عندما تسلب الطفولة عن الطفلة التي اجهشت بالبكاء في حضرة الفنان الشامي
فراس عوض
كاتب
نيسان ـ نشر في 2025-08-02 الساعة 16:51
نيسان ـ في ليلة غنائية حالكة، لأحد الفنانين الشباب ، من الجيل الجديد، ، و حيث يختلط صوت البحر بأنفاس الجمهور، و تتراقص الاضواء على وجوهٍ جاءت تبحث عن الفرح، انكسرت طفلة لا يتجاوز عمرها عشرة اعوام.. نعم ظهرت منكسرة، لم تضحك كما يفعل الصغار، ولم تهتف كما اعتاد الكبار، بل تركت دموعها تتساقط على وجنتيها كأنها تحمل في قلبها تاريخًا لم يُكتب لها بعد. أمام صوت الفنان الشامي، كان بكاؤها مختلفًا، غريبًا، أقوى من صخب الموسيقى وأشد وقعًا من الموج الذي يتكسر عند قدميها.
ذلك البكاء لم يكن مجرّد انفعال طفولي؛ كان كأن نغمة اخترقت قاع روحها فحرّكت ما كان نائمًا فيها. بدا وكأنها هرمت في لحظة، كأن عمرها ستّون عامًا، تحمل في صدرها كل ما يُثقل الكبار، وتبكي بما يتجاوز حدود طفولتها. تساءل الجميع بدهشة: ما الذي يجعل طفلة تهتز بهذا الشكل أمام أغنية؟ أي غيابٍ وأي فراغٍ وأي عطش جعلها تنفجر بكل هذه العاطفة؟
ليست القصة في لحن الشامي وحده، ولا في شدو صوته الذي اخترق الأجساد حتى العظم؛ القصة في زمنٍ سرق من الأطفال طفولتهم وتركهم معلّقين بين طفولة مبتورة وكهولة مبكرة. طفلة اليوم ليست تلك التي عرفناها في التسعينات، حيث كان القلق الأكبر امتحان الرياضيات أو حلم بسيط في لعبة ورقية أو دمية قماش او لعبة الحياة مع صديقاتها الصغار. طفلة اليوم ابنة الشاشات، ضحية سيلٍ من الترندات والمقاطع القصيرة، تتعلّم الانفعال قبل أن تتعلّم التفكير، وتُستنزف مشاعرها قبل أن تُصقل براءتها.
المشهد صادم، لكن الأكثر صدمة أن وجودها في مثل هذا الحفل لم يثر سؤالًا قبل أن تجهش بالبكاء. أين الأهل؟ أين الرعاية؟ أين البيت الذي يعلّم أن طفولة كهذه لا تحتمل انفعالات أكبر من حجمها؟ كيف تُترَك وحدها لتغرق في بحر من العاطفة لا يُشبه عمرها؟ "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته"، لكن ماذا لو كان الراعي غائبًا، أو منشغلًا، أو عاجزًا عن حمل مسؤولية من كُلّف بها؟
دموعها لم تكن ضعفًا، بل كانت صرخة صامتة تقول: "أحتاج من يُمسك بيدي قبل أن أضيع". فطفلة بهذا العمر لا تبكي أمام فنانا شاب إلا لأنها تحمل ما لا يُحتمل. هي لم تبكِ الشامي وحده، بل بكت واقعًا كاملًا، بكت طفولة تُدفن تحت أقدام الشاشات، بكت جيلاً يشيخ قبل أن يكتمل نموه، بكت غياب تربية تجعلها تعرف كيف تواجه الحياة.
هناك أطفال في مكان آخر، في رأيي مثلا، يرسمون خرائط الطرق كاملة الدولة كاملة، ليوم ازاحتهم قليلا عن المجتمع الرقمي والشاشاات، يتعلّمون كيف يقرأون الحياة بخطوطها المعقّدة، بينما هي وجدت نفسها ترسم دموعًا على وجهها الصغير لتخبر العالم أنها ضائعة. ليست مذنبة، فهي مجرد طفلة. الذنب على الكبار الذين تركوها، على بيت لم يمنحها أمانًا كافيًا، على مجتمع استسلم للسطوة الرقمية حتى صار يترك أبناءه يتيهون بين موجة وأخرى.
لحظة بكاءها في حضرة الشامي ستبقى أكثر من مشهد عاطفي، إنها علامة فارقة، جرس إنذار لنا جميعًا. لقد قالت بدموعها ما لم تقله الكلمات: إن الطفولة تُسلب من بين أيدينا، وإن جيلًا بأكمله ينشأ في فراغٍ عاطفي وأخلاقي، يبحث عن دفء مفقود في أغنية، وعن حضن غائب في صدى صوت.
إن مرجعية الأسرة في التربية لا يمكن أن تستبدلها الشاشات، ولا أن تحل محلها أصوات غريبة تتسلل من خلف الأزرار المضيئة. علينا أن نكافح لكي لا تطغى تلك الشاشات على وجوه أطفالنا، أن نعيد الألعاب القديمة إلى بيوتنا، ونطلق مبادرات من أجل ذلك، أن نجلس إلى جوارهم ونشاركهم اللعب كما كنا نفعل نحن، أن نحبهم بحق، ونشبعهم بالحنان والتقدير، كي لا يفتشوا عنه في أماكن لا تليق بطفولتهم. علينا أن نغلق أبواب تلك الأصوات الملوّنة وشاشاتها، وأن نفتح نوافذ القلوب، لأن الطفولة إن ضاعت، ضاع معها كل ما تبقى من الغد.
وما إن انطفأت الأضواء وخفت الصوت، بقيت صورتها عالقة في الأذهان، كأنها مرآة رأينا فيها ما لا نريد أن نعترف به: أننا تركنا أطفالنا يشيخون مبكرًا، وأننا جميعًا مسؤولون عن هذا الانكسار. دموعها لم تكن دموع طفلة وحسب، بل دموع مستقبل كامل يلوّح لنا من بعيد.. قائلا: أي تفاهة تنتظر مستقبل أبنائنا... آه
ذلك البكاء لم يكن مجرّد انفعال طفولي؛ كان كأن نغمة اخترقت قاع روحها فحرّكت ما كان نائمًا فيها. بدا وكأنها هرمت في لحظة، كأن عمرها ستّون عامًا، تحمل في صدرها كل ما يُثقل الكبار، وتبكي بما يتجاوز حدود طفولتها. تساءل الجميع بدهشة: ما الذي يجعل طفلة تهتز بهذا الشكل أمام أغنية؟ أي غيابٍ وأي فراغٍ وأي عطش جعلها تنفجر بكل هذه العاطفة؟
ليست القصة في لحن الشامي وحده، ولا في شدو صوته الذي اخترق الأجساد حتى العظم؛ القصة في زمنٍ سرق من الأطفال طفولتهم وتركهم معلّقين بين طفولة مبتورة وكهولة مبكرة. طفلة اليوم ليست تلك التي عرفناها في التسعينات، حيث كان القلق الأكبر امتحان الرياضيات أو حلم بسيط في لعبة ورقية أو دمية قماش او لعبة الحياة مع صديقاتها الصغار. طفلة اليوم ابنة الشاشات، ضحية سيلٍ من الترندات والمقاطع القصيرة، تتعلّم الانفعال قبل أن تتعلّم التفكير، وتُستنزف مشاعرها قبل أن تُصقل براءتها.
المشهد صادم، لكن الأكثر صدمة أن وجودها في مثل هذا الحفل لم يثر سؤالًا قبل أن تجهش بالبكاء. أين الأهل؟ أين الرعاية؟ أين البيت الذي يعلّم أن طفولة كهذه لا تحتمل انفعالات أكبر من حجمها؟ كيف تُترَك وحدها لتغرق في بحر من العاطفة لا يُشبه عمرها؟ "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته"، لكن ماذا لو كان الراعي غائبًا، أو منشغلًا، أو عاجزًا عن حمل مسؤولية من كُلّف بها؟
دموعها لم تكن ضعفًا، بل كانت صرخة صامتة تقول: "أحتاج من يُمسك بيدي قبل أن أضيع". فطفلة بهذا العمر لا تبكي أمام فنانا شاب إلا لأنها تحمل ما لا يُحتمل. هي لم تبكِ الشامي وحده، بل بكت واقعًا كاملًا، بكت طفولة تُدفن تحت أقدام الشاشات، بكت جيلاً يشيخ قبل أن يكتمل نموه، بكت غياب تربية تجعلها تعرف كيف تواجه الحياة.
هناك أطفال في مكان آخر، في رأيي مثلا، يرسمون خرائط الطرق كاملة الدولة كاملة، ليوم ازاحتهم قليلا عن المجتمع الرقمي والشاشاات، يتعلّمون كيف يقرأون الحياة بخطوطها المعقّدة، بينما هي وجدت نفسها ترسم دموعًا على وجهها الصغير لتخبر العالم أنها ضائعة. ليست مذنبة، فهي مجرد طفلة. الذنب على الكبار الذين تركوها، على بيت لم يمنحها أمانًا كافيًا، على مجتمع استسلم للسطوة الرقمية حتى صار يترك أبناءه يتيهون بين موجة وأخرى.
لحظة بكاءها في حضرة الشامي ستبقى أكثر من مشهد عاطفي، إنها علامة فارقة، جرس إنذار لنا جميعًا. لقد قالت بدموعها ما لم تقله الكلمات: إن الطفولة تُسلب من بين أيدينا، وإن جيلًا بأكمله ينشأ في فراغٍ عاطفي وأخلاقي، يبحث عن دفء مفقود في أغنية، وعن حضن غائب في صدى صوت.
إن مرجعية الأسرة في التربية لا يمكن أن تستبدلها الشاشات، ولا أن تحل محلها أصوات غريبة تتسلل من خلف الأزرار المضيئة. علينا أن نكافح لكي لا تطغى تلك الشاشات على وجوه أطفالنا، أن نعيد الألعاب القديمة إلى بيوتنا، ونطلق مبادرات من أجل ذلك، أن نجلس إلى جوارهم ونشاركهم اللعب كما كنا نفعل نحن، أن نحبهم بحق، ونشبعهم بالحنان والتقدير، كي لا يفتشوا عنه في أماكن لا تليق بطفولتهم. علينا أن نغلق أبواب تلك الأصوات الملوّنة وشاشاتها، وأن نفتح نوافذ القلوب، لأن الطفولة إن ضاعت، ضاع معها كل ما تبقى من الغد.
وما إن انطفأت الأضواء وخفت الصوت، بقيت صورتها عالقة في الأذهان، كأنها مرآة رأينا فيها ما لا نريد أن نعترف به: أننا تركنا أطفالنا يشيخون مبكرًا، وأننا جميعًا مسؤولون عن هذا الانكسار. دموعها لم تكن دموع طفلة وحسب، بل دموع مستقبل كامل يلوّح لنا من بعيد.. قائلا: أي تفاهة تنتظر مستقبل أبنائنا... آه
نيسان ـ نشر في 2025-08-02 الساعة 16:51
رأي: فراس عوض كاتب


