لماذا أصبحتُ 'ذكوريا'. أو كما يصفنني؟
فراس عوض
كاتب
نيسان ـ نشر في 2025-05-13 الساعة 21:28
نيسان ـ منذ أن كنتُ طفلاً صغيراً، وقلبي يميل حيث تكون العدالة، لم تكن الأنثى في نظري خصماً أو نداً، بل شريكاً في الألم، شريكاً في الأمل. كنت أبحث في كل زاوية عن ندوات تتحدث عن المرأة، عن المساواة، عن الحقوق. لا أترك مقالة تُكتَب ولا مظاهرة تُقام ولا منشوراً يُرفع، إلا وكنت أول من يرفع صوته مؤيداً، داعماً. درست الدراسات العليا في الفكر النسوي ودراسات المرأة في الجامعة الأردنية ، وتغلغلتُ في عالمهن حتى آخر الحرف، وآمنت أن النضال الحقيقي لا يكون إلا بإنصاف الجميع، من دون استثناء.
طرقت أبواب الجمعيات، والمؤسسات، والمبادرات. لم أسعَ فقط إلى وظيفة، بل تطوعت.. أردت فقط أن أكون حيث يُصنع التغيير. حملت سيرتي الذاتية، مليئة بالشهادات، بالدورات، بالخبرات. توقعت أن يُفتح لي الباب كما يُفتح لكل من يحمل في قلبه وهما جميلاً للعدالة، لكن الصدمة كانت تتكرر. النظرات، الإيماءات، الجفاء الصامت. لم أكن أحتاج إلى كثير من الذكاء لأفهم الرسالة: أنت رجل. هذا يكفي ليُقصيك، تخيل، حتى تطوع لا يقبلوك!
في إحدى الجمعيات دخلت مبتسما، طبيعتي مرحة وبشوشة. ناولتني واحدة من الموظفات طلب تطوع لأملأه، قبل أن تقاطعنا مديرتها بنظراتها المتعالية، تُقلبني كما يُقلب ملف قديم لا حاجة إليه، سألتني إحداهن: " هل يمكن أن تداوم بمركز او عيادة كذا ؟" أجبتها، ولم أكن أعلم أن مجرد كوني رجلاً يجعلني في خانة المرفوض قبل أن تُقرأ كلماتي أو تُقاس مؤهلاتي، فقط مجرد إحساس! لا استغراب، فهم يروجون لطريقة تفكير قائمة على الإحساس، لا الواقع ، وهذا كما نعلم، يسمى بعلم النفس: خطأ تفكير، أي من اخطاء التفكير.
كنت أظن أن العدل يعني أن تُقاس بعقلك، بخبرتك، لا بجنسك، أن يكون لك مكان في طاولة النقاش لا لأنك ذكراً أو أنثى، بل لأنك تُضيف شيئاً ذا قيمة، لكنهن كسرن هذا الظن في قلبي، مرةً تلو أخرى.. رأيت كيف تُعامل المرأة إذا خالفت تيارهن، فكيف بالرجل؟ أنا الذي كنت يوماً أحد أصواتهن، أصبحت فجأة غير مرئي، بل غير مرغوب.
حضرت كل فعاليات إحداهن، أُصفق، أكتب، أدرب، أنظم، أشارك. ثم حين أردت التطوع، كلّفوني بعمل وان اجلس بين المكاتب، كان المكان صغير لا يحتمل، والعمل عادة يعمله طالبة بكالوريوس متدربة ، كطباعة ورقة! كنت بنهاية الثلاثين من عمري، ! ليس انتقاصا من عمل سكرتاريا، بل الأمر ليس في هذا، بل في النظرة التي تضعك في زاوية لا تليق بك ولا بمؤهلاتك وعمرك و تجاربك ونضالاتك ، بينما يجلس الآخرون – الأقل خبرة – على طاولات ومكاتب حولك، يرمقنك بنظراتهن المتعالية، و كانهن بعدم اعتبار لانفيهن، لا تفهمه.طلبت من مديرتهن حينها، عملاً ميدانياً يناسب مهاراتي، فأعادوا الاتصال بي فقط ليطلبوا مني ترتيب القاعة ، للإعداد لندوة! هكذا فهموا "الميدان"، وهكذا اختزلوا سنواتي وجهدي وألمي، يا إلهي.
رأيت في عيونهن شيئاً لا يُفسَّر، جفاف، حكم مُسبق، ترفعٌ بلا سبب. لا حوار، لا ترحيب، لا مساحة. وكلما حاولت أن أقترب أكثر، كلما شعرت أنني أتلقى صفعات صامتة. واحدة تتهرب من المصافحة، وأخرى تُشيح بوجهها، وثالثة تُحدّثك وكأنها تقرأ نشرة طقس مملة. التمست لهن اعذذارا كثيرة ، لكنني لم أعد أجد مخرجاً من هذه المتاهة، أدركت أخيراً أن ما اعتقدته سلوكاً شخصيا عابراً، لم يكن إلا منهجا متجذرا، إيديولوجيا كاملة، لا تسعك إن كنتَ تحمل صفة الذكورة فقط.
تلك الجمعيات التي تُطالب بالمساواة، لا تجد فيها رجلاً واحداً. لا كعضو، ولا كشريك، فقط شعار يُرفع حين يُناسب، ويُقصى حين يُربك، يتحدثن عن الكوتا، عن تمييز إيجابي، عن العدالة، لكن لا حديث عن الرجل، لا ذكر لهمومه، ولا صوت لمطالبه، ولا مقعد له في لجانهن، لا شيء.. لا شيء.
ثم تسألني إحداهن: لماذا أصبحت ذكوريا؟
أي ذكورية تقصدين؟ أهي تلك التي تحاولن أن تنسبنها لي لأنني لم أعد أُصفق لكنّ؟ أم هي رغبتكن في أن أكون تابعا صامتاً، وإلا فأنا "العدو الذكوري"؟
إن كنتُ "ذكورياً" لأنني رفضت الإقصاء، لأني تكلمت، لأني طالبت بالمكان ذاته، فليكن.
نعم، أنا ذكوري، ولكن برحمة، بعد أن رأيت كيف قسوتن،
ذكوريٌّ، إن كانت الذكورية تعني احترام النفس، والعدالة، والكرامة، بعد أن طردتن الإنسانية من معجمكن.
ذكوريّ، لأنني كنت نسوياً أكثر منكن، و أكثر فهما ممكن للانسانية قبل أن تصبح نسوية بجد ذاتها، وأشد إنصافاً.
ذكوريٌّ، لأنني اكتشفت أن من لا تحتمل مناصرا لها ولحقوقها، لن تنصف خصما.
والحق أني اليوم لم أعد أرى في بعضكن نسويات. بل متنسونات. منتسبات لحركة كان من الممكن أن تكون إنسانية، فأفرغتنها من روحها، من وعيها ، أنتن لا تبحثن عن المساواة، بل عن الهيمنة. لا تسعين للعدالة، بل للسلطة.
إن كنت أنا، المناصر، المهتم، المُدافع، قد لاقيت هذا الجفاء، فكيف بغيري، بمن لم يكن كذلك؟ كيف بالرجل العادي الذي لا يحمل أي فكر نسوي؟
لقد رأيت بأم عيني كيف أن النسوية اليوم لا تكتفي بإقصاء من يُخالفها، بل حتى من يدعمها إذا كان ذكراا. نعم، أنا أصبحت ذكوريا كما تصفنني، إن كانت هذه الكلمة تعني أن أقول: كفى. وما زلت أؤمن بالعدالة، بالإنصاف، بالشراكة... لكني لا أراها عندكن.
وللحديث بقية.
طرقت أبواب الجمعيات، والمؤسسات، والمبادرات. لم أسعَ فقط إلى وظيفة، بل تطوعت.. أردت فقط أن أكون حيث يُصنع التغيير. حملت سيرتي الذاتية، مليئة بالشهادات، بالدورات، بالخبرات. توقعت أن يُفتح لي الباب كما يُفتح لكل من يحمل في قلبه وهما جميلاً للعدالة، لكن الصدمة كانت تتكرر. النظرات، الإيماءات، الجفاء الصامت. لم أكن أحتاج إلى كثير من الذكاء لأفهم الرسالة: أنت رجل. هذا يكفي ليُقصيك، تخيل، حتى تطوع لا يقبلوك!
في إحدى الجمعيات دخلت مبتسما، طبيعتي مرحة وبشوشة. ناولتني واحدة من الموظفات طلب تطوع لأملأه، قبل أن تقاطعنا مديرتها بنظراتها المتعالية، تُقلبني كما يُقلب ملف قديم لا حاجة إليه، سألتني إحداهن: " هل يمكن أن تداوم بمركز او عيادة كذا ؟" أجبتها، ولم أكن أعلم أن مجرد كوني رجلاً يجعلني في خانة المرفوض قبل أن تُقرأ كلماتي أو تُقاس مؤهلاتي، فقط مجرد إحساس! لا استغراب، فهم يروجون لطريقة تفكير قائمة على الإحساس، لا الواقع ، وهذا كما نعلم، يسمى بعلم النفس: خطأ تفكير، أي من اخطاء التفكير.
كنت أظن أن العدل يعني أن تُقاس بعقلك، بخبرتك، لا بجنسك، أن يكون لك مكان في طاولة النقاش لا لأنك ذكراً أو أنثى، بل لأنك تُضيف شيئاً ذا قيمة، لكنهن كسرن هذا الظن في قلبي، مرةً تلو أخرى.. رأيت كيف تُعامل المرأة إذا خالفت تيارهن، فكيف بالرجل؟ أنا الذي كنت يوماً أحد أصواتهن، أصبحت فجأة غير مرئي، بل غير مرغوب.
حضرت كل فعاليات إحداهن، أُصفق، أكتب، أدرب، أنظم، أشارك. ثم حين أردت التطوع، كلّفوني بعمل وان اجلس بين المكاتب، كان المكان صغير لا يحتمل، والعمل عادة يعمله طالبة بكالوريوس متدربة ، كطباعة ورقة! كنت بنهاية الثلاثين من عمري، ! ليس انتقاصا من عمل سكرتاريا، بل الأمر ليس في هذا، بل في النظرة التي تضعك في زاوية لا تليق بك ولا بمؤهلاتك وعمرك و تجاربك ونضالاتك ، بينما يجلس الآخرون – الأقل خبرة – على طاولات ومكاتب حولك، يرمقنك بنظراتهن المتعالية، و كانهن بعدم اعتبار لانفيهن، لا تفهمه.طلبت من مديرتهن حينها، عملاً ميدانياً يناسب مهاراتي، فأعادوا الاتصال بي فقط ليطلبوا مني ترتيب القاعة ، للإعداد لندوة! هكذا فهموا "الميدان"، وهكذا اختزلوا سنواتي وجهدي وألمي، يا إلهي.
رأيت في عيونهن شيئاً لا يُفسَّر، جفاف، حكم مُسبق، ترفعٌ بلا سبب. لا حوار، لا ترحيب، لا مساحة. وكلما حاولت أن أقترب أكثر، كلما شعرت أنني أتلقى صفعات صامتة. واحدة تتهرب من المصافحة، وأخرى تُشيح بوجهها، وثالثة تُحدّثك وكأنها تقرأ نشرة طقس مملة. التمست لهن اعذذارا كثيرة ، لكنني لم أعد أجد مخرجاً من هذه المتاهة، أدركت أخيراً أن ما اعتقدته سلوكاً شخصيا عابراً، لم يكن إلا منهجا متجذرا، إيديولوجيا كاملة، لا تسعك إن كنتَ تحمل صفة الذكورة فقط.
تلك الجمعيات التي تُطالب بالمساواة، لا تجد فيها رجلاً واحداً. لا كعضو، ولا كشريك، فقط شعار يُرفع حين يُناسب، ويُقصى حين يُربك، يتحدثن عن الكوتا، عن تمييز إيجابي، عن العدالة، لكن لا حديث عن الرجل، لا ذكر لهمومه، ولا صوت لمطالبه، ولا مقعد له في لجانهن، لا شيء.. لا شيء.
ثم تسألني إحداهن: لماذا أصبحت ذكوريا؟
أي ذكورية تقصدين؟ أهي تلك التي تحاولن أن تنسبنها لي لأنني لم أعد أُصفق لكنّ؟ أم هي رغبتكن في أن أكون تابعا صامتاً، وإلا فأنا "العدو الذكوري"؟
إن كنتُ "ذكورياً" لأنني رفضت الإقصاء، لأني تكلمت، لأني طالبت بالمكان ذاته، فليكن.
نعم، أنا ذكوري، ولكن برحمة، بعد أن رأيت كيف قسوتن،
ذكوريٌّ، إن كانت الذكورية تعني احترام النفس، والعدالة، والكرامة، بعد أن طردتن الإنسانية من معجمكن.
ذكوريّ، لأنني كنت نسوياً أكثر منكن، و أكثر فهما ممكن للانسانية قبل أن تصبح نسوية بجد ذاتها، وأشد إنصافاً.
ذكوريٌّ، لأنني اكتشفت أن من لا تحتمل مناصرا لها ولحقوقها، لن تنصف خصما.
والحق أني اليوم لم أعد أرى في بعضكن نسويات. بل متنسونات. منتسبات لحركة كان من الممكن أن تكون إنسانية، فأفرغتنها من روحها، من وعيها ، أنتن لا تبحثن عن المساواة، بل عن الهيمنة. لا تسعين للعدالة، بل للسلطة.
إن كنت أنا، المناصر، المهتم، المُدافع، قد لاقيت هذا الجفاء، فكيف بغيري، بمن لم يكن كذلك؟ كيف بالرجل العادي الذي لا يحمل أي فكر نسوي؟
لقد رأيت بأم عيني كيف أن النسوية اليوم لا تكتفي بإقصاء من يُخالفها، بل حتى من يدعمها إذا كان ذكراا. نعم، أنا أصبحت ذكوريا كما تصفنني، إن كانت هذه الكلمة تعني أن أقول: كفى. وما زلت أؤمن بالعدالة، بالإنصاف، بالشراكة... لكني لا أراها عندكن.
وللحديث بقية.
نيسان ـ نشر في 2025-05-13 الساعة 21:28
رأي: فراس عوض كاتب