هل كان البابا شيوعياً
نيسان ـ القدس العربي ـ نشر في 2025-05-03 الساعة 11:23
x
نيسان ـ سنان انطوان
سيجتمع كرادلة الفاتيكان في السابع من هذا الشهر لاختيار خليفة للبابا فرنسيس الذي توفي في الحادي والعشرين من أبريل. لا يمكن التنبؤ، بالطبع، بمن سينتخب خلفاً للبابا الراحل. لكن ما هو مؤكد أنّه سيواجه مهمة غاية في الصعوبة، لا تتمثل في قيادة مؤسسة دينية ضخمة ومعقّدة، يصل مجموع أتباعها إلى 1.4 مليار إنسان، تواجه صعوبات وتحديات شتّى فحسب، بل في ملء الفراغ الهائل الذي تركه سلفه. فقد كان خورخي مارير بيرجوليو، الذي ولد في بوينس آيريس في 1936 لعائلة مهاجرين من إيطاليا، استثنائياً في عدة أوجه منها، أنه أول بابا من خارج أوروبا منذ عهد غريغوري الثالث في القرن الثامن، الذي كان من سوريا، وهو أيضاً الذي ساهم، قولاً وفعلاً، في تضييق الهوة الشاسعة التي تفصل بين الكنيسة الكاثوليكية وخطابها وعقائدها وصورتها، وحقائق عالم حديث متغيّر ومعقّد، يناقضه ويخفق في مجاراته بطء وتمترس مؤسسة يتشبّث الكثير من آبائها بماضوية لا يمكن لها أن تُخاطب من تروم احتضانهم أو إبقاءهم في محيطها المؤسّسي والرمزي.
وكان فرنسيس استثنائياً، إذا ما قيس بمن سبقوه، في تواضعه وبساطته وانفتاحه الحقيقي، وحرصه على احتضان المستضعفين والمهمّشين، وغيرهم ممن هم خارج أتباع الكنيسة الكاثوليكية والأمثلة كثيرة. كانت أول زيارة له خارج روما بعد انتخابه هي إلى جزيرة لامبيدوسا، التي كان يلجأ إليها المهاجرون. وأقام قداساً كان المذبح فيه قارباً، لأرواح الذين ماتوا غرقاً بحثاً عن حياة أفضل، ومما قاله يومها «نعيش في عالم معولم، سقطنا فيه في لامبالاة معولمة. تعودنا على معاناة الآخرين ولم تعد تعنينا». في 2016 غسل أرجل اللاجئين، بضمنهم مسلمون وهندوس. وبعدها بسنوات غسل أرجل السجينات. وفي موقف آخر مؤثّر، اقترب طفل من البابا ليطرح سؤالاً لكنه كان يبكي، فيطلب منه البابا أن يهمس بسؤاله في أذنه. وكان السؤال عن والد الطفل الذي كان ملحداً.. هل سيذهب إلى الجنة؟ وكان جواب البابا بليغاً.
لم يكن كاتب هذه السطور، اللاديني، الذي ولد في عائلة مسيحية تعترف كنيستها الشرقية المستقلة بسلطة روما، والذي نشأ في بيت تعلو أحد جدرانه صورة البابا، يتصوّر أنه سيكتب يوماً في رثاء الحبر الأعظم لمؤسسة رفضها مبكراً، ورفض ما تمثله من سلطويّة وأبوية وقيم محافظة ورجعية، وبعد أن تعرّف على تاريخها وتورطها في جرائم شتّى. لم يخل الماضي القريب من جرائم وفضائح الاختلاس والجرائم الجنسية التي حاولت الكنيسة التغطية عليها، بل سامحت مرتكبيها وتكتّمت على جرائمهم، وسمحت لهم بالاستمرار في العمل في مؤسساتها، ليرتكبوا المزيد ضد ضحايا جدد. واضطر البابا السابق للاستقالة بعد أن بلغ السيل الزبى.
زار فلسطين وصلى عند جدار الفصل العنصري. ولم ينس غزّة وأهلها، وندد بالإبادة المستمرة ضدهم، وذكرهم في آخر ظهور له قبل موته. وكان يحرص على مهاتفتهم في كنيسة العائلة المقدسة كل ليلة منذ التاسع من أكتوبر وحتى وفاته
أما الماضي البعيد فكان حافلاً بأمثلة على تورط الكنيسة في جرائم وحروب شنّتها امبراطوريات استعبدت البشر، واستعمرت ونهبت أوطانهم، ولعل أبرز أمثلتها «عقيدة الاكتشاف» التي أصدرتها الكنيسة الكاثوليكية بثلاثة مراسم في 1452 و1455 و1493 سمحت فيها لإسبانيا والبرتغال بالاستحواذ على الأراضي، وإخضاع البشر في افريقيا، وما سمي بالعالم الجديد، ما داموا غير مسيحيين. ومع أن الفاتيكان عد ليبطل هذه المراسم في 1530، إلا أن ذلك لم يغير شيئاً على أرض الواقع، واستمر النهج الاستعماري الذي باركته الكنيسة، بل إن «عقيدة الاكتشاف» أصبحت أساساً لقانون للمحكمة العليا في الولايات المتحدة في 1823 نفى أن يكون للسكان الأصليين حق ملكية الأراضي التي يعيشون عليها، وحكم بأن حقهم يقتصر على «الوجود فيها» وبذلك يمكن استملاكها من قبل آخرين. أثناء زيارة لكندا اعتذر البابا فرنسيس لشابة من السكان الأصليين عن دور الكنيسة الكاثوليكية في اضطهاد السكان الأصليين، وعن الممارسات المشينة في المدارس الكاثوليكية. أثنت الشابّة على مبادرته، لكنها طلبت منه أن يفعل ما هو أكثر. وهذا ما تم حين أصدر الفاتيكان مرسوماً في 2023 يتبرأ من هذه العقيدة، ويؤكد تضامنه مع حقوق السكان الأصليين ونضالهم المشروع.
أما سلف فرنسيس ونقيضه، بينيدكت السادس عشر، فقد أغضب الكثيرين في زيارة إلى البرازيل في 2007 حين قال «إن سكان القارة الأصليين كانوا يتوقون سرا للدين المسيحي الذي جاء به المستعمرون». وقبلها بسنة كان قد ألقى محاضرة في جامعة روغنسبرغ أوضحت موقفه العنصري من الإسلام، وأثارت عاصفة من الانتقادات. أما فرنسيس فتسجل له مواقف ومبادرات جادة لتشجيع التحاور المبني على الاحترام المتبادل لا على الإقصاء. فالتقي بشيخ الأزهر وحرص على زيارة العراق والموصل والنجف ليلتقي بالسيد علي السيستاني. وزار فلسطين ووقف وصلى عند جدار الفصل العنصري. ولم ينس البابا غزّة وأهلها، وندد بالإبادة المستمرة ضدهم، وذكرهم في آخر ظهور له قبل موته. ونعرف الآن أنه كان يحرص على مهاتفة الغزيين في كنيسة العائلة المقدسة كل ليلة منذ التاسع من أكتوبر وحتى وفاته. كان لفرنسيس أعداء كثر من المحافظين واليمينيين. ومنهم من حاول اتهامه زوراً بالتواطؤ مع النظام الديكتاتوري في الأرجنتين أثناء حقبة القمع. لكن كل التقارير والشهادات تفيد بأنه لم يتعاون، بل ساعد الكثيرين على الهرب وخلّصهم من مصير محتوم. وانتقد الكنيسة في ما بعد على تواطؤها وصمتها. وطلب في 2000 أن تكفّر الكنيسة عمّا فعله بعض أتباعها واعتذر، حين كان رئيس مجلس الأساقفة الكاثوليك في الأرجنتين، عن تقاعس الكنيسة في حقبة الديكتاتورية. هناك، بالطبع، من عارضوا سياسات فرنسيس ومواقفه. في اليوم التالي لوفاته، كتب روس دوثات، وهو كاثوليكي ومن كتاب الأعمدة الثابتين في صحيفة «نيويوررك تايمز» ينتقد فرنسيس وسياساته الليبرالية، ويمتدح سلفه، بينيدكت، سيئ الصيت.
انتقد البابا سياسات الولايات المتحدة، وسياسات ترامب العنصرية المعادية للمهاجرين. كما انتقد الرأسمالية في أكثر من مناسبة حتى أنه سئل في حوار مع مجلة أمريكية ما إذا كان شيوعياً! واستعان في جوابه بإنجيل متى «كنت عطشاناً ورويتني. كنت مسجوناً وزرتني. كنت مريضاً واعتنيت بي». وأضاف: هل يسوع شيوعي أيضاً؟ إذا ما نظرت إلى الإنجيل من منظار اجتماعي فحسب، فأنا شيوعي ويسوع كذلك، لقد سرق الشيوعيون الكثير من قيمنا». لعل تهمة الشيوعية التي توجّه مجانياً ضد أي شخص يدعو إلى المساواة والعدالة الاجتماعية، وينتقد توحّش الرأسمالية تقول الكثير عمّن يوجهون هذه التهمة وعن منطلقاتهم الأخلاقية، والخوف من شبح ما سيظل يقض مضاجعهم. لم يكن البابا شيوعياً. ولكن لو كان قد اطّلع على شعر مظفر النواب، لردّد معه مخاطباً يسوع الناصري، بدلاً من علي بن أبي طالب، «لو عدت الآن لحاربك الداعون إليك وسمّوك شيوعياً».
كاتب عراقي
سيجتمع كرادلة الفاتيكان في السابع من هذا الشهر لاختيار خليفة للبابا فرنسيس الذي توفي في الحادي والعشرين من أبريل. لا يمكن التنبؤ، بالطبع، بمن سينتخب خلفاً للبابا الراحل. لكن ما هو مؤكد أنّه سيواجه مهمة غاية في الصعوبة، لا تتمثل في قيادة مؤسسة دينية ضخمة ومعقّدة، يصل مجموع أتباعها إلى 1.4 مليار إنسان، تواجه صعوبات وتحديات شتّى فحسب، بل في ملء الفراغ الهائل الذي تركه سلفه. فقد كان خورخي مارير بيرجوليو، الذي ولد في بوينس آيريس في 1936 لعائلة مهاجرين من إيطاليا، استثنائياً في عدة أوجه منها، أنه أول بابا من خارج أوروبا منذ عهد غريغوري الثالث في القرن الثامن، الذي كان من سوريا، وهو أيضاً الذي ساهم، قولاً وفعلاً، في تضييق الهوة الشاسعة التي تفصل بين الكنيسة الكاثوليكية وخطابها وعقائدها وصورتها، وحقائق عالم حديث متغيّر ومعقّد، يناقضه ويخفق في مجاراته بطء وتمترس مؤسسة يتشبّث الكثير من آبائها بماضوية لا يمكن لها أن تُخاطب من تروم احتضانهم أو إبقاءهم في محيطها المؤسّسي والرمزي.
وكان فرنسيس استثنائياً، إذا ما قيس بمن سبقوه، في تواضعه وبساطته وانفتاحه الحقيقي، وحرصه على احتضان المستضعفين والمهمّشين، وغيرهم ممن هم خارج أتباع الكنيسة الكاثوليكية والأمثلة كثيرة. كانت أول زيارة له خارج روما بعد انتخابه هي إلى جزيرة لامبيدوسا، التي كان يلجأ إليها المهاجرون. وأقام قداساً كان المذبح فيه قارباً، لأرواح الذين ماتوا غرقاً بحثاً عن حياة أفضل، ومما قاله يومها «نعيش في عالم معولم، سقطنا فيه في لامبالاة معولمة. تعودنا على معاناة الآخرين ولم تعد تعنينا». في 2016 غسل أرجل اللاجئين، بضمنهم مسلمون وهندوس. وبعدها بسنوات غسل أرجل السجينات. وفي موقف آخر مؤثّر، اقترب طفل من البابا ليطرح سؤالاً لكنه كان يبكي، فيطلب منه البابا أن يهمس بسؤاله في أذنه. وكان السؤال عن والد الطفل الذي كان ملحداً.. هل سيذهب إلى الجنة؟ وكان جواب البابا بليغاً.
لم يكن كاتب هذه السطور، اللاديني، الذي ولد في عائلة مسيحية تعترف كنيستها الشرقية المستقلة بسلطة روما، والذي نشأ في بيت تعلو أحد جدرانه صورة البابا، يتصوّر أنه سيكتب يوماً في رثاء الحبر الأعظم لمؤسسة رفضها مبكراً، ورفض ما تمثله من سلطويّة وأبوية وقيم محافظة ورجعية، وبعد أن تعرّف على تاريخها وتورطها في جرائم شتّى. لم يخل الماضي القريب من جرائم وفضائح الاختلاس والجرائم الجنسية التي حاولت الكنيسة التغطية عليها، بل سامحت مرتكبيها وتكتّمت على جرائمهم، وسمحت لهم بالاستمرار في العمل في مؤسساتها، ليرتكبوا المزيد ضد ضحايا جدد. واضطر البابا السابق للاستقالة بعد أن بلغ السيل الزبى.
زار فلسطين وصلى عند جدار الفصل العنصري. ولم ينس غزّة وأهلها، وندد بالإبادة المستمرة ضدهم، وذكرهم في آخر ظهور له قبل موته. وكان يحرص على مهاتفتهم في كنيسة العائلة المقدسة كل ليلة منذ التاسع من أكتوبر وحتى وفاته
أما الماضي البعيد فكان حافلاً بأمثلة على تورط الكنيسة في جرائم وحروب شنّتها امبراطوريات استعبدت البشر، واستعمرت ونهبت أوطانهم، ولعل أبرز أمثلتها «عقيدة الاكتشاف» التي أصدرتها الكنيسة الكاثوليكية بثلاثة مراسم في 1452 و1455 و1493 سمحت فيها لإسبانيا والبرتغال بالاستحواذ على الأراضي، وإخضاع البشر في افريقيا، وما سمي بالعالم الجديد، ما داموا غير مسيحيين. ومع أن الفاتيكان عد ليبطل هذه المراسم في 1530، إلا أن ذلك لم يغير شيئاً على أرض الواقع، واستمر النهج الاستعماري الذي باركته الكنيسة، بل إن «عقيدة الاكتشاف» أصبحت أساساً لقانون للمحكمة العليا في الولايات المتحدة في 1823 نفى أن يكون للسكان الأصليين حق ملكية الأراضي التي يعيشون عليها، وحكم بأن حقهم يقتصر على «الوجود فيها» وبذلك يمكن استملاكها من قبل آخرين. أثناء زيارة لكندا اعتذر البابا فرنسيس لشابة من السكان الأصليين عن دور الكنيسة الكاثوليكية في اضطهاد السكان الأصليين، وعن الممارسات المشينة في المدارس الكاثوليكية. أثنت الشابّة على مبادرته، لكنها طلبت منه أن يفعل ما هو أكثر. وهذا ما تم حين أصدر الفاتيكان مرسوماً في 2023 يتبرأ من هذه العقيدة، ويؤكد تضامنه مع حقوق السكان الأصليين ونضالهم المشروع.
أما سلف فرنسيس ونقيضه، بينيدكت السادس عشر، فقد أغضب الكثيرين في زيارة إلى البرازيل في 2007 حين قال «إن سكان القارة الأصليين كانوا يتوقون سرا للدين المسيحي الذي جاء به المستعمرون». وقبلها بسنة كان قد ألقى محاضرة في جامعة روغنسبرغ أوضحت موقفه العنصري من الإسلام، وأثارت عاصفة من الانتقادات. أما فرنسيس فتسجل له مواقف ومبادرات جادة لتشجيع التحاور المبني على الاحترام المتبادل لا على الإقصاء. فالتقي بشيخ الأزهر وحرص على زيارة العراق والموصل والنجف ليلتقي بالسيد علي السيستاني. وزار فلسطين ووقف وصلى عند جدار الفصل العنصري. ولم ينس البابا غزّة وأهلها، وندد بالإبادة المستمرة ضدهم، وذكرهم في آخر ظهور له قبل موته. ونعرف الآن أنه كان يحرص على مهاتفة الغزيين في كنيسة العائلة المقدسة كل ليلة منذ التاسع من أكتوبر وحتى وفاته. كان لفرنسيس أعداء كثر من المحافظين واليمينيين. ومنهم من حاول اتهامه زوراً بالتواطؤ مع النظام الديكتاتوري في الأرجنتين أثناء حقبة القمع. لكن كل التقارير والشهادات تفيد بأنه لم يتعاون، بل ساعد الكثيرين على الهرب وخلّصهم من مصير محتوم. وانتقد الكنيسة في ما بعد على تواطؤها وصمتها. وطلب في 2000 أن تكفّر الكنيسة عمّا فعله بعض أتباعها واعتذر، حين كان رئيس مجلس الأساقفة الكاثوليك في الأرجنتين، عن تقاعس الكنيسة في حقبة الديكتاتورية. هناك، بالطبع، من عارضوا سياسات فرنسيس ومواقفه. في اليوم التالي لوفاته، كتب روس دوثات، وهو كاثوليكي ومن كتاب الأعمدة الثابتين في صحيفة «نيويوررك تايمز» ينتقد فرنسيس وسياساته الليبرالية، ويمتدح سلفه، بينيدكت، سيئ الصيت.
انتقد البابا سياسات الولايات المتحدة، وسياسات ترامب العنصرية المعادية للمهاجرين. كما انتقد الرأسمالية في أكثر من مناسبة حتى أنه سئل في حوار مع مجلة أمريكية ما إذا كان شيوعياً! واستعان في جوابه بإنجيل متى «كنت عطشاناً ورويتني. كنت مسجوناً وزرتني. كنت مريضاً واعتنيت بي». وأضاف: هل يسوع شيوعي أيضاً؟ إذا ما نظرت إلى الإنجيل من منظار اجتماعي فحسب، فأنا شيوعي ويسوع كذلك، لقد سرق الشيوعيون الكثير من قيمنا». لعل تهمة الشيوعية التي توجّه مجانياً ضد أي شخص يدعو إلى المساواة والعدالة الاجتماعية، وينتقد توحّش الرأسمالية تقول الكثير عمّن يوجهون هذه التهمة وعن منطلقاتهم الأخلاقية، والخوف من شبح ما سيظل يقض مضاجعهم. لم يكن البابا شيوعياً. ولكن لو كان قد اطّلع على شعر مظفر النواب، لردّد معه مخاطباً يسوع الناصري، بدلاً من علي بن أبي طالب، «لو عدت الآن لحاربك الداعون إليك وسمّوك شيوعياً».
كاتب عراقي