اتصل بنا
 

القارئ العابر للأذهان والأزمان: من الانغلاق الذاتي إلى الانفتاح الكوني

نيسان ـ نشر في 2015-12-17 الساعة 10:34

القارئ العابر للأذهان والأزمان: من الانغلاق
نيسان ـ

معاذ بني عامر

ثمة نموذجان للقراءة أولهما انطوائي بالمفاهيم النفسية، قد يؤدّي من ضمن ما يؤدي إليه إلى انغلاقات معرفية مساوية لنموذج عدم القراءة أساساً، فهو يميت القارئ معنوياً ويضعه في تابوت مُعدّ سلفاً لغاية الحفاظ عليه من أخطار معارف الأحياء الآخرين.

وثانيهما انبساطي يسعى إلى نقل القارئ من الانغلاقات الاجتماعية، الوطنية، القومية، الأيديولوجية، الطائفية، العقدية، ودمجه في المُنتج المعرفي قديمه وحديثه، بما يضعه أمام استحقاق إنساني كبير. إليكم النموذجين:

1- انغلاقات الذات

هنا سينكمش القارئ ويحافظ على نسقه، ويحاول استحضار نموذج قرائي من سياقات قبيلته، وطنه، أيديولوجيته، عقيدته...الخ؛ مثلاً سيقول المُتديّن:! المتدين له مقدسه غير المتدين له مقدسه سيقول: (هكذا تكلّم زاردشت) لـ "نيتشه"؛ آن أوان الإنسان الفائق. الملحد سيقول: (وهم الإله) لـ "ريتشارد دوكنز"، لقد انتهينا من الحِمْل اللاهوتي الثقيل.

الناقد العربي القديم سيحيلك إلى كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ وكأنه يحيلك إلى سِرٍّ مُقدَّس، والناقد الحديث سيشرح لك –بصدر رحب- خطورة كتاب (نظام الخطاب) لـ "ميشيل فوكو".

عالِم الاجتماع سيدفعك دفعاً إلى (مقدمة ابن خلدون) لكي لا تقع في أخطاء قاتلة وأنت تحلّل العمران البشري، والسيكولوجي سيضع بين يديك كتاب (مدخل إلى التحليل النفسي) لـ "سيغموند فرويد" لكي تفهم ما يحدث للنفس الإنسانية بصورة أعمق. الاقتصادي إلى (ثروة الأمم) لـ "آدم سميث" لتعاين بنفسك الأساسات التي انبنى عليها المعمار الاقتصادي الحديث، والسياسي إلى (أمير) ميكافيللي؛ فأنت أمام مؤامرات إنسانية لا يمكن أن تفهمها بدون هذا الكتاب. السُنِّي سيتحدّث أمامك عن كتاب (معالم في الطريق) لـ "سيد قطب" كما لو كنتَ مُريداً عند شيخ جليل، والشيعي عن كتاب (فقه الشريعة) لـ "محمد حسين فضل الله" لكي تنتقل من الزلل إلى الصراط المستقيم، والصوفي عن كتاب (الفتوحات المكية) لـ "ابن عربي" لتفهم سِرّ الله المتواري داخل النفس الإنسانية، واليساري عن كتاب (رأس المال) لـ "كارل ماركس" لتتحوّل من مجرد مثقّف عادي إلى مثقّف أممي، وربّة البيت الشغوفة بالطبخ ستحيلك إلى كتاب (مطبخ منال العالم)؛ لكي تصبح خبيراً في الأذواق.

العاشق سيحيلك إلى ديوان (مئة رسالة حب) لـ "نزار قبّاني"، ليقول لك: أين أنت من عشقي؟!، والمكتئب إلى (أناشيد مالدورور) لـ "لوتريامون"؛ الحزنُ أيضاً يُأكل أكلاً مثل الطبيخ، والحالِم إلى رواية (الخيميائي) لـ "باولو كويلو"، فلطالما راودته أحلام مماثلة. الصبية المتحمسة ستأكل رأسك برواية (ذاكرة الجسد) لـ "أحلام مستغانمي"، إنها ولهى بالجُمَل المُنمنمة للتعبير عن مشاعرها، والشاب المندفع ناحية التغيير سيعتبرك جاهلاً إذا لم تقرأ (سيكولوجية الجماهير) لـ "غوستاف لوبون"؛ أيها العبيد لماذا لا تثورون وتنتفضون؟.

الشاعر سيحيلك إلى أحد دواوينه لا محالة، فهو شاعر المرحلة من كل بد.

الأردني سيهديك ديوان (عشيات وادي اليابس) لـ "عرار"، والسوداني (موسم الهجرة إلى الشمال) لـ "الطيب صالح"، واليمني (من أرض بلقيس) لـ "عبد الله البردوني"، والفرنسي (بؤساء) "فكتور هوغو"، والكولومبي (جنرال) "ماركيز"، والهندي ملحمة الرامايانا لـ "فالميكي" والإيراني شاهنامة الفردوسي.

العربي سيخلع قبعته احتراماً لمعلقات أجداده الشعرية، والأوروبي لـ (أورغانون) "فرنسيس بيكون" الجديد، والأمريكي لـ (براغماتية) "وليم جيمس"، والأفريقي لـ (الطريق الطويل إلى الحرية) لـ "نيلسون مانديلا"؛ وهكذا.

2- الانفتاح على الكون

ضمن سياق انبساطي بالمعنى السيكولوجي، واندماجي بالمعنى العقلي بين الذوات الإنسانية، ستكون لفتة بالغة الأثر من إنسان أردني أن يُنوِّه بمسرحية (أوديب ملكاً) لـ "سوفوكلوس"، ككتاب يقرأ للتحرّر من ضغط الوطنيات. وللقومي العربي أن ينوّه بكتاب (جنة الورد) لـ "سعدي الشيرازي"، لكي يتحلّل من عُقدة تفوّقه العِرقي، وللمتديّن أن يُنوّه بكتاب (قلق في الحضارة) لـ "سيغموند فرويد"، لكي يتحوّل من طور الانطواء اللاهوتي إلى طور الانبساط الناسوتي.

للسُنِّي أن يقرأ كتاب (بسط التجربة النبوية) لـ "عبد الكريم سروش"، لغاية الانتقال من الأحادية الدينية إلى الثنائية الدنيوية، وللشيعي أن يقرأ كتاب (العالمية الإسلامية الثانية: جدلية الغيب والإنسان والطبيعة) لـ "محمد أبو القاسم حاج حمد"، كتطبيق عملي ثانٍ لفكرة الثنائية بين السُنّة والشيعة.

للملحد أن ينوّه بكتاب (مدينة الرب) للقديس أوغسطين، حفظاً للصيرورة الإنسانية في دفقياتها الداخلية، وللمؤمن أن يُنوّه بكتاب (وهم الإله) لـ "ريتشارد دوكنز"، استمراراً للسيرورة الإنسانية في دفقياتها الخارجية.

للعقلاني أن يقرأ كتاب (ألف ليلة وليلة)، لكي يُبرِّد درجات الحرارة العالية لفرن دماغه، وللعاطفي أن يقرأ كتاب (المنطق) لـ "أرسطو"، حتى لا يتفتّت منهجياً.

للمرأة أن تقرأ (آنا كارنينا) لـ "تولستوي"، كنوعٍ من استبصار النعومة الأنثوية التي أبدعتها الخشونة الذكورية، وللرجل أن يقرأ (فرانكشتاين) لـ "ماري شيلي"، كنوعٍ من استبصار الخشونة الذكورية التي أبدعتها النعومة الأنثوية.

لعالم النفس أن يقرأ (المقدمة) لابن خلدون، لخلق توازن بين جوّانياته وبرّانياته، وللفيلسوف أن يقرأ (التائية الكبرى) لـ "ابن الفارض"، لكي لا يموت وهو لا يعرف شيئاً عن خلجات النفس الهائمة في الملكوت.

للمشارقي أن يقرأ (ليلة الفلق) لـ "فتحي بن سلامة"، لكي يبني جسراً ناسوتياً مع شركائه في الهمّ اللاهوتي، وللمغاربي أن يقرأ (طبائع الاستبداد) لـ "عبد الرحمن الكواكبي"، لكي يستلهم الأصول التاريخية المشتركة للجغرافيا العربية المتعددة.

للمسلم أن يقرأ (الطاو: إنجيل الحكمة الطاوية في الصين) لـ "لاو تسو"، لكي يستشعر المشترك الإنساني مع شركائه في الحضارة الإنسانية، وللمسيحي أن يقرأ (ملحمة الرامايانا) لـ "فالميكي"، لكي يتأكّد في النُطفة الإنسانية الواحدة التي لقحّت بويضات كثيرة، ولليهودي أن يقرأ (القرآن)، لكي يستحضر تجسدّاته الدينية اللاحقة، وللبوذي أن يقرأ (النشيد الشامل) لـ "بابلو نيرودا"، لكي يجمع بين نفسين توّاقتين للخلاص: نَفْس نيرودا ونَفْس بوذا.

في خطوة جريئة، يمكن للقارئ أن يصير –ضمن نسق قرائي شامل- هو الأردني، اليوناني، العربي، الفارسي، الأوروبي، الهندي، الصيني، الأميركي، الأسترالي؛ المُتديّن والشكّاك؛ السُنّي والشيعي؛ العقلاني والعاطفي؛ المرأة والرجل؛ عالم النفس وعالم الاجتماع؛ الفيلسوف والصوفي؛ المشارقي والمغاربي؛ المسلم والمسيحي واليهودي والبوذي والهندوسي. بحيث تحلّ فيه حيوات كثيرة وعديدة، تساهم في نقله من طور الانغلاقية والحصر في توابيت معدّة سلفاً، إلى طور الانفتاحية والتنقّل بين عقول كثيرة وأزمان عديدة.

نيسان ـ نشر في 2015-12-17 الساعة 10:34

الكلمات الأكثر بحثاً