اتصل بنا
 

من الفصيل إلى القصر: أحمد الشرع بين الإرث العقائدي والتحديات الجيوسياسية

نيسان ـ نشر في 2025-06-12 الساعة 01:17

x
نيسان ـ خاص
مع وصول أحمد الشرع إلى قصر الرئاسة مطلع عام 2025، بدت اللحظة وكأنها تصفية نهائية لعصر الأسد، وبداية حقبة جديدة في تاريخ سوريا المعاصر، جاءت هذه النقلة بعد قرارات مباغتة تضمنت حل الأجهزة الأمنية والجيش، تعليق الدستور القائم، وإلغاء حزب البعث الحاكم، على المستوى الرمزي، بدا أن الثورة السورية، رغم تعثرها لسنوات، وجدت أخيرًا من يُعبّر عن خطابها في السلطة، لكن، حين يُمعَن النظر في خلفية أحمد الشرع ومسار صعوده، يبرز سؤال محوري؛ هل نحن أمام رجل دولة يعيد بناء سوريا، أم قائد فصائل سابق يُعيد إنتاج شبكات السيطرة بمعادلات جديدة؟
الشرع لم يأتِ من فراغ، فقد كان أحد أبرز الوجوه الفاعلة في المعارضة المسلحة، وصعد عبر بيئات تنظيمية متداخلة، بعضها ذو طابع عقائدي، وبعضها الآخر شديد التسلح والانغلاق، ارتبط اسمه بفصائل أقل ما يمكن أن توصف به هو الجهادية السلفية، هذه الخلفية ليست محملة فقط ببعدها المحلي، بل تجاوزت ذلك لدرجة أن أدت إلى أن يُدرج اسمه على قوائم دولية كأحد المطلوبين بتهم تتعلق بالإرهاب، مما يزيد من تعقيد ملفه السياسي ويطرح علامات استفهام حول مدى قابليته لتولي حكم دولة تسعى إلى الشرعية الدولية.
رغم ذلك، وعلى مستوى الخطاب الرسمي، يظهر الشرع التزامًا واضحًا بالتحول إلى دولة مدنية تعددية، تُدار بمؤسسات منتخبة وتحترم القانون، لكن هذا الخطاب يوازيه سلوك مركزي في إدارة المرحلة الانتقالية؛ احتكار صلاحيات رئيسية، إحاطة نفسه بنواة سياسية – أمنية ضيقة من ذات المحيط الفكري والتنظيمي، وتعطيل مؤقت للتمثيل البرلماني بحجة الظرف الاستثنائي، وهو ما يثير تساؤلات حول إمكانية تجاوز إرث الفصيل إلى دولة حقيقية، وهو ذاته ما أثار وكان مدعاة لإنتاج تعبير العدالة الانتقالية.
الرهان الرئيسي في هذه المرحلة لا يتعلق فقط بالنيات، بل بآليات الحكم، وهو ما يستلزم قدرة الشرع على التحول إلى رئيس لدولة، لا لفصيل، دولة تتحدد وفق مسارات ثلاث: بناء مؤسسات غير خاضعة للولاء الشخصي، ضمان الحريات السياسية بعيدًا عن الاصطفاف الإيديولوجي، والتعامل المتوازن مع الداخل السوري بتنوعه المذهبي والإثني والمناطقي، دون تغليب تيار على آخر.
لكن المعضلة لا تقف عند حدود قضايا الداخل، فسوريا اليوم ليست مجرد دولة خارجة من حرب، بل ساحة لتقاطع مصالح إقليمية ودولية شديدة التعقيد، حيث النفوذ الإيراني لم يتبدد، الوجود الروسي ما زال قائمًا، وتركيا تحتفظ بمناطق نفوذ مباشر، والولايات المتحدة لا تزال حاضرة في الشرق، والتحالفات غير المستقرة مع أطراف كردية تجعل أي قرار داخلي عرضة للاصطدام بحسابات خارجية.
في هذا السياق، تواجه قيادة الشرع تحديًا إضافيًا لا يقل أهمية ألا وهو الموقف الإسرائيلي، بالنسبة لتل أبيب، فإن المسألة لا تتعلق فقط بطبيعة النظام، بل بصلاته الممكنة بمحور المقاومة، الذي لطالما كان مصدر تهديد دائم للأمن الإسرائيلي، وأحمد الشرع، رغم محاولات التمايز عن النظام السابق وخطاب "الممانعة" التقليدي، يبقى في نظر كثير من المراقبين جزءًا من منظومة أوسع ارتبطت بفصائل كانت لها على الأقل تقاطعات ظرفية مع أجندات معادية لإسرائيل، ولهذا، فإن أي محاولة لبناء علاقات جديدة مع إيران، أو السماح بهامش واسع لفصائل عقائدية داخل الدولة، قد تُستخدم كذريعة لتعزز تدخلات إسرائيلية أمنية أو حتى عسكرية، بدعم ضمني من الغرب.
هذه الضغوط الجيوسياسية تتقاطع مع تعقيدات الداخل السوري، حيث يتوقع الشارع نتائج ملموسة بعد سنوات من التضحيات، الأزمة الاقتصادية، انهيار البنية التحتية، والتهجير الداخلي والخارجي، كلها ملفات تنتظر المعالجة الفعلية لا الرمزية، وفي هذا السياق، فإن مشروعية الشرع لا يمكن أن تقوم فقط على كونه من رحم الثورة، بل يجب أن تُبنى على الأداء والمؤسسات والنتائج.
في محاولة لتقديم حلول عملية، شرع النظام الجديد بطرح مبادرات لإعادة بناء المؤسسات الأمنية على أسس وطنية، تعمل ضمن إطار القانون والدستور الجديد، مع دعوة لإشراك ممثلين عن مختلف المكونات السورية لضمان عدم هيمنة فصيل أو تيار بعينه، كما أعلن عن خطة لتعزيز الاقتصاد عبر تشجيع الاستثمارات المحلية والدولية، مع التركيز على إعادة تأهيل البنى التحتية الأساسية، مثل الماء والكهرباء والنقل، ورغم التحديات، يسعى إلى إطلاق حوار وطني شامل يجمع مختلف الأطراف السياسية والاجتماعية لإقرار دستور جديد يضمن التعددية السياسية، لكن هذا لم يحد من نبرة الاحتجاج الآخذة بالتصاعد.
وهنا تظهر المفارقة الأساسية: الخطاب الإيديولوجي الذي صعد به الشرع، كان قائمًا على "الاستقامة الثورية" ورفض البراغماتية السياسية للنظم القائمة، لكنه اليوم، يجد نفسه مضطرًأ إلى تكييف شعارات الثورة مع ضرورات الحكم، والتعامل مع أطراف لطالما كانت من "الخصوم السياسيين" أو حتى "أعداء الثورة"، وهو تكيّف ضروري، لكنه محفوف بمخاطر التآكل الأخلاقي إذا لم يُدر بشفافية ومسؤولية وطنية.
ربما ما يميز المشهد اليوم هو إدراك وتفهم القيادة السورية الجديدة أن الشرعية لا تُمنح إلى الأبد، ولا تُكتسب بالثورات فقط، بل تُستعاد يوميًا من خلال مؤسسات فاعلة، خطاب عقلاني، وإدارة شاملة للأزمات دون تبرير الفشل بالماضي، فالشرع، وهو يتحرك بين الألغام السياسية والعسكرية والاقتصادية، يواجه مهمة مزدوجة: تفكيك النظام السابق دون استنساخه، وتأسيس دولة دون أن تبتلعها الحسابات الفصائلية التي حملته إلى القصر الرئاسي.
في هذا التداخل المربك بين الإيديولوجيا والإدارة، بين التنظيم والدولة، بين الثورة والواقع، يكمن التحدي الحقيقي، وإذا كانت الثورة قد أسقطت رأس النظام السابق، فإن ما سيحدد مآلات سوريا ليس السقوط بل البناء، لا النوايا بل المؤسسات، لا الشعارات بل التوازنات.

نيسان ـ نشر في 2025-06-12 الساعة 01:17

الكلمات الأكثر بحثاً