اتصل بنا
 

هل تُمحى الرموز الثقافية السورية في ظل المقتلة؟

نيسان ـ نشر في 2025-07-04 الساعة 12:39

x
نيسان ـ منذ بدء المقتلة السورية وثمة ظاهرة لا تزال لافتة للنظر على الجدار الأزرق، أبطالها كل أطراف الصراع، يُمارس هؤلاء التجريح الشخصي ضد بعض المبدعين في أكثر من حقل ثقافي، ولا يقاربون نتاجهم بعمق أو بنقد موضوعي، وهذه الظاهرة تتناول أهم الأسماء والرموز الثقافية السورية، الراحلة أو التي على قيد الحياة، وتهشمهم لمواقف قديمة أو لأفعال شخصية.
ولمعرفة أسباب هذه الظاهرة، وكيف ينظر الكتّاب والمثقفون لها، وما السبيل للحدّ منها أجاب الشاعر والناقد د. سعد الدين كُلِيب، والباحث د. محمد فاتح زغل، وإلى الروائية الليبية رزان نعيم المغربي، فكانت مساهماتهم على النحو الآتي:
هامش للنقاش والحرية
يقف الباحث السوري د. محمد فاتح زغل، في بدء تحليله للظاهرة أمام نقطتين: أولاهما أنه على المثقف ألا يتهيب من أن يكون مختلفاً سواء داخل النص أو خارجه، فالمبدع عموماً حسب "كافكا" لا يعيش من أجل كتابته فقط، بل يعيش في كتاباته أيضاً، بمعنى أنه في الثقافة عموماً وبالسورية خصوصاً يجري التفكير في الآخر باعتباره المختلف عنا، ولأجل ذلك يجب أن يتدبروا أمرهم في العودة وإصلاح هذا الاختلاف، أو نفتح للنقاش والحرية هامشاً لتبادل وجهات النظر، أو أن نحاصرهم ونضيّق عليهم سواء بنبذهم واستخدام ألفاظ خارجة عن إطار حق الاختلاف، ولأجل ذلك أبحنا للأنا الجديدة أن تترصد ذلك "الآخر" بالمتابعة وأن تدعوه أن يصلِح ذاته لكي يغدو مثلها، ومنهم من ذهب فوراً إلى الاتهام والمعاداة والتصنيف.
والثانية كي نتقدم أكثر في التفسير وتعميق التصور، فإن ذات "الأنا" تحاول الاستقواء بالجماعة وتختبئ خلفها أو خلف الانتماءات الفكرية أو العقدية أو الوطنية أو السياسية الحاكمة، وعليها يقيس اختلافه مع الآخرين، ولنتساءل بصدق ماذا يعني لنا الاختلاف؟ سؤال قد لا نطرحه إلا لكي نرى ذلك المختلف عنا مختلفاً. لكن أنرى أنفسنا؟ تلك الأنا المُفردة المتوارية القابعة خلف الجماعة أو أي انتماء.
ويضيف "في هذا الفضاء الأزرق نحن نرتاب من المختلف في عمق اعترافنا بمبادئ الاختلاف والتعدد، هل من الطبيعي أن نتطابق ونميل إلى من يشبهنا أكثر؟ لكن ماذا عن تجاذبات الاختلاف المدهشة والتفاعل الإنساني؟"

استعلاء الثقافة الجماهيرية
أمّا ماذا نفعل نحن في الفضاء الأزرق؟ يرى د. فاتح أن الثقافة الجماهيرية تكتسح راهناً باستعلاء هذا العالم على مستويات التداول والتلقي والقراءة والنقد وربما الصداقات والعداوات، وينال "الفاترينا" من يقوم بنبذ الآخر وقمعه وسلبه كل حقوقه، نوع من التشبيح الثقافي ضد الآخر.
وباعتبار د. فاتح ليس قريباً كفاية من حالة الثقافة السورية بسبب إقامته في الإمارات منذ عام 1992، حيث عمل في مركز زايد للدراسات والبحوث، ومديراً لتحرير مجلة الإمارات الثقافية، يقول: "هذه الحضن أو المناخ الذي عملت فيه وثمة أكثر من 1500 من كبار مثقفي الوطن العربي ومفكريه من اليمين إلى الوسط إلى اليسار وأقصاه كما يقول درويش، ورغم الاختلاف الواضح عندما كنت أقود الحوار بينهم على صفحة المجلة، كنت أحرص على موضوعية البحث ومنهجيته ولا أحشر نفسي في الأيديولوجيا، وكنت أنظر إليها كجزء مهم من تاريخ الثقافة الإنسانية".
وتابع الباحث "في الختام أو بمثابة النهج الذي يحدّ من هذه الظاهرة، أقول مستفيداً من تجربتي في الإمارات، فقد درجوا على إطلاق شعار يكون بمثابة منهج للعمل في كل عام، منها كان (عام التسامح) كقيمة إنسانية نبيلة تشمل احترام الآخرين وقبول الاختلاف، والصفح لمن يستحقه، ولمن يريد أن يسامح، والهدف الأسمى لبناء مجتمع متسامح أكثر تلاحماً، ما أحوجنا إليه اليوم".
من السياسي إلى الاجتماعي
الأديب السوري نجم الدين سمّان، رئيس تحرير سابق، مقيم حالياً في باريس، أعاد جذر الظاهرة إلى حادثة قديمة، وإن بدت لوهلة أنها ظاهرة جديدة مع وسائل التواصل، أي أنها في رأيه: انتقلت من الحيز الثقافي/السياسي إلى الحقل العام الاجتماعي، وبخاصة مع الشرخ العمودي في المجتمع السوري الذي بدأته الانقلابات العسكرية منذ 1949، وحتى انقلاب حافظ الأسد وصولاً إلى التوريث عام 2000، ثم تبلور مع انطلاق مظاهرات الثورة السورية 2011.

سطوة الجدانوفية
ويوضح جذر الظاهرة بالقول: "لنا أن نستعيد من الذاكرة ما تعرض له الشاعر نزار قباني من حملات القوى المحافظة في دمشق من خمسينات قرن مضى إلى درجة مطالبة وزير الخارجية بعزله من منصبه كسفير، واستمرت الحملات ضده بعد انقلاب حزب البعث 1963، باعتباره شاعراً برجوازياً".
وتعليل سمّان لجذر الظاهرة أنها كانت بتأثير الأفكار الجدانوفية السوفيتية التي تغلغلت أيضاً في صفوف حزب البعث، وصولاً إلى الاتهام بأن قصائده ساهمت في نكسة حزيران! وهكذا يطغى الموقف الاجتماعي أو السياسي على تقييم الإبداع بوصفه إبداعاً وعلى المبدع بوصفه ظاهرة يمكن استهدافها وتخوينها وطنياً وحتى تكفيرها ولومها أيضاً حين تصمت في أي انعطاف يحصل وتصمت عن أية كارثة دموية كالتي مرت بها سوريا خلال 14 عاماً الماضيات.
وببساطة يرى سمّان أن حل المشكلة يكمن في الإبداع ذاته بمعنى إنه إذا كان الإبداع أصيلاً ومتجاوزاً لراهنه سيبقى وسيدوم وجود مبدعه في الذاكرة الجمعية لأي شعب.
إيقاظ إحساسنا بالجمال
وفي ضوء معرفة القاصة والروائية الليبية رزان نعيم المغربي بسوريا بحكم دراستها الجامعية في دمشق، وبالمبدعين السوريين الذين تعقد مع الكثير منهم صداقات أدبية وشخصية، ولا يزال التواصل بينها وبينهم رغم إقامتها في هولندا، توجهنا لها بالسؤال ذاته، فأجابت "تفسير ذلك، ربما لأننا نطلب من المبدع أن يكون نبياً أو شاهداً أخلاقياً معصوماً، أكثر من تقديمه لنصٍ مفعم بقيمٍ جمالية مخلصة للفن. في رأيي ليس من المهم أن يقف المبدع تحت لافتة سياسية، أو يصعد منبراً حزبياً، يكفي أن يمنحنا عملاً صادقاً، عميقاً، يوقظ فينا الإحساس بالجمال والحياة. ينتصر فيه للحرية والإنسانية. وتالياً لا تُحاكم القصيدة بسيرة كاتبها، وتُحاصر الرواية بمواقف قديمة لم تعد تعبّر حتى عن صاحبها".

وتتابع "المثقف عامة، ليس معصوماً من الخطأ، هو ابن زمنه وتجربته الشخصية، قد يخطئ في فورة شبابه، أو يُخدع بإيديولوجيا ما، ثم يتراجع أو يصمت أو يعيد التفكير، لكن من نحن لنأتي ونحاكمه؟ هل ننسف منجزه لأن بدايته لم تكن نقيّة؟ أم نقرأه كرحلة فكرية جمالية فيها منحنيات وندم وتحولات؟"
وتضيف "دعم جان بول سارتر الثورة الثقافية الصينية في لحظة حماسة، ثم تراجع عن ذلك لاحقاً، ومع هذا لم يطعن أحد في قيمته الفلسفية، ومثل ذلك، أدونيس لم يتنكر لحداثته الشعرية رغم كل السجال حول مواقفه السياسية، وربما ما يثير الهجوم عليه اليوم هو أنه ما زال (مستعصياً على التصنيف)، فعلينا أن نفرّق بوضوح: هناك من تورّط في خطأ تقديري، وهناك من كان جزءاً من ماكينة الظلم. وهو ما اصطلح على تسميته مثقف السلطة".
خرائط الولاء
وتشير إلى أن الكثيرين يمارسون محاكمات قاسية بحق أدباء عرب، بسبب مواقفهم القديمة، لكنهم يحتفون بالوقت نفسه بكُتّاب غربيين، رغم انتماءاتهم الاستعمارية أو العنصرية، فعندما كتب ت. س. إليوت قصائد مذهلة، كانت له مواقف معادية للسامية، لكن إلى الآن لا يزال يُدرَّس في أرقى الجامعات، أما في السياق العربي، فكم من كاتب نُبذ لأنه لم "يكن ثورياً بما يكفي"، وهنا تصبح الذاكرة الثقافية أداة عقاب، لا مراجعة نقدية. مَن يُلغى ومن يُسامَح؟ ومن يقرر؟
الوضوح خيار فردي
وتخلص الروائية رزان نعيم المغربي إلى أن ثمة وهماً شائعاً أن المثقف يجب أن يكون نقياً، بلا ماضٍ، بلا تناقضات، لكن الحقيقة أن الإبداع الحقيقي لا يُولد من المثاليات، بل من ارتباك الإنسان ومن جراحه وسقطاته وعودته، فالروائي كارلوس فوينتيس مثلاً، انتقل من يسار رومانسي إلى نقد شديد للتجربة، ولم يُلغ، بل عُدّ ناضجاً ومتطوراً، في المقابل، نُهاجم كاتباً عربياً لأنه "لم يملك رأياً سياسياً واضحاً"، كما لو أن الوضوح واجب أدبي، فكلنا يذكر أن نزار قباني نُبذ في فترات، ثم أصبح شاعر الناس الأول، الذاكرة الثقافية العادلة لا تنكر الأخطاء، لكنها تعرف كيف تزنها ضمن المسيرة، لا أن تستعملها فأساً.

نيسان ـ نشر في 2025-07-04 الساعة 12:39

الكلمات الأكثر بحثاً