اتصل بنا
 

القرض بدل الغزو: الوجه الحديث للاستعمار وسقوط الاستقلال في الوطن العربي

نيسان ـ نشر في 2025-07-01 الساعة 21:40

نيسان ـ منسوب لدوق روتشيلد
" دعهم يسرقون أموال شعوبهم ليودعوها في بنوكنا، ثم نُقرض شعوبهم من أموالهم ولا نحتاج لأكثر من وزير من جنودنا."
حين تُمهد
القروض طريق الاحتلال
لم تُهزم الدولة العثمانية بالبندقية وحدها، بل سقطت أمام دفتر الدين. منذ منتصف القرن التاسع عشر، بدأت السلطنة تقترض من المصارف الأوروبية وباسم الإصلاح والتنمية وقعت في شرك الديون. وعندما عجزت عن السداد لم تتأخر البنوك عن إرسال جيوشها. أنشئ "مجلس الدين العام العثماني" عام 1881 ليشرف على مالية الدولة، لكنه في الحقيقة كان إعلانًا لنهاية السيادة وبداية الوصاية.
في مصر لم يكن الاحتلال البريطاني عام 1882 نتيجة تمرد عرابي فقط، بل ثمرة مباشرة لانهيار الاقتصاد تحت عبء قروض ضخمة أُنفقت على مشاريع استعراضية كالخديوي إسماعيل، ثم وقعت البلاد تحت إدارة مالية أجنبية تحولت سريعًا إلى احتلال سياسي.
وفي تونس سبقتها فرنسا عام 1881 باتفاق مشابه، حيث مهّدت اللجنة المالية الدولية الطريق لوضع يدها على البلاد، بعد أن فُرضت على الباي قروض منهكة نُظمت عبر وسطاء فرنسيين وإيطاليين.
ما حدث آنذاك ليس استثناءً تاريخيًا، بل نموذج متكرر تواصل لاحقًا في بلدان كثيرة من العالم الثالث، حيث لعبت الديون دورًا استعماريًا ناعمًا. فالاحتلال الحديث لا يحتاج مدافع، بل اتفاقيات قروض تحمل في طياتها الوصاية وتُجرد الأمم من سيادتها المالية، تمهيدًا لسلبها استقلالها السياسي.
ليست هذه الجملة التي نسبت لروتشيلد خطة اقتصادية فحسب، بل إعلان لعقيدة غامضة خرجت من رماد الهيكل الأول حيث ارتبط الإله بالربا وتحوّلت النبوءة إلى أرباح واختلطت الكهانة بالأرقام. إنها عقيدة من قالوا منذ القِدم: من يملك الذهب يكتب الشريعة.
الهيكل القديم والهيكل الحديث
تلك المقولة لا تنتمي إلى العصر الحديث وحده، بل تمتد جذورها إلى زمن كانت فيه السلطة الروحية متحالفة مع القوة المالية. فكما كان المعبد في أورشليم يحتفظ بذهب الشعوب ويمنح غفران الخطايا مقابل العُشر، صار البنك المركزي يحتفظ باحتياطات الدول ويمنح الاستقرار المالي مقابل خضوع السياسات.
في هذا السياق لم تأتِ عائلة روتشيلد بفكرة جديدة. لقد نفخوا الروح في تعليمٍ قديم لم يُعلن قط، لكنه يُمارس بدقة فوق طاولة كل قرض دولي، وتحت ظل كل توقيع على اتفاقية قروض مشروطة، باسم التنمية والإصلاح.
الوزير الكاهن: خادم الشريعة المالية
الوزير الذي يُنصب اليوم في دول العالم النامي ليس مجرد موظف تكنوقراطي، بل هو كاهن جديد في معبد بلا صليب أو هلال. يُجيد لغة الأرقام أكثر من لغته الأم. يُبارك من يخضع لنظام الهيكل ويلعن من يجرؤ على الرفض. يُوقّع على "برامج الإصلاح التي تُحوّل الوطن إلى قربان على مذبح الأسواق وتُفرغ الاستقلال من مضمونه.
إن الاستقلال المالي لم يُحقق لشعوبنا ذات يوم استقلالًا سياسيًا حقيقيًا. فطالما أن خيوط القرار مرهونة بالقروض، والموازنات مرهونة بإملاءات المانحين، فإن الوطن ليس أكثر من شركة تدار من الخارج ويتناوب على تمثيلها موظفون محليون تحت لافتة "السيادة الوطنية.
الاقتصاد الدولي: عبودية مُقنّعة
منذ اتفاق بريتون وودز (1944)، حين وُلدت مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، أصبح العالم خاضعًا لهيكل مالي جديد. لم تُفرض السيطرة بالجيوش فقط، بل بالعقود المشروطة وبآلية الفوائد المركبة وبفكرة الإصلاح مقابل التمويل.
ما يُسمّى بالسياسات النيوليبرالية—الخصخصة، تخفيض الإنفاق الاجتماعي، تحرير الأسواق—لم يكن خيارًا حرًّا، بل شريعة جديدة تحكم باسم الفعالية الاقتصادية، بينما تترك وراءها شعوبًا مسحوقة ومؤسسات وطنية مفرّغة من معناها.
عقيدة لم تمت ،بل بدّلت ثيابها
ما نعيشه اليوم هو استمرار لتلك الشريعة القديمة التي لا تزال تمارس نفوذها تحت مسميات حديثة. لم تمت، بل بدّلت جلدها. لم تعد تُعلن عن نفسها، لكنها حاضرة في كل اتفاقية هيكلة ديون في كل برنامج تصحيح اقتصادي وفي كل وزير يُفرض على وطنه كأنه وكيل لمعبد غامض.
إن الاستقلال الحقيقي لا يُقاس بالأعلام والحدود، بل بقدرتنا على أن نقول لا حين تكون نعم هي الذبح.
مراجع وإحالات:
-The House of Rothschild by Niall Ferguson
-Confessions of an Economic Hitman by John Perkins
-تقارير صندوق النقد الدولي حول برامج الإصلاح الهيكلي في دول الشرق الأوسط
-دراسات نقدية عن زالنيوليبرالية في العالم العربي، منها: "الاقتصاد السياسي للتبعية" (سمير أمين).
وليد العريض ،تاريخ الدولة العثمانية التاريخ السياسي والاجتماعي ودراسات تاريخية ،$دار الفكر -عمان2012

نيسان ـ نشر في 2025-07-01 الساعة 21:40


رأي: د. وليد العريض

الكلمات الأكثر بحثاً