اتصل بنا
 

ليس الحجب من يحمينا، بل الوعي

كاتب وخبير قانوني

نيسان ـ نشر في 2025-05-16 الساعة 09:56

نيسان ـ ضياع الهوية التعليمية يعني أننا لا نعرف من نحن، ولا نُعلّم أبناءنا من يكونون. وضياع الهوية الإعلامية يعني أننا لا نعرف كيف نروي حكايتنا، ولا نملك لسانًا يُدافع عنها.
ليس العدو من خارج الحدود، بل من داخل العقول التي تم تفريغها بهدوء قاتل. نصرخ اليوم خوفًا من المحتوى الإعلامي المعادي، من الإذاعات العابرة للحدود، من المنصات المسعورة، بينما الجريمة الكبرى وقعت أمام أعيننا… في المدرسة. نعم، في المدرسة قبل أن تقع في المنصة. لا في الأخبار، ولا على "تيك توك"، بل في الحصص الأولى، في كتب الاجتماعيات المعقّمة، في دروس اللغة الخالية من الوطن، وفي مقررات تربوية نُزعت منها النخوة الأردنية خشية المبالغة، فنُزعت معها الهوية.
جيل كامل تخرّج من مدارسنا لا يعرف من هو كايد المفلح العبيدات الذي قاوم الاستعمار بالوثيقة قبل البندقية، ولا عن حابس المجالي إلا وجهًا على طابع بريد، ولا عن وصفي التل إلا اسماً لشارع يمرّ فيه، لا لقضيةٍ عاش واستُشهد من أجلها. لا يعرف شيئًا عن الجيش إلا ما يُقال على سبيل التعاليل. جيلٌ تربّى على الحياد البارد، على "لا شأن لي"، على أن الوطنية وجهة نظر، والولاء رأي، والهوية احتمال. جيلٌ صُمّمت مناهجه ليكون "متفوقًا في الامتحان"، لا مخلصًا في الامتحان الوطني الأكبر.
ضخٌّ خفيٌّ للامبالاة تم عبر سنوات، كما يُضخّ السمّ في الماء. أردنا أبناءً يُجيدون الإجابة في الرياضيات، فأنجبنا من لا يعرف كيف يطرح سؤالًا عن وطنه. لم نروِ له عن وصفي التل الذي كتب بيان الثورة واغتيل لأنه رفض أن تُساوم الأردن على فلسطين. لم نحدّثه عن حابس المجالي الذي واجه العدو بصدر عارٍ في معارك الكرامة. لم نخبره أن كايد المفلح قال "لا" حين كان الصمت هو القاعدة. لم نزرع في قلبه أن هؤلاء ليسوا رموزًا في الصور، بل أركانًا في المعنى.
حين يُصبح الطالب فريسةً سهلة لأي منصة ناعقة، وحين يرى في "ميم مرآتنا" و"Middle East Eye" أكثر قربًا من صوته الداخلي، حين يتأثر بأكاذيب "رصد" أكثر مما يتأثر بخطاب ملكيّ في لحظة مفصلية، فاعلم أن الجبهة قد تسقط قبل أن تبدأ المعركة. فالإعلام المعادي لا ينجح لأنه ذكي، بل لأننا أفرغنا الساحة من القصة الوطنية المقنعة، لأننا حجبنا الأردن قبل أن نحجب القنوات.
نعم… حجبنا الأردن أولًا، لا على شكل قرار وزاري، بل على هيئة إهمال، تأجيل، صمت، ومناهج بلا نفس. حجبناه حين خجلنا من المجد، وترددنا في تسمية المعارك، وسكتنا عن بطولات الرجال. حجبنا الأردن حين اختزلناه في معاملة حكومية، وفي وظيفة عمومية، وفي نشرة أخبار لا تُقنع طفلًا في الصف الخامس. حجبنا الأردن حين لم نعد نخبر أبناءنا عن رفاق السلاح، عن الجيش، عن القَسَم، عن الثرى المجبول بالعز والعرق والدم.
وحين نلتفت إلى الإعلام، لا نجده هناك بالصوت الذي نحتاجه. الهوية الإعلامية الأردنية مفقودة، مخنوقة بين بروتوكولات جامدة، وميزانيات محدودة، ونشرات لا تُلامس نبض الناس. الإعلام الرسمي يعمل ضمن ظروف صعبة، لكنه لم يُزوّد بعدُ بأدوات الاشتباك مع الجيل الجديد. الجيل الذي يتلقّى المعلومة من “تيك توك” قبل أن يسمعها من التلفاز، ويُصدّق "عربي بوست" أكثر مما يثق بمنبر وطنه.
الهوية الإعلامية المفقودة لم تكن عيبًا في الأفراد، بل نتيجة غياب مشروع وطني إعلامي جريء، عابر للشاشة، حي في الصوت، مؤمن بالوطن.
الخطير ليس أن العدو يبث، بل أننا لم نبنِ مناعتنا السردية، ولم نحكِ حكايتنا لأبنائنا، فحكاها غيرنا كما يشاء. والكارثة ليست في أن شبابنا ينجذبون للمنصات المضللة، بل في أن أحدًا لم يمنحهم منصة تشبههم وتُشبه وطنهم.
ضياع الهوية التعليمية والإعلامية ليس مجرد ضعف في الأداء… بل تهديد للسيادة الوطنية.
الهوية التعليمية إذا فُقدت، أنجبنا جيلًا لا يدري لمن ينتمي، والهوية الإعلامية إذا غابت، استيقظنا على وعيٍ مستورد، ونبرة لا تشبه صوتنا.
علينا أن نعيد رواية الأردن لأبنائنا، لا من مناهج تكتبها لجان مغتربة، بل من تراب السلط، والكرك، وإربد، والطفيلة.
علينا أن نعيد لوصفي التل صوته، ولحابس المجالي قسمه، ولكايد المفلح بيانه، ولجيشنا صورته كما هي: لا صورة بَطَل، بل بطل حي في الصورة.
إذا لم نروِ أبناءنا بحكاية الوطن، سيشربون من مستنقعات الإعلام المعادي. إذا لم نُعلّمهم كيف يُدافعون عن ترابهم بالكلمة والصوت والصورة، فسينطقون بما يُملى عليهم. وإذا بقينا نحجب المعلومة بالحذر، ونرد على التشكيك بالصمت، ونترك الفراغ مفتوحًا… فسوف نجد أنفسنا ذات يوم نحجب أبناءنا لا المواقع.
الوطن لا يُدافع عنه بجنودٍ على الجبهة فحسب، بل بعقول محصّنة، ومناهج شريفة، وإعلام وطني لا يخجل من أن يكون أردنيًا حتى النخاع.

نيسان ـ نشر في 2025-05-16 الساعة 09:56

الكلمات الأكثر بحثاً