اتصل بنا
 

متحف عايد ترابين... 'الحارس الأمين' لعلم المتاحف الفلسطيني والعربي

نيسان ـ نشر في 2025-06-09 الساعة 11:41

x
نيسان ـ نضال برقان
في خضمّ التحدياتِ التي واجهت «متحف تراث مِن عبقِ الترابِ»، وهو أولَ مُتحفٍ خاصٍ في مجالِ التراثِ الفلسطيني، ارتأت سادنةُ تراثه، ومجدّدةُ مسيرته، الطبيبة حليمة عايد ترابين (1894 - 2014)، وهي حفيدة الطبيبة «حاكمة» مؤسسة المتحف في العام 1790، في قريةِ «غزالة»، الواقعة في منطقةِ بئر السبع جنوبي فلسطين التاريخية، ضرورةَ تأهيلِ أحد أحفادها لحملِ إرث العائلة الكبيرِ، في مجالِ العمل المتحفي، بعد أن يتمّ ابتعاثه إلى عددٍ من دولِ العالم، ليكتسب المعرفة المطلوبة ليكون «الحارسَ الأمينَ»، القادرَ على مواصلة تطوير المتحف، على النطاقين: العربي ودولي، بعد أن تغرسَ فيه تفانيًا عميقًا في الحفاظ على تراث الثقافة البدوية الفلسطينية في النقب للأجيال القادمة، فكان ذلك المولودُ الذي أسمته جدّتُه (متحف).
فكرة الابتعاث تلك كانت ولدت من رحم حوارات مطوّلة، بين الدكتور حليمة وابن عمّها الدكتور أحمد منيف عثمان عايد الترابين (1886-1962م)، الذي كان يزورها في إسطنبول بين عامي 1910م و1916م، وبينما هي قامت بتنفيذ تلك الفكرة على حفيدها (متحف)، كان هو قد نفّذها على أبنائه، في مجال الطبّ والهندسة، وقد لمعَ من بينهم اسم ابنه الدكتور عثمان (1931-2021م)، الذي حصل على درجة الدكتوراه في ميكانيكا الموائع من جامعة السوربون في باريس، وقد كان متعلمًا وذكيًا، وشارك بنشاط في تطوير العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية بين أوروبا وسوريا، مروجًا لرؤية عائلية تركز على الأهداف طويلة الأمد، الناجم من الفهم المتبادل، والسلام وتوثيق العلاقات بين الشعوب، حكامًا، وعلماء، ونخب سياسية وفكرية.
كانت الجدّة مصدرًا معرفيًا رئيسًا ومُلهمًا للحفيدِ «متحف»، فنقلت إليه معرفتها شفويًا، وتولّت تعليمه منذُ نعومة أظفاره، واستنادًا إلى الرعاية القانونية التي يقدمها شيوخ قبيلة «عايد ترابين» لدير القديسة كاترين، استطاعت القبيلة المحافظةَ على علاقات وثيقة مع رهبان الدير، والكنيسة الأرثوذكسية اليونانية بشكل عام، وهو ما جعلت الطبيبة «حليمة» تتصل بالمجتمع الأرثوذكسي في روسيا للحصول على المساعدة في جهودها لتدريب مُمثل العائلة التالي لعلم المتاحف الفلسطيني: حفيدها «متحف».
من أجل الاعتراف بعلم المتاحف الفلسطيني على المستوى الدولي، أرسلت الدكتورة حَلِيْمَة عَايِد الترابين حفيدها إلى الخارج، وكلفته بمسؤولية دراسة علم المتاحف في روسيا وفرنسا وسويسرا لاكتساب المعرفة في هذه البيئات الثقافية المتنوعة. وضع تحت رعاية وإشراف البروفسور ميخائيل بوريسوفيتش بيوتروفسكي، المدير العام لمتحف الأرميتاج، ورئيس اتحاد المتاحف الروسية، ورئيس الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية في سانت بطرسبرغ ورئيس قسم الاستشراق ورئيس قسم علم المتاحف في جامعة سانت بطرسبرغ الحكومية.
أمضى مَتْحَف عَايِدْ الترابين شبابه الثاني في متحف الأرميتاج في سانت بطرسبرغ، العاصمة الثقافية والتاريخية لروسيا، هناك، تعمّق في تاريخ أوروبا وفن الإدارة في مجال الدبلوماسية الثقافية الدولية من خلال التربية المتحفيّة، والتي تعدّ اليوم من أقوى مصادر القوة الناعمة بين الدول المتقدمة. بالإضافة إلى ذلك، اتبع برنامجًا تدريبيًا خاصًا مع معلمين خصوصيين لتلبية احتياجاته المحددة كأحد الممثلين المستقبليين للتراث والثقافة الفلسطينية. تم تنظيم هذه البرامج تحت إشراف متحف الأرميتاج، وبدعم من بيوتروفسكي من خلال مركز تعليمي للشباب، أسسه عام 2000م، مما سمح له بالتواصل مع النخبة الثقافية في المجتمع، والتفاعل مع القادة الثقافيين الدوليين بصفته متخصصًا في التاريخ الفلسطيني والمشرقي وعلم المتاحف في متحف الأرميتاج بروسيا.
بفضل هذا الموقع المتميز، أتيحت له الفرصة للقاء شخصيات عالميّة بارزة في المجالات الثقافية والدينية. مثل المدير التنفيذي لمؤسسة الإرميتاج في إيطاليا، ماوريتسيو تشاكّوني، والمدير العام للمتحف الأثري الوطني في نابولي، باولو جوليريني، والقنصل العام لفرنسا في سانت بطرسبرغ، هيوك دو شافانياك، القنصل العام لفرنسا في سان بطرسبرغ ، وعائلة بنوا الفرنسية الروسية في نفس الوقت، الذين التقى بهم مَتْحَف عَايِدْ الترابين في العديد من المناسبات، تركوا انطباعًا قويًا عليه. بفضل تأثيرهم، طوّر فهمًا عميقًا للعقلية والثقافة والتاريخ الأوروبي، بالإضافة إلى إدراكه للتعقيدات الاجتماعية فيها.
حصل مَتْحَف عَايِدْ الترابين على درجة الماجستير بمعدل ممتاز في علم المتاحف من معهد الدولة للثقافة في سانت بطرسبرغ، ليصبح أول فلسطيني وعربي ينال هذا التميز في روسيا من خلال متحف الارميتاج الشهير، حضر الحفل شخصيات ثقافية بارزة من مجتمعات تونس ومصر ولبنان وسوريا وفلسطين والأردن واليمن وروسيا، ومن بينهم جيرالدين نورمان، مستشارة ميخائيل بيوتروفسكي ومديرة مؤسسة أصدقاء الإرميتاج في المملكة المتحدة البريطانية.
وبمناسبة هذه الدرجة العلمية حصل الباحث الاكاديمي متحف عايد ترابين على رسالة توصية مكتوبة شخصيا من البروفسور ميخائيل بوريسوفيتش بيوتروفسكي مدير عام متحف الارميتاج لانضمامه للعضوية المجلس الدولي للمتاحف نيابة عن روسيا، وكانت هذه بطاقة العضوية توزاي الجواز الدبلوماسي الدولي في قطاع عالم المتاحف، وبعد ذلك استمر مَتْحَف عَايِدْ الترابين في التعمّق ببحثه حول تاريخ الثقافة الفلسطينية داخل أراضي التاريخية للإمبراطورية الروسية وتلاها الاتحاد السوفيتي وصولا إلى الأراضي الحالية للاتحاد الفدرالي الروسي، حيث قام بجمع الكتب والأرشيفات من خبراء روس في شؤون الشرق الأوسط ومن رحالة روس زاروا الأراضي المقدسة. أنشأ مكتبة حول التراث الثقافي الفلسطيني في القرنين: التاسع عشر، والعشرين، تضمنت كتبًا بـ 12 لغة مختلفة.
ومن خلال تعاونه مع متحف الإرميتاج في سانت بطرسبرغ، ومتحف تاريخ الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية الفلسطينية، ومؤسسات ثقافية أخرى في أنحاء روسيا، تمكّن من جمع أرشيفات حول فلسطين تعود لفترات الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الروسية، بالإضافة إلى وثائق علمية أنتجت في ظل الاتحاد السوفييتي.
بناءً على نصيحة جدته، انتقل مَتْحَف عَايِدْ الترابين إلى فرنسا، حيث التحق بدرجة الماجستير ثم تابع الدكتوراه في جامعة السوربون في باريس منذ عام 2022م، هدفه هو اكتساب فهم شامل للنظام الفرنسي الجامعي في مجال علم المتاحف، وأطروحته ، بعنوان: «الملابس، الزينة الشعبية، الأغراض الشخصية والقطع المرتبطة بالمعتقدات الشعبية من العصر العثماني حتى نهاية الانتداب البريطاني في المجموعات الخاصة والعامة؛ من اجل بناء الذاكرة والتراث الفلسطيني».
خطوة حاسمة في الرحلة الطويلة التي تصورتها الدكتورة حَلِيْمَة عَايِد الترابين للمتحف ومستقبل الثقافة الفلسطينية كانت تحويل أفكار عائلة عايد الترابين إلى تخصص علمي رسمي ذو مجموعة محددة من الأساليب. بعد عقدين من التخطيط والبحث والتعاون مع خبراء التراث، منح مَتْحَف عَايِدْ الترابين منصة للمصطلح الأكاديمي (علم المتاحف الفلسطيني) من خلال تأسيس «أكاديمية المتاحف الفلسطينية والعربية» في باريس (EMPEA) عام 2022م.
يسعى مَتْحَف عَايِدْ الترابين لتوسيع أبحاثه وجهوده التعاونية في العالم الناطق بالألمانية واليابانية، بعدما عمل على إنشاء علاقات دبلوماسية ثقافية من خلال علم المتاحف الفلسطيني.

نيسان ـ نشر في 2025-06-09 الساعة 11:41

الكلمات الأكثر بحثاً