بين برود الدولة وحرارة الناس.. من يشرح؟
نيسان ـ نشر في 2025-06-15 الساعة 01:45
نيسان ـ محمد قبيلات
في لحظات التوتر الإقليمي الكبرى، تميل الدول البينية إلى انتهاج الحذر، وتحاول الحفاظ على توازنها عبر مواقف محسوبة تُصاغ في الغرف العليا، هذا الخيار ليس دائمًا مدعاة للانتقاد، فقد يكون أحيانًا شرطًا للبقاء، لكن المقلق أن يتحول هذا الحذر إلى مبدأ مطلق، لا إلى استراتيجية ظرفية، فما يُبرر كحكمة في لحظة قد يُكرّس لاحقًا كمبرر دائم لعزل السياسة عن المجتمع.
ليست هذه الظاهرة جديدة في منطقتنا، فالدول العربية التي وجدت نفسها في مرمى صراعات القوى الكبرى أو محاور الإقليم كثيرًا ما اختارت تموضعًا آمنًا، تحكمه حسابات توازن دقيقة، لا مواقف مبدئية واضحة، في الحالة الأردنية مثلًا، يمكن تلمّس هذا التوجّه في التصريحات الرسمية الدقيقة، التي تدين العدوان الإسرائيلي من جهة، وترفض أن يكون الأردن ساحة حرب من جهة أخرى، دون الانجرار إلى إعلان اصطفاف مباشر مع أي محور.
لكن ماذا عن المجتمع؟ عن الرأي العام؟ عن الانفعالات والوجدان السياسي؟ هنا تبدأ مفارقة أعمق؛ الدولة تتحرك وفق منطق الحسابات، بينما يعيش الناس، في غالبيتهم، داخل منطق الانحيازات، أغلب هذه الانحيازات متجذر في الذاكرة الجمعية، مثل اعتبار إسرائيل العدو الأول والأخير، وبعضها حديث العهد، نتاج التحولات الأخيرة، التي أفرزت مشهدًا معقدًا اختلطت فيه الجغرافيا بالحسابات قصيرة المدى، والمصالح بالعداوات المؤقتة.
من هذا التناقض، يظهر ميل خطابي لدى بعض النخب لتقديم موقف الدولة على أنه الموقف "العقلاني الوحيد"، مقابل تصوير المواقف الشعبية على أنها إمّا عاطفية أو متهورة أو متأثرة بالتحريض، وهذا الميل، وإن كان يُسوَّق أحيانًا باسم "المصلحة الوطنية"، إلا أنه يحمل في جوهره نزعة استعلائية سلطوية تتعامل مع المجتمع على أنه قاصر أو غير ناضج سياسيًا.
والحقيقة أن المجتمعات، حتى حين ترتبك أو تتباين في مواقفها، تظل مصدر الشرعية الأعمق، ومن دون إشراكها، ولو عبر النقاش العام وتوسيع أفق التعبير، تتحول الدولة إلى كيان فوقي منفصل عن نبض الناس، وهذا الانفصال، في لحظات التوتر الإقليمي، قد يفاقم الشعور بالغربة السياسية ويضعف الثقة الوطنية.
في المقابل، لا بد من الاعتراف أن المجتمع نفسه ليس دائمًا منسجمًا مع ذاته، فبعض الأصوات في الداخل قد تذهب بعيدًا في التأييد أو الرفض، إما بحسن نية أو من منطلقات أيديولوجية أو طائفية أو جهوية، وهناك من يقفز إلى استنتاجات متسرعة حول هوية العدو أو الحليف، مستندًا إلى مجرد جهة إطلاق الصاروخ أو اسم الفصيل.
لكن هنا تحديدًا، تبرز مسؤولية الدولة لا في فرض الخطاب، بل في ترشيده، فلا يكفي أن تكون السياسة الخارجية دقيقة وباردة، بل لا بد أن تكون مفهومة ومبرّرة ومرتبطة بحسّ عام مشترك، أي وطني، لأن الساسة لا يملكون رفاه الاستمرار في تمثيل شعب لا يشعر أن سياسته تعبّر عنه.
ثمة أيضًا ما هو أعمق من الجدل السياسي اليومي؛ شكل الانتماء ذاته، حين يقول مواطن بسيط إني عربي وبلدي تشمل فلسطين التاريخية، فهو لا يمارس شاعريّة لغوية، بل يعبّر عن وعي تاريخي وجغرافي ووجداني، لا تمحوه خرائط ما بعد معاهدات سايكس بيكو وما بعدها، وهذا الشعور، سواء اتفقنا معه أو لا، يجب أن يُفهم ويُحترم، لأنه جزء من بنية الوعي الجمعي العربي التي لم تُفكك تمامًا بعد، رغم كل محاولات إعادة الصياغة السياسية.
من جهة أخرى، ثمة قطاع شعبي واسع لا يزال يرى أن كل ما يُطلق على إسرائيل هو مقاومة مشروعة، وأن أي اعتراض لتلك الصواريخ، ولو لأسباب تقنية تتعلق بحماية الأجواء، هو اصطفاف مريب، وهذا ليس بالتبسيط السياسي الذي ينتشر في الأوساط الشعبية، بل هو الوجه الآخر لمشكلة عزل المجتمع عن المعطيات الواقعية للسياسة، فحين لا يُشرح الموقف، ولا يُفهم السياق، وتستعصي السرديات الرسمية على الهضم، فإن الناس ستملأ الفراغ بتأويلاتها الخاصة، والتي قد تكون متناقضة، أو حتى خطيرة.
إن انحياز الناس للمقاومة لا يعني بالضرورة معاداة الدولة، كما أن تحفظ الدولة لا يعني بالضرورة تواطؤًا، المطلوب هو بناء الجسور التي تربط بين البرود السياسي الرسمي والحرارة الشعبية، بين حسابات الغرف المغلقة ونداءات الشارع، خصوصا أننا ما زلنا نعيش في حقبة الاستحقاقات القومية، بما هي بناء للدولة الوطنية، وإنشاء للإجابات على الاسئلة الوطنية الكبرى.
الاستقرار، في النهاية، لا يُصان فقط بالدقة في الصياغات الرسمية، بل أيضًا ببناء حالة من الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع، والثقة لا تُفرض، بل تُبنى بالوضوح والتفسير والانفتاح على التعدد، لا بالخوف من الارتباك ولا بالتشكيك في وعي الناس.
ففي عصر تعقّدت فيه التحالفات، وتداخلت فيه الجبهات، لم يعد السؤال: مع من نقف؟ بل، كيف نفكّر؟ وكيف نبني موقفًا وطنيًا منسجمًا، يراعي الأولويات الوطنية ويصونها، لا بين أوساط السلطة ومستوياتها فقط، بل بين الشعب والسلطة معًا؟
في لحظات التوتر الإقليمي الكبرى، تميل الدول البينية إلى انتهاج الحذر، وتحاول الحفاظ على توازنها عبر مواقف محسوبة تُصاغ في الغرف العليا، هذا الخيار ليس دائمًا مدعاة للانتقاد، فقد يكون أحيانًا شرطًا للبقاء، لكن المقلق أن يتحول هذا الحذر إلى مبدأ مطلق، لا إلى استراتيجية ظرفية، فما يُبرر كحكمة في لحظة قد يُكرّس لاحقًا كمبرر دائم لعزل السياسة عن المجتمع.
ليست هذه الظاهرة جديدة في منطقتنا، فالدول العربية التي وجدت نفسها في مرمى صراعات القوى الكبرى أو محاور الإقليم كثيرًا ما اختارت تموضعًا آمنًا، تحكمه حسابات توازن دقيقة، لا مواقف مبدئية واضحة، في الحالة الأردنية مثلًا، يمكن تلمّس هذا التوجّه في التصريحات الرسمية الدقيقة، التي تدين العدوان الإسرائيلي من جهة، وترفض أن يكون الأردن ساحة حرب من جهة أخرى، دون الانجرار إلى إعلان اصطفاف مباشر مع أي محور.
لكن ماذا عن المجتمع؟ عن الرأي العام؟ عن الانفعالات والوجدان السياسي؟ هنا تبدأ مفارقة أعمق؛ الدولة تتحرك وفق منطق الحسابات، بينما يعيش الناس، في غالبيتهم، داخل منطق الانحيازات، أغلب هذه الانحيازات متجذر في الذاكرة الجمعية، مثل اعتبار إسرائيل العدو الأول والأخير، وبعضها حديث العهد، نتاج التحولات الأخيرة، التي أفرزت مشهدًا معقدًا اختلطت فيه الجغرافيا بالحسابات قصيرة المدى، والمصالح بالعداوات المؤقتة.
من هذا التناقض، يظهر ميل خطابي لدى بعض النخب لتقديم موقف الدولة على أنه الموقف "العقلاني الوحيد"، مقابل تصوير المواقف الشعبية على أنها إمّا عاطفية أو متهورة أو متأثرة بالتحريض، وهذا الميل، وإن كان يُسوَّق أحيانًا باسم "المصلحة الوطنية"، إلا أنه يحمل في جوهره نزعة استعلائية سلطوية تتعامل مع المجتمع على أنه قاصر أو غير ناضج سياسيًا.
والحقيقة أن المجتمعات، حتى حين ترتبك أو تتباين في مواقفها، تظل مصدر الشرعية الأعمق، ومن دون إشراكها، ولو عبر النقاش العام وتوسيع أفق التعبير، تتحول الدولة إلى كيان فوقي منفصل عن نبض الناس، وهذا الانفصال، في لحظات التوتر الإقليمي، قد يفاقم الشعور بالغربة السياسية ويضعف الثقة الوطنية.
في المقابل، لا بد من الاعتراف أن المجتمع نفسه ليس دائمًا منسجمًا مع ذاته، فبعض الأصوات في الداخل قد تذهب بعيدًا في التأييد أو الرفض، إما بحسن نية أو من منطلقات أيديولوجية أو طائفية أو جهوية، وهناك من يقفز إلى استنتاجات متسرعة حول هوية العدو أو الحليف، مستندًا إلى مجرد جهة إطلاق الصاروخ أو اسم الفصيل.
لكن هنا تحديدًا، تبرز مسؤولية الدولة لا في فرض الخطاب، بل في ترشيده، فلا يكفي أن تكون السياسة الخارجية دقيقة وباردة، بل لا بد أن تكون مفهومة ومبرّرة ومرتبطة بحسّ عام مشترك، أي وطني، لأن الساسة لا يملكون رفاه الاستمرار في تمثيل شعب لا يشعر أن سياسته تعبّر عنه.
ثمة أيضًا ما هو أعمق من الجدل السياسي اليومي؛ شكل الانتماء ذاته، حين يقول مواطن بسيط إني عربي وبلدي تشمل فلسطين التاريخية، فهو لا يمارس شاعريّة لغوية، بل يعبّر عن وعي تاريخي وجغرافي ووجداني، لا تمحوه خرائط ما بعد معاهدات سايكس بيكو وما بعدها، وهذا الشعور، سواء اتفقنا معه أو لا، يجب أن يُفهم ويُحترم، لأنه جزء من بنية الوعي الجمعي العربي التي لم تُفكك تمامًا بعد، رغم كل محاولات إعادة الصياغة السياسية.
من جهة أخرى، ثمة قطاع شعبي واسع لا يزال يرى أن كل ما يُطلق على إسرائيل هو مقاومة مشروعة، وأن أي اعتراض لتلك الصواريخ، ولو لأسباب تقنية تتعلق بحماية الأجواء، هو اصطفاف مريب، وهذا ليس بالتبسيط السياسي الذي ينتشر في الأوساط الشعبية، بل هو الوجه الآخر لمشكلة عزل المجتمع عن المعطيات الواقعية للسياسة، فحين لا يُشرح الموقف، ولا يُفهم السياق، وتستعصي السرديات الرسمية على الهضم، فإن الناس ستملأ الفراغ بتأويلاتها الخاصة، والتي قد تكون متناقضة، أو حتى خطيرة.
إن انحياز الناس للمقاومة لا يعني بالضرورة معاداة الدولة، كما أن تحفظ الدولة لا يعني بالضرورة تواطؤًا، المطلوب هو بناء الجسور التي تربط بين البرود السياسي الرسمي والحرارة الشعبية، بين حسابات الغرف المغلقة ونداءات الشارع، خصوصا أننا ما زلنا نعيش في حقبة الاستحقاقات القومية، بما هي بناء للدولة الوطنية، وإنشاء للإجابات على الاسئلة الوطنية الكبرى.
الاستقرار، في النهاية، لا يُصان فقط بالدقة في الصياغات الرسمية، بل أيضًا ببناء حالة من الثقة المتبادلة بين الدولة والمجتمع، والثقة لا تُفرض، بل تُبنى بالوضوح والتفسير والانفتاح على التعدد، لا بالخوف من الارتباك ولا بالتشكيك في وعي الناس.
ففي عصر تعقّدت فيه التحالفات، وتداخلت فيه الجبهات، لم يعد السؤال: مع من نقف؟ بل، كيف نفكّر؟ وكيف نبني موقفًا وطنيًا منسجمًا، يراعي الأولويات الوطنية ويصونها، لا بين أوساط السلطة ومستوياتها فقط، بل بين الشعب والسلطة معًا؟


