اتصل بنا
 

سيارة الجيب .. إما تدعني اصنع الصواريخ والمتفجرات أو سأتهمك بالبوليسية والعنصرية واستدعي ضدك الــ 500 ألف صوت

كاتب وخبير قانوني

نيسان ـ نشر في 2025-04-21 الساعة 20:36

نيسان ـ من الواضح أن الكاتب، ومن وراءه من المستشارين أو مَن نسّقوا معه هذه المقالة، لم يكتبوا نصهم عبثاً ولا بعفوية عاطفية، بل اختاروا طريقًا مدروسًا لمحاولة تفكيك القضية من الداخل، بالاعتماد على نصيحة قانونية خبيثة تتعلق بالطعن في الركن المعنوي للجريمة، أي “القصد الجرمي”.
يبدو أن هناك من همس في أذن الجماعة — محامٍ يعرف دهاليز الدفاع في قضايا الإرهاب — بأن ثغرة النية قد تُستغل لإسقاط التهمة أو لإحداث ارتباك قانوني يُقدَّم للرأي العام على أنه ظلم. لذلك نرى المقال يُركّز بشكل ناعم وممنهج على أن مجرد الحيازة ليست كافية، وأنه لا توجد “نية استعمال داخل الأردن”، بل "نية دعم المقاومة"، وكأنّ النوايا تُثبت بنوايا أخرى، وكأنّ الدولة يجب أن تنتظر البيان التنظيمي قبل أن تتحرك لحماية نفسها.
لكن هذه الحيلة مكشوفة، قديمة، ومردودة. فالقانون لا يُبنى على ما يصرّح به المتهمون، بل على الوقائع، والأدلة، والسياق، وسابقة التنظيم، ووضوح الخطر. النية ليست ادعاء، بل واقع يُفهم من المكان، الزمان، المواد المستخدمة، طريقة التخزين، الصلة التنظيمية، ونوع السلاح المُصنّع. ومَن يصنع صواريخ داخل مخيم مكتظ بالمدنيين لا يمكنه أن يقول: لم أقصد استخدامها هنا. ولا يمكن أن نُعلّق أمن الدولة على جملة: "كنا نوَد تهريبها". هذا طعن في الدولة ذاتها، لا في أركان الجريمة فقط.
بل الأدق: من يختبئ خلف جدل النية، إنما يعترف بالفعل، ويهرب من النتيجة. وهذه حيلة من لا يملك الشجاعة أن يقول ما يجب أن يُقال: “لقد أخطأنا، وجازينا الوطن بالخنجر بدل الوفاء”.
القضية ليست "تغريدة أسيء فهمها" أو "رأيًا سياسيًا حادًا خرج عن سياقه"، ولا هي كبوة قلم في مقال عابر. نحن لا نتحدث عن تعبير، بل عن تجهيز، تصنيع، تخزين، وإخفاء مواد تفجيرية وأسلحة ذات طابع قتالي ميداني، صواريخ ومسيّرات وعبوات — هذه ليست مفردات مقال، هذه مفردات حرب. من يُدخلها إلى الداخل الأردني، أو يُشرف على تصنيعها، أو يدافع عمن فعل ذلك، فهو لا يتحرك ضمن "هوامش حرية التعبير"، بل داخل مساحات الفوضى التي إن تُركت بلا حسم، أعادتنا إلى فصول لا نريد الرجوع إليها — فصول الدم والاشتباك والانفجار الداخلي.
ما حصل ليس "سوء تقدير سياسي"، بل مشروع، بوعي وتصميم وتراتبية تنظيمية، وإلا فكيف وصلت تلك الأدوات إلى أماكنها؟ كيف جُهّزت؟ من موّلها؟ من درّب على استعمالها؟ ومن وعد بأن "النية" ستكون خارجية لا داخلية؟ حتى هذا الوعد، إن وُجد، هو تهمة أخرى، لا تبرئة. لأن من يتعهد بتهريب السلاح، لا يقل خطراً عمّن يستخدمه.
نحن يا عزيزي لا نُحاكم مقالاً أو تغريدة أخرجت عن سياقها بسوء نية أو تعبير مندرج تحت الحماية الدستورية، بل نُواجه خريطة أمنية تشكّلت تحت الأرض، وتم إخراجها إلى العلن بقصد التضليل، لا الشرح. وكل من يدّعي أن القضية يمكن حصرها في “الركن المعنوي” أو “القصد الجرمي”، إنما يتلاعب بأدوات القانون لينسف روح القانون نفسه. لأن الجريمة التي تُعدّ بهذا الإتقان، والتي تُضبط بهذا الحجم من المواد العسكرية، لا تكون نية فرد… بل خطة تنظيم.
من قال إن الأردني بحاجة إلى من يبرّر له حبّه لوطنه؟ ومن أين جاءت هذه الفكرة المسمومة القائلة بأن الدفاع عن الدولة ومؤسساتها وشعبها وملكها صار موقفاً بحاجة إلى توضيح، بينما كل تبرير للتمرد والمراوغة والتخزين والتصنيع والعبث بالأمن يُقدَّم إلينا على أنه “رأي سياسي محترم”؟ متى صار الانتماء موضع شبهة، وأصبح الشك هو القاعدة، وأضحى من يتمسّك بالأرض والراية يُنظر إليه بوصفه رجعيًا أو خائفًا أو تابعًا؟ كل هذا الهذيان لن يغير حقيقة بسيطة واحدة: أن الأردنيين، كلما أوغل العابثون في اختراق بلدهم، يزدادون تمسّكاً به، لا فزعاً، بل وعياً، وفاءً، وعناداً على الطريقة التي لا يفهمها إلا أبناء الجبال حين تقف فوقها الريح.
في المقال الذي أُريد له أن يكون "قراءة تحليلية" لقضية تصنيع صواريخ ومسيّرات داخل الأردن، قُدّمت الجريمة الأمنية الأخطر خلال السنوات الأخيرة بوصفها موضوعاً “يختلف حسب زاوية النظر”. وهذا لوحده كافٍ لإدراك منطق المقال: زاوية النظر هي التي تحكم، لا القانون، لا الوقائع، لا حجم الخطر ولا خطورة الأدوات. هكذا يُطلب منّا أن نبتسم عند اكتشاف مشروع تفخيخ داخل حدودنا، وأن نتردد قبل أن نُدين، لأن زاوية النظر قد ترى في هذا “نية دعم لفلسطين” وليس تصنيعاً لمشروع أمني خارج سيادة الدولة. لكن الدولة لا تُبنى على زاوية النظر. الدولة تُبنى على القانون، على الأمن، على السيادة، على الحسم لا الحيرة، على المعايير لا المزاج.
يقرّ كاتب المقال، بوضوح، بأن الحيازة جريمة قانونية. لكنه يلبث أن ينقض هذا الإقرار بسلسلة من التبريرات الأخلاقية والسياسية والوجدانية، كأنما يُراد لنا أن نفصل بين القانون والنية، وأن نتعامل مع المواد المتفجرة باعتبارها رأيًا قابلاً للنقاش، لا مشروعاً قابلاً للانفجار. الحيازة هنا ليست مجرّد “سوء تقدير تنظيمي”، بل رأس جبل مشروع خطير، ومن لا يعرف كيف تبدأ الخلايا المسلحة، فليقرأ سيرة كل عملية إرهابية حدثت في الأردن أو غيره: كلها بدأت بمواد، بتخزين، بـ“مجرد حيازة”، ثم لم تلبث أن أصبحت تفجيرًا، اشتباكًا، شهيدًا، قتيلاً، أو بلدًا بأكمله يئنّ من الخسارة.
لكن الخطر الأكبر لم يكن في تبرير الحيازة، بل في تلبيس المشروع المسلح عباءة دعم فلسطين. هذا خطاب قديم، لكنه عاد هنا بمكياج جديد: أن السلاح المصنّع في الأردن هو لفلسطين، لا للأردن. أن الهدف ليس الداخل، بل العدو، وأن هؤلاء ليسوا خلايا انقلابية، بل طلاب نصرة. وهذه المغالطة هي بيت الداء: من يحب فلسطين لا يحوّل عمّان إلى مستودع متفجرات. ومن أراد دعم الضفة لا يصنع المسيّرات في قلب المدن الأردنية. الأردن ليس حديقة خلفية لجماعة، ولا ممراً لتهريب، ولا ورشة لتجريب صواريخ. الأردن جيش، ومؤسسة، وسيادة، وقرار، ومسؤولية. من أراد أن يقاتل فليذهب حيث القتال، لا أن يقاتل من خلف ظهورنا ويطالبنا بالتصفيق.
في هذا السياق تحديداً، استُدعيت “قضية السيارة الجيب” الشهيرة في مصر عام 1948، كما لو أنها مرآة للقضية الحالية. وكأن من يُصنع المسيّرات في الرصيفة اليوم هو امتداد لذلك التاريخ، وكأن المشروع السياسي الذي يحاك تحت الطاولة هو مجرّد استعادة لذاك الرصيد الجهادي. لكن ما الفرق بين من قاتل الاستعمار البريطاني بيديه، ومن يُفجّر دولة عربية من ظهرها اليوم؟ ما وجه الشبه بين من دخل القدس على كتف الدولة، ومن يُخزّن العبوات في قلب الدولة؟ الفارق شاسع، بل لا وجه للمقارنة. السياق مختلف، والسيادة مختلفة، والخطر مختلف. السيارة الجيب كانت في زمن لا دولة فيه، أما اليوم فنحن نعيش في دولة اسمها الأردن، عاصمتها عمّان، وجيشها عربي رايته مرفوعة فوق جبال القدس منذ معركة الكرامة.
الأدهى من ذلك أن صاحب المقال يتّهم من يُعارض المشروع التخريبي بأنه "عنصري". أي أن حب الأردن، والدفاع عن سيادته، والوقوف مع الدولة والملك والجيش والحكومة، أصبح في نظرهم عنصرية. وأن الاعتراض على تصنيع الصواريخ تحيّزا. كأنما رجل الأمن الذي يُعرّض حياته للخطر في مداهمة مخزن مشبوه، عنصري. كأنما القاضي الذي يصدر أمر توقيف، والاجهزة التي ترصد، والنيابة التي تُقدّم لائحة الاتهام… كلهم يحملون أجندة عنصرية خفية، لا أنهم يؤدّون واجبًا وطنيًا لحماية دولة ذات سيادة. هذا الخطاب الذي يُقحم “العنصرية” في كل شأن هو السلاح الأخير للعاجز، سلاح من لم يستطع تبرير الفعل، فاتهم الدولة كلها بأنها ظالمة، ومجتمعها بأنه مُتحامل، وقضائها بأنه متحيّز.
ولأن التمويه لا يكتمل إلا بتغليف الخطر بالحنين، فإن المقال يجرّ القارئ نحو استدعاء الذاكرة العاطفية: عبد اللطيف أبو قوره، كتيبة أبو عبيدة، عبد الله عزام، المجاهدون في الأربعينات. تُفتح هذه الذاكرة على القارئ مثل صندوق من المجد الوطني، لكن دون أن يُقال له إن كل هؤلاء قاتلوا تحت راية الدولة، لا خارجها. تحت علم الأردن، لا في وجهه. وأن تلك اللحظات كانت في سياقات وطنية جامعة، لا تنظيمات عابرة تبحث عن موطئ قدم. الأردن لا يجرّم أحدًا لأنه قاتل العدو. لكنه يُجرّم من يصنع بندقيته خارج المؤسسة، ويُخزّنها في الظل، ويُلبسها عمامة المقاومة ليُخفي عن الناس حقيقتها.
ثم يأتي المقال في نهايته ليدقّ آخر مسمار في نعش المنطق: يقول، “حتى لو ثبت ما جاء في لائحة الاتهام، فهل يُعقل أن نحول فصيلًا سياسيًا إلى تنظيم إرهابي؟” وهنا تقع الكارثة الفكرية الكاملة. إذ أن السؤال ذاته يُخفي فرضية أن القانون يجب أن يُراعي التصويت، لا الجريمة. أي أن من حاز على نصف مليون صوت له الحق أن يُخزّن السلاح، أو أن يُحاسب بخفّة لأن له "رصيدًا شعبيًا". هذه ليست ديمقراطية، بل انقلاب على القانون باسم الشعبية. فالديمقراطية لا تحصّن من الجريمة. والمشروعية السياسية لا تُحوّل المتفجرات إلى شعارات.
ما ورد في المقال من دعوة إلى "حل الجماعة" ليس نداء إصلاحيًا ولا صحوة ضمير، بل هو مناورة مكشوفة هدفها التخفيف من وقع الجريمة، أو حتى تقديم طوق نجاة معنوي يُقايض بموجبه الحلّ السياسي بالتغاضي الأمني. نحن أمام محاولة لتوجيه رسالة مزدوجة: “نعم، حصل خطأ، ولكن دعونا نغلق الملف بمقابل رمزي: حلّ الجماعة تنظيميًا وانتهى الأمر.”
لكن الحقيقة التي لا يستطيع الكاتب — ولا من حرضه على هذه "الفكرة النظيفة" — أن يتجاوزها، هي أن حل الجماعة فعليًا قد صدر منذ عام 2020، بحكم قضائي، لا بقرار مزاجي. والجماعة، بوضعها القانوني الحالي، ليست موجودة رسميًا. فماذا يعني أن تُطالب بحل كيان غير قائم؟ هذه ليست دعوة حقيقية، بل حيلة خطابية تُراد منها المقايضة: سامحونا على الصواريخ، واعتبروا الجماعة محلولة، وامضوا في طريق المصالحة.
لكن الدولة ليست ساذجة، والشعب ليس غافلاً، والقضية — كما قلت — ليست مقالة أُخرجت عن سياقها، بل مخطط أمني صريح تجسّد في صواريخ وعبوات ومسيّرات. فهل نرد على من أدار مصنع سلاح في قلب الأردن بجلسة مراجعة فكرية؟ وهل يُرد على خلية قتالية بمقال يُنهيه باعتراف شكلي وانسحاب وهمي من الساحة السياسية؟
إن الدعوة لحل الجماعة، في هذا السياق، ليست دعوة لتفكيكها، بل محاولة لمنحها مخرجًا مشرّفًا من ورطتها الكبرى. لكن لا مخرج مشرّف في القضايا التي تمس الأمن الوطني. ومن يريد أن ينجو، فليقول الحقيقة كاملة لا أن يُفاوض باسم "الهيكل التنظيمي"، في حين أن ما جرى هو مسّ بجوهر الدولة. إنها ليست مراجعة... بل مراوغة.
الأردن اليوم لا يحتاج لمن يُذكّره بمكانته من فلسطين. ولا لمن يُساومه عليها. الأردن أول من حارب، وآخر من انسحب. وأكثر من دفع الثمن، وأقل من اتّجر بالقضية. لم يسقط له علم، ولا انهارت له حكومة، ولا بدّل موقفه لا تحت ضغط ولا تحت تطبيع. لكنه في المقابل، لا يقبل أن يُستخدم كأداة. لا يقبل أن يُخترق، ولا أن يُمس أمنه ليُقال إن ذلك “اجتهاد وطني”. نحن لا نعطي شهادات في الوفاء، لكننا نمنع من يسرق الوطن ويُعلّق على سترته شعار القدس.
وإذا كان لا بد من كلمة أخيرة، فإنها ليست موجهة للكاتب، ولا للتنظيم، بل لرجل الأمن الذي وقف في وجه هذا المشروع المظلم. له وحده نقول: نحن نراك. نراك وأنت تفتّش في البرد، وتداهم في الفجر، وتُسعف نفسك بنفسك لأنك لا تملك رفاهية أن تنهار. نراك وأنت تحمي الدولة التي يتهكمون عليها. نراك وأنت تسهر لننام. ونقسم أنك أنت الحاجز الأخير، لا تنظير المقالات ولا شعبويات القنوات. كن شامخًا كما أنت، فكل هذا الوطن يقف خلفك، لا أمامك.
وللمتصيدين أقول، إن من قام بهذا الفعل – بحسب علمي - هم أردنيون متهمون وليسوا شيئا آخر، فلا تشركوا دائرة الأحوال المدنية في الأمر.

نيسان ـ نشر في 2025-04-21 الساعة 20:36


رأي: الدكتور عمر كامل السواعدة كاتب وخبير قانوني

الكلمات الأكثر بحثاً