غزة التي تسكنني
نيسان ـ نشر في 2025-04-22 الساعة 09:17
x
نيسان ـ صبا منصور
لم أزر غزّة يومًا، لم ألمس ترابها، ولم أجلس على رصيف من أرصفتها المليئة بالحكايات، ولم أُصلّ في أحد مساجدها. ومع ذلك، ثمة شيء داخلي يجعلني أشتاق إليها وكأنها مدينتي الأم اعرفها وتعرفني، حتى دون أن أطرق أبوابها، وكأن قلبي خُلِق من بحرها، وتربّى على أزقتها.
كيف أفسّر هذا الشعور العميق بالانتماء؟ كيف أفسّر تلك الدمعة حين أرى ركام برج فلسطين، أو رجفة تمرّ بي وأنا أسمع صوت الأذان من مسجد السيد هاشم؟ كيف لمدينة لم أرها أن تكون أقرب إليّ من مدنٍ عشتُ فيها عمري كله؟
أحيانًا، أغمض عيني وأسمح للذاكرة التي لا أدري من أين جاءت، أن تقودني… أجد نفسي أفتح شباكًا خشبيًا قديمًا في بيتٍ يطلّ على حيّ الزيتون. أُسلّم على جارتنا أم رامي، من عائلة النخالة، وهي تُخرج خبز الطابون من الفرن وتدعوني لتذوّقه. أضحك معها، أتناول رغيفًا بيدي، وأعود لغرفتي الصغيرة التي تُزيّن جدرانها مطرّزات حمراء وحكايات قديمة.
وأحيانًا، أقنع نفسي أنني عشت هناك… في حياة سابقة، أو في حلمٍ نسيته، أو ربما في ذاكرة لم تكن لي، أغمض عيني، فأراها بوضوح غريب، أرى نفسي أمشي في "شارع عمر المختار"، أمرّ من أمام مكتبة اليازجي، أشتري دفتراً وأخبّئ بين صفحاته وردة يابسة، قطفتها من جانب الجامع العمري الكبير. هناك، حيث يلتقي التاريخ بالصلاة، حيث الحجر يشهد على قرونٍ من الصبر.
أتخيلني جالسة على درج "ميناء غزة"، أراقب قوارب الصيادين تعود منهكة عند المغيب، تحمل في جوفها سمكًا، وأحلامًا مبلولة بالملح، أسمع الصيادين يغنّون ما يشبه التراتيل، وأشعر أن صوتهم مألوف، أو ربما كانت جدّتي كانت تنتظر أحدهم على الشاطئ فحفظت غنائهم وغنته لي.
أوفي السجاعية (الشجاعية)، كنت أرى نفسي أركض بين بيوت عائلة الحداد، أمرّ من أمام دار أبو العطا، حيث كانت الجلسات المسائية تمتدّ حتى آخر ضوء، والضحكات تُسمع من بعيد كأنها تُقاوم الحصار بالفرح. كانت جارتنا أم ناصر النيرب تُرسل لي طبق المجدرة كل خميس، وتقول لي: "كلي، يا بنتي، وإدعي لأولادنا في الجبهات". لم أكن أذكر متى تعرفت عليها، لكنّي كنت أشعر أنها تعرفني من زمان، كأنني كبرت بينهم، بين حاراتٍ تحفظ الأسماء والوجوه عن ظهر قلب.
أوفي مخيّم الشاطئ، ربما كنت أجلس خلف شباك غرفتي استرق السمع على شبّان يخطّطون للمستقبل رغم انكماشه، يضحكون بصوتٍ عالٍ كأن لا حصار، ويغنّون لدرويش وكأن الشعر وحده يكفي.
وفي حواري خانيونس أجلس في المساء قرب الراديو العتيق، أستمع لصوت فيروز، وأغسل الصحون في المطبخ وتفوح رائحة القهوة من شرفة جارتنا أم محمود المدهون ، بينما تدندن أمي بالأغنية، الكهرباء قُطعت مرّة أخرى، لكننا نُشعل شمعة ونكمل العشاء، كما لو أن الظلام أمرٌ اعتيادي، كما لو أن الضوء ترفٌ مؤقّت لا يُعوَّل عليه.
او ربما هناك، في احد ازقة معسكر جباليا، حيث كنت اسكن، ويسكن هو، كنت أشتري علبة سردين من دكّان أبو خوصة في السوق، وأتأمّل خطوط الزمن المحفورة في وجه الحاج أبو ضياء الجالس عند الباب، كأنه يحفظ أسماء كل من مرّ من هنا، حتى أولئك الذين لم يولدوا بعد.. لكنني لم أعرف اسمه حتى، كنت أراه كل صباح، يحمل حقيبته على كتفه ويغادر في صمت. بملامح مطمئنة، عيون كأنها تعرف كل شيء ولا تبوح بشيء. كنت أعلم، دون أن يخبرني أحد، أنه أحد أولئك، لم يكن بحاجة إلى بندقية ليبدو شامخًا، كانت مشيته وحدها تقول ذلك.
مرّة واحدة، حين التقت عيوننا، شعرت أن الزمن توقّف لثانية. كنت أحمل سلة خضار عائدة من سوق المخيم، وكان واقفًا أمام دكان أبو العبد يشتري شيئًا ما، لم يبتسم، لكن في عينيه كان شيء يشبه الاعتراف، ومنذ ذلك اليوم، كنت أُراقب خطواته بصمت.
كنت أتخيّله يعود مساءً متعبًا، يضع رأسه على الوسادة ويحلم بحريةٍ لا يعرف شكلها، ويكتب على طرف دفتره أسماء من رحلوا. وربما، فقط ربما، مرّ طيفي في ذهنه كما كان طيفه لا يفارقني.
وأحيانًا، أراه في الحلم. نلتقي قرب جامع الخلفاء الراشدين، لا نتبادل الكلام، فقط ننظر لبعضنا بصمت، كأننا نعرف أن هذا اللقاء ليس لهذا الزمن، بل لزمنٍ آخر لم يأتِ بعد، ولن يأت.
تسكنني غزة، تعيش فيّ، في طريقة حزني، في نبرة صوتي حين أتكلم عن العدالة، في دمعتي ليس فقط كقضية، بل كذكرياتٍ لم أعشها، كحبّ لم يبدأ، وطفولة كنت فيها ولم أكن. وربما… فقط ربما، كنت فيها يومًا، في حياةٍ سابقة، في شارعٍ من شوارعها، أُعلّق غسيل الطفولة وأغنّي للغد.
لم أزر غزّة يومًا، لم ألمس ترابها، ولم أجلس على رصيف من أرصفتها المليئة بالحكايات، ولم أُصلّ في أحد مساجدها. ومع ذلك، ثمة شيء داخلي يجعلني أشتاق إليها وكأنها مدينتي الأم اعرفها وتعرفني، حتى دون أن أطرق أبوابها، وكأن قلبي خُلِق من بحرها، وتربّى على أزقتها.
كيف أفسّر هذا الشعور العميق بالانتماء؟ كيف أفسّر تلك الدمعة حين أرى ركام برج فلسطين، أو رجفة تمرّ بي وأنا أسمع صوت الأذان من مسجد السيد هاشم؟ كيف لمدينة لم أرها أن تكون أقرب إليّ من مدنٍ عشتُ فيها عمري كله؟
أحيانًا، أغمض عيني وأسمح للذاكرة التي لا أدري من أين جاءت، أن تقودني… أجد نفسي أفتح شباكًا خشبيًا قديمًا في بيتٍ يطلّ على حيّ الزيتون. أُسلّم على جارتنا أم رامي، من عائلة النخالة، وهي تُخرج خبز الطابون من الفرن وتدعوني لتذوّقه. أضحك معها، أتناول رغيفًا بيدي، وأعود لغرفتي الصغيرة التي تُزيّن جدرانها مطرّزات حمراء وحكايات قديمة.
وأحيانًا، أقنع نفسي أنني عشت هناك… في حياة سابقة، أو في حلمٍ نسيته، أو ربما في ذاكرة لم تكن لي، أغمض عيني، فأراها بوضوح غريب، أرى نفسي أمشي في "شارع عمر المختار"، أمرّ من أمام مكتبة اليازجي، أشتري دفتراً وأخبّئ بين صفحاته وردة يابسة، قطفتها من جانب الجامع العمري الكبير. هناك، حيث يلتقي التاريخ بالصلاة، حيث الحجر يشهد على قرونٍ من الصبر.
أتخيلني جالسة على درج "ميناء غزة"، أراقب قوارب الصيادين تعود منهكة عند المغيب، تحمل في جوفها سمكًا، وأحلامًا مبلولة بالملح، أسمع الصيادين يغنّون ما يشبه التراتيل، وأشعر أن صوتهم مألوف، أو ربما كانت جدّتي كانت تنتظر أحدهم على الشاطئ فحفظت غنائهم وغنته لي.
أوفي السجاعية (الشجاعية)، كنت أرى نفسي أركض بين بيوت عائلة الحداد، أمرّ من أمام دار أبو العطا، حيث كانت الجلسات المسائية تمتدّ حتى آخر ضوء، والضحكات تُسمع من بعيد كأنها تُقاوم الحصار بالفرح. كانت جارتنا أم ناصر النيرب تُرسل لي طبق المجدرة كل خميس، وتقول لي: "كلي، يا بنتي، وإدعي لأولادنا في الجبهات". لم أكن أذكر متى تعرفت عليها، لكنّي كنت أشعر أنها تعرفني من زمان، كأنني كبرت بينهم، بين حاراتٍ تحفظ الأسماء والوجوه عن ظهر قلب.
أوفي مخيّم الشاطئ، ربما كنت أجلس خلف شباك غرفتي استرق السمع على شبّان يخطّطون للمستقبل رغم انكماشه، يضحكون بصوتٍ عالٍ كأن لا حصار، ويغنّون لدرويش وكأن الشعر وحده يكفي.
وفي حواري خانيونس أجلس في المساء قرب الراديو العتيق، أستمع لصوت فيروز، وأغسل الصحون في المطبخ وتفوح رائحة القهوة من شرفة جارتنا أم محمود المدهون ، بينما تدندن أمي بالأغنية، الكهرباء قُطعت مرّة أخرى، لكننا نُشعل شمعة ونكمل العشاء، كما لو أن الظلام أمرٌ اعتيادي، كما لو أن الضوء ترفٌ مؤقّت لا يُعوَّل عليه.
او ربما هناك، في احد ازقة معسكر جباليا، حيث كنت اسكن، ويسكن هو، كنت أشتري علبة سردين من دكّان أبو خوصة في السوق، وأتأمّل خطوط الزمن المحفورة في وجه الحاج أبو ضياء الجالس عند الباب، كأنه يحفظ أسماء كل من مرّ من هنا، حتى أولئك الذين لم يولدوا بعد.. لكنني لم أعرف اسمه حتى، كنت أراه كل صباح، يحمل حقيبته على كتفه ويغادر في صمت. بملامح مطمئنة، عيون كأنها تعرف كل شيء ولا تبوح بشيء. كنت أعلم، دون أن يخبرني أحد، أنه أحد أولئك، لم يكن بحاجة إلى بندقية ليبدو شامخًا، كانت مشيته وحدها تقول ذلك.
مرّة واحدة، حين التقت عيوننا، شعرت أن الزمن توقّف لثانية. كنت أحمل سلة خضار عائدة من سوق المخيم، وكان واقفًا أمام دكان أبو العبد يشتري شيئًا ما، لم يبتسم، لكن في عينيه كان شيء يشبه الاعتراف، ومنذ ذلك اليوم، كنت أُراقب خطواته بصمت.
كنت أتخيّله يعود مساءً متعبًا، يضع رأسه على الوسادة ويحلم بحريةٍ لا يعرف شكلها، ويكتب على طرف دفتره أسماء من رحلوا. وربما، فقط ربما، مرّ طيفي في ذهنه كما كان طيفه لا يفارقني.
وأحيانًا، أراه في الحلم. نلتقي قرب جامع الخلفاء الراشدين، لا نتبادل الكلام، فقط ننظر لبعضنا بصمت، كأننا نعرف أن هذا اللقاء ليس لهذا الزمن، بل لزمنٍ آخر لم يأتِ بعد، ولن يأت.
تسكنني غزة، تعيش فيّ، في طريقة حزني، في نبرة صوتي حين أتكلم عن العدالة، في دمعتي ليس فقط كقضية، بل كذكرياتٍ لم أعشها، كحبّ لم يبدأ، وطفولة كنت فيها ولم أكن. وربما… فقط ربما، كنت فيها يومًا، في حياةٍ سابقة، في شارعٍ من شوارعها، أُعلّق غسيل الطفولة وأغنّي للغد.