هديتي له في ذكرى مولده في وقتٍ مضى...
وفرح بها يوم ذاك كفرحة أول صباحات العيد.
الطفل أمام بوابة الحياة
كنتُ أطوي كتاب مذكرات نزيه أبو نضال، من أوراق ثورة مغدورة، وأذهب لأبحث عن بعض الأسماء في عالم "غوغل"، لأرى صور من جاء على ذكرهم في تلك المذكرات أو في الاسترجاعات التي جاءت إثر لقاء أجراه معه الباحث الدكتور زياد منى – رحمه الله.
أخذت المذكرات مسارب عدّة، ما بين الشخصي، الذي لا بد منه، إلى العام، حيث تشكل وتكوّن وعي الرجل في مراحله المختلفة، حتى ليبدو وكأنه لم يعش حياةً واحدة، بل حيوات كثيرة.
من الإرهاصات الأولى – وكما قال:
"الإنسان ابن شرطه الثقافي والاجتماعي ومكوناته المعرفية والذهنية والنفسية" –
إلى المرحلة النضالية، فالتنقّل بين العواصم والمدن والمحطات، إلى التأليف والتنظير والكتابة في عشرات الصحف والمجلات العربية، التي توّجت بمجموعات من الكتب في شتى ميادين الثقافة والأدب والسياسة.
التكوين الثقافي والوجداني الأول
عن تكوينه الثقافي ونهمه القرائي، يقول:
"صحوت على الدنيا في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وجدت في بيتنا مكتبة ورثها أخي عن خالي، طوّرها من دخله الزهيد كميكانيكي. قرأت كل ما وقع تحت يدي؛ قصصًا، شعرًا، روايات بوليسية، كتبًا لكتّاب مهمين أو مجهولين."
لاحقًا، تعرّف على مكتبة قرب الجامع الحسيني، كان يستأجر منها الكتاب بـ"نصف قرش".
أحيانًا، كان ينهي قراءة الكتاب قبل أن يصل البيت!
كان لتلك القراءات المبكرة أثرٌ كبير، كما يقول، في صوغ منظومة من القيم والأخلاقيات، وتعلّم منها معنى الصداقة الحميمة التي جمعته بأصدقاء العمر: نزيه خوري، منيب حداد، فخري قعوار، وغيرهم.
نموّ المراهق واتّساع إطار الصورة
امتدت قراءاته لاحقًا إلى نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، تولستوي، ديكنز، جاك لندن، هوغو، مكسيم غوركي، وسارتر وكامو.
أما الكتاب المفصلي، فكان قصة الحضارة لوِل ديورانت:
"بعد قراءة هذا الكتاب، غادرت الفكر اللاهوتي إلى الفكر العلماني، إذ اكتشفت أن كل تاريخ الأديان مترابط متشابه. بعد ذلك، أصبحت حرًا خارج المألوف، قادرًا على بلورة ما أقتنع به من قرارات."
أول مظاهرة شارك فيها كانت ضد "حلف بغداد"، وكان بعمر الرابعة عشرة فقط.
وقد اختبر، مع أسرته، أشكالًا من التواطؤ النبيل مع النضال، من إيواء مطاردين إلى إخفاء منشورات سرية.
لنضع النقاط على الحروف
انتقل إلى مدرسة الأحنف بن قيس، وانضمّ من خلالها إلى حركة القوميين العرب.
راوده حلم القاهرة، لكن أخاه اعتذر عن مساعدته.
فكتب له نزيه رسالة بعنوان لنضع النقاط على الحروف، كانت مفتاح الرحلة:
"سأعمل وأدرس بالمراسلة."
عمل أولًا في محل حدادة، ثم تدخّل صديق للعائلة تأثر برسالته وتكفّل بسفره إلى القاهرة.
القاهرة.. ونضج الحلم
في القاهرة، سكن مع فخري قعوار وهشام يانس.
تعرّف إلى نجيب محفوظ وجمال الغيطاني وغالب هلسه، وحضر مسارح ودور أوبرا، وقرّبته سور الأزبكية من عشرات العوالم الأدبية والفكرية.
نكسة حزيران.. نقطة وسطر جديد
بعد نكسة 1967، قرر ترك الدراسة والانضمام إلى "فتح"، فسافر إلى دمشق ومنها إلى معسكرات الفدائيين، واتّخذ اسم "نزيه أبو نضال".
"اكتشفت لاحقًا أن الهزائم الكبرى لا تصنعها الضربات الكبرى، بل الممارسات اليومية، والتفاصيل الصغيرة حيث تكمن الشياطين."
جولة حول الشرق
زار الصين، كوريا الشمالية، الهند، فيتنام، كوبا، فرنسا، إسبانيا.
التقى قادة كبارًا مثل شوان لاي، أنديرا غاندي، كيم إل سونغ، وتعرّف إلى تجارب الشعوب في الكفاح والتنمية.
النشاط الثقافي والإعلامي
كتب في السفير، اللواء، الهدف، الدستور، وعمل في إذاعات "زمزم"، "صوت فلسطين"، "صوت لبنان العربي".
أخرج أفلامًا وثائقية، وفاز بجوائز في مهرجان بغداد.
أسهم في تأسيس الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وترأس فرعه في لبنان لسنوات طويلة.
من كتبه:
الشعر الفلسطيني
أدب السجون
مواجهات سياسية
الثقافة والديمقراطية
حدائق الأنثى
تمرد الأنثى
الكتابة الساخرة
القصة القصيرة الأردنية
حطّ الرحال وركن حقائب التعب
قال:
"أتلفّت حولي لا أرى أحدًا...
ورفاق دربي قد غدوا بددًا
وقد تساوت العواصم والخيل
وبات من يرى كمثل من به رمدا...
فشدّدتُ الرحال إلى عمّان
وقد ضيّعتُ من استُشهد ومن ضحّى ومن شهِدَا"
عاد إلى عمّان، فواصل العمل الثقافي والفكري، وشارك في تأسيس وتفعيل مؤسسات أردنية وعربية ثقافية.
نال جوائز وتكريمات عديدة، وبقي ينبض بالحرف ويقاوم الانطفاء، وينثر الحبر على كفّ القمر.
وهكذا قال...
"فهل من طفلٍ طالعٍ قد تبرعمَ بالندى...
يمضي للأمام واثقًا بما وجد؟"
نيسان ـ نشر في 2025-04-21 الساعة 11:58
رأي: ميسر السردية