بين قهوتين... ومصير: مقهى البازلاء رواية من نار الحبر ونور السقوط
فراس عوض
كاتب
نيسان ـ نشر في 2025-05-07 الساعة 14:12
نيسان ـ انتهيت من قراءة مقهى البازلاء، ولم أنتهِ منها. رواية لا توضع على الرف بعد ختامها، بل تستقر في أحد أدراج القلب، حيث تحفظ الأشياء التي تُقلق وتُبهر وتُربك وتُضيء في آنٍ معًا.
الكاتب الأردني عثمان مشاوره لا يقدّم لنا مجرّد حكاية. بل يفتح لنا بابًا خشبيًّا لمقهى غريب الطراز، تفوح منه روائح الوطن والحلم والخذلان، ويجلس على عتبة بابه العقيد نايف الصالح، لا كبطل، بل ككائن مهزوم، متعب، يحمل على منكبيه تاريخًا ثقيلًا ومصيرًا مُراوغًا.
منذ الصفحات الأولى، يدفعنا مشاوره إلى قلب المشهد: مشهد النهاية. نبدأ من حيث كان يجب أن يُختم كل شيء، ثم نعود إلى الوراء، لا لنفهم، بل لنتوه ونُسأل، وتلك لعبة السرد الحديثة، التي برع الكاتب في تطويعها. بنى حبكته على النموذج الكلاسيكي لمسار البطل، لكنه كسره مرارًا، عبث به، جعله يترنّح بين الممكن والمستحيل، بين المجد والمهانة، بين كتيبة عسكرية ومقهى هادئ لا يحدث فيه شيء... سوى كل شيء.
"وجدت كتاب الاستقالة على مكتبي، موقّعًا باسمي، لا أعرف من أين جاء، ولا من وقّعه، لكن الجميع سلّم به كأمر واقع" — جملة تساوي رواية كاملة. إنها لحظة المفصل، الحافة، السقوط بلا مظلة. العقيد، رجل الدولة، يقف أمام دولته خالي الوفاض. خُلع لا من وظيفته فقط، بل من رمزيته، من موقعه الاجتماعي، من وهمه الذاتي. أراد أن يكتب، أن يدخل التاريخ من باب الكلمات، لكن حتى الحروف خانته، ووصمه الديوان بـ"السرقة". مفارقة بليغة: رجلٌ عاش عمره حارسًا للحدود، يُطرد من أسوار الكتابة كمبتدئ غير مرغوب فيه.
يرسم مشاوره شخصياته بريشة الروائي العارف بخفايا النفس الإنسانية. أشخاصه ليسوا كائنات ثنائية — خيرًا أو شرًّا — بل فسيفساء من النوايا والآلام والانكسارات. صديق يخونه، حلم يخذله، دولة تنكره، وماضٍ لا ينقضي. كل شخصية ثانوية في الرواية تبدو وكأنها تسير في خطٍ مستقل، لكنها تعود دائمًا لتصطدم بالعقيد، لتعيد تعريفه لا كـ"بطل"، بل كإنسان يُعاند المصير ويُعاند نفسه.
"لم أكن أريد أن أكون وزيرًا أو سفيرًا... كنت فقط أريد أن يعترف أحدهم بأنني لم أخن" — في هذه العبارة تتكثف غاية الرواية: تطهير داخلي من وصمة الغدر والخيانة، لا الطموح المجتمعي. العقيد لا يسعى للسلطة قدر سعيه للاعتراف، للانتماء، للمعنى.
ما يجعل هذه الرواية لافتة، ليس فقط موضوعها السياسي الاجتماعي، بل طريقتها في حكاية الحكاية. فمشاوره يُطوّع أدوات الرواية الحديثة ببراعة تُذكّر بماركيز في التلاعب بالزمن، وبهِمنغواي في الاقتصاد اللغوي، وبزوسكيند في الغوص في أعماق النفس، وكونديرا في نقد السلطة والهوية والذاكرة. لكنه رغم ذلك، يبقى عثمان مشاوره، لا يقلد، بل يُحاور هؤلاء الكبار، ويتجاوزهم أحيانًا في بلاغة الوجع المحلي، الذي يتخطى الحدود ليصير وجعًا إنسانيًّا.
"الناس في المقهى يشربون القهوة، وأنا أشرب ذاكرتي... كل رشفة، طعنة" — استعارة موجعة تُلخّص علاقة البطل مع الزمن، مع الماضي، مع نفسه.
اللغة؟ مذهلة. ليست متكلّفة ولا عادية. بل مشغولة على مهل، كأنها خُيطت بإبرة شاعر يُجيد نظم الجملة في مكانها دون أن تُفسد الاقتصاد التعبيري. لا حشو، لا مجاملة، بل كل كلمة حيث يجب أن تكون.
المكان في الرواية ليس ديكورًا، بل كائن حي. مقهى البازلاء نفسه يضيق ويتسع بحسب نبض العقيد، والزمان يتشظى، يعود، يتقدم، يلتف، كما لو أن الذاكرة نفسها تروي الحكاية.
وفي النهاية — أو البداية — تبقى مقهى البازلاء رواية لا تنتمي إلى التصنيفات السهلة. هي رواية عن رجل... عن وطن... عن سقوط الحلم العربي في فنجان قهوة بارد، وعن محاولاتنا الدائمة لتلمّس المعنى من ركام الأسئلة.
إنها ليست فقط "رواية عظيمة"، بل هي رواية ضرورية. لأنها تعرّي حقيقة مؤلمة بلغة فاتنة، وتُمهّد لنا الطريق لنسأل، ربما: ما الذي تبقّى فينا من نايف الصالح؟ ومن الوطن؟ ومن الحلم؟
الكاتب الأردني عثمان مشاوره لا يقدّم لنا مجرّد حكاية. بل يفتح لنا بابًا خشبيًّا لمقهى غريب الطراز، تفوح منه روائح الوطن والحلم والخذلان، ويجلس على عتبة بابه العقيد نايف الصالح، لا كبطل، بل ككائن مهزوم، متعب، يحمل على منكبيه تاريخًا ثقيلًا ومصيرًا مُراوغًا.
منذ الصفحات الأولى، يدفعنا مشاوره إلى قلب المشهد: مشهد النهاية. نبدأ من حيث كان يجب أن يُختم كل شيء، ثم نعود إلى الوراء، لا لنفهم، بل لنتوه ونُسأل، وتلك لعبة السرد الحديثة، التي برع الكاتب في تطويعها. بنى حبكته على النموذج الكلاسيكي لمسار البطل، لكنه كسره مرارًا، عبث به، جعله يترنّح بين الممكن والمستحيل، بين المجد والمهانة، بين كتيبة عسكرية ومقهى هادئ لا يحدث فيه شيء... سوى كل شيء.
"وجدت كتاب الاستقالة على مكتبي، موقّعًا باسمي، لا أعرف من أين جاء، ولا من وقّعه، لكن الجميع سلّم به كأمر واقع" — جملة تساوي رواية كاملة. إنها لحظة المفصل، الحافة، السقوط بلا مظلة. العقيد، رجل الدولة، يقف أمام دولته خالي الوفاض. خُلع لا من وظيفته فقط، بل من رمزيته، من موقعه الاجتماعي، من وهمه الذاتي. أراد أن يكتب، أن يدخل التاريخ من باب الكلمات، لكن حتى الحروف خانته، ووصمه الديوان بـ"السرقة". مفارقة بليغة: رجلٌ عاش عمره حارسًا للحدود، يُطرد من أسوار الكتابة كمبتدئ غير مرغوب فيه.
يرسم مشاوره شخصياته بريشة الروائي العارف بخفايا النفس الإنسانية. أشخاصه ليسوا كائنات ثنائية — خيرًا أو شرًّا — بل فسيفساء من النوايا والآلام والانكسارات. صديق يخونه، حلم يخذله، دولة تنكره، وماضٍ لا ينقضي. كل شخصية ثانوية في الرواية تبدو وكأنها تسير في خطٍ مستقل، لكنها تعود دائمًا لتصطدم بالعقيد، لتعيد تعريفه لا كـ"بطل"، بل كإنسان يُعاند المصير ويُعاند نفسه.
"لم أكن أريد أن أكون وزيرًا أو سفيرًا... كنت فقط أريد أن يعترف أحدهم بأنني لم أخن" — في هذه العبارة تتكثف غاية الرواية: تطهير داخلي من وصمة الغدر والخيانة، لا الطموح المجتمعي. العقيد لا يسعى للسلطة قدر سعيه للاعتراف، للانتماء، للمعنى.
ما يجعل هذه الرواية لافتة، ليس فقط موضوعها السياسي الاجتماعي، بل طريقتها في حكاية الحكاية. فمشاوره يُطوّع أدوات الرواية الحديثة ببراعة تُذكّر بماركيز في التلاعب بالزمن، وبهِمنغواي في الاقتصاد اللغوي، وبزوسكيند في الغوص في أعماق النفس، وكونديرا في نقد السلطة والهوية والذاكرة. لكنه رغم ذلك، يبقى عثمان مشاوره، لا يقلد، بل يُحاور هؤلاء الكبار، ويتجاوزهم أحيانًا في بلاغة الوجع المحلي، الذي يتخطى الحدود ليصير وجعًا إنسانيًّا.
"الناس في المقهى يشربون القهوة، وأنا أشرب ذاكرتي... كل رشفة، طعنة" — استعارة موجعة تُلخّص علاقة البطل مع الزمن، مع الماضي، مع نفسه.
اللغة؟ مذهلة. ليست متكلّفة ولا عادية. بل مشغولة على مهل، كأنها خُيطت بإبرة شاعر يُجيد نظم الجملة في مكانها دون أن تُفسد الاقتصاد التعبيري. لا حشو، لا مجاملة، بل كل كلمة حيث يجب أن تكون.
المكان في الرواية ليس ديكورًا، بل كائن حي. مقهى البازلاء نفسه يضيق ويتسع بحسب نبض العقيد، والزمان يتشظى، يعود، يتقدم، يلتف، كما لو أن الذاكرة نفسها تروي الحكاية.
وفي النهاية — أو البداية — تبقى مقهى البازلاء رواية لا تنتمي إلى التصنيفات السهلة. هي رواية عن رجل... عن وطن... عن سقوط الحلم العربي في فنجان قهوة بارد، وعن محاولاتنا الدائمة لتلمّس المعنى من ركام الأسئلة.
إنها ليست فقط "رواية عظيمة"، بل هي رواية ضرورية. لأنها تعرّي حقيقة مؤلمة بلغة فاتنة، وتُمهّد لنا الطريق لنسأل، ربما: ما الذي تبقّى فينا من نايف الصالح؟ ومن الوطن؟ ومن الحلم؟
نيسان ـ نشر في 2025-05-07 الساعة 14:12
رأي: فراس عوض كاتب