اتصل بنا
 

زياد... هل فعلاً مش لحدا هالفي؟

كاتب أردني

نيسان ـ نشر في 2025-07-29 الساعة 01:13

زياد.. . هل فعلا مش لحدا
نيسان ـ أيّها الجنّ والإنس، المصطفين في خنادقهم، بالله عليكم، ألم يكن زياد بن فيروز الرحباني فتى زكيًّا؟ مبدعًا من طينة نادرة؟ ألم يكن من الذين نتروا الكلمات العالقة على أطراف ألسنتنا، فدُهشنا من بساطتها وعمقها وسحرها، دون أن يكون من السحرة المرجومين أو أصحاب الشعوذة المترامين على أعتاب السلاطين؟
هو الذي قال لنا في أغنيته الموسومة بـ"ولا شي" إن ثمة بقعة صغيرة ما زالت متاحة في هذا المجال العام المحتل بالمدرعات الثقيلة الدم، ورغم هذا التوحش في الاستحواذ والانغلاق، رغم هذا الجفاف القيمي الذي اجتاحنا.
زياد، ذاك الفتى الذي ركب تسعة وستين ربيعًا، وها هو يغادرنا على أعتاب سبعين الحكمة. لكن، هل كان بحاجة لمزيد من الأعوام؟ لا. فقد عبر جسر اللوزية شابًا يافعًا، كأنه أسامة بن زيد في معركته المبكرة، وانطلق في حروبه ضد الشياطين والأباليس البشرية.
كان مبكرًا في وعيه، مدركًا أن المدرسة الرحبانية ليست إرثًا جامدًا، بل مشروع حياة وتجدد، فترك المروج والسفوح وهبط إلى شوارع الحمرا، غنّى للفقراء، للمستضعفين، للحشّاشين، وللحالة التعبانة، وقد داهم الزوايا قبل أن تداهمه الشرطة. صرخ بالحب والتعب لليلاه، ولليالي الموجوعين من أمثال رضا وركّاب تنّورين، ولذلك الراكب وامرأته وعيونها الحلوين.
وما كان زياد عجولًا؛ لحْنه متمهل، يمشي الهوينا، ليس مختالًا، بل كأنه يختار موضع خطاه على وقع خطى المتعبين. جعل من جوزيف صقر رفيقًا للصوت الشعبي، وألبسه خوذة "الطريشة" الذين يزوّقون الحياة بنكهة الرقة، وبتلك الألحان المتهادية بعيدًا عن صخب البهرجة وزركشة تزييف الوعي.
زياد عاصي الرحباني كان زفرة المقهورين، نفثة الحشاشين، أنين العاشقين. دعاهم جميعًا للاستمتاع بالحياة، بالطبيعة، بالفي، بما تبقّى لنا من فسح "بلا مصاري". كان فيلسوفًا لا يرفع لافتة، لكنه يغرز حكمته في اللحن والنص والضحكة العابرة.
أبالغ؟ ربما. لكن من كان لديه حجة، فليرمِها بوجهي. أعلم ما يجول في خاطر الحذرين من التعلق بشخص، أعلم تحفظاتهم. لكنّه زياد... من أثث مكتبتنا الموسيقية بالغناء البسيط، بلا تكلّف، بلا بهرجة، وبكثير من الحب والاقبال على الحياة.
ونحن، جموع الواقفين هنا وهناك، لا يحق لنا أن نُنكر عليه فضله، ولا أن نُجرّمه بخطايا بشرية نتشاركها جميعًا، فمن منّا بلا خطيئة؟ خصوصًا أولئك اللاهثين في مضامير السوشيال ميديا، موزّعي صكوك الغفران، "إخوان الشياطين" الذين يستهلكون كل شيء، حتى الوجع.
أيها السادة، افسحوا المجال. دعوا ناقة الجمال تمضي؛ فإنها مأمورة. تمشي إلى الأفق، وترى ما لا نرى، وتسمعنا ما لم نسمع وتستشرف ما لم نستشرف بعد.
ليت للبراق عينًا، وليت لزياد عينًا ترى كل هذا الحب الذي شيّعه الناس، وهذه الدموع المنداحة على الخدود البيروتية، وترى سيّدة الكون فيروز، بكامل بهائها ووقارها، مودعة ابنها بكبرياء الشرق كله.

نيسان ـ نشر في 2025-07-29 الساعة 01:13

الكلمات الأكثر بحثاً