
محمد قريقع.. حارس الحقيقة يترجل شهيدًا
نيسان ـ نشر في 2025-08-14 الساعة 12:36

نيسان ـ عندما أطل مراسل الجزيرة محمد قريقع في العاشر من أغسطس الجاري، على المشاهدين من قلب مدينة غزة، بصوته الواثق وأسلوبه الفصيح، وهو يصف الأوضاع الإنسانية الكارثية تحت الحصار والإبادة، لم يكن يدري أن هذه الكلمات، التي نطق بها في بث مباشر قبل لحظات من استهدافه، ستكون الأخيرة في حياته.
قريقع، 33 عامًا، كان برفقة زميله أنس الشريف وثلاثة من مصوري قناة الجزيرة: إبراهيم ظاهر، ومؤمن زياد محمد عليوة، ومحمد نوفل، عندما استهدفتهم غارة إسرائيلية مباشرة ومتعمدة، في خيمتهم الإعلامية بجوار مستشفى الشفاء في مدينة غزة، صباح الأحد الماضي، ليرتقوا شهداء ومعهم الصحفي محمد الخالدي الذي كان بخيمة مجاورة، إلى جانب أحد المدنيين.
ومع أن قريقع كان يدرك حجم المخاطر التي تحيط به، فقد بقي في الميدان طوال الأشهر الماضية يوثق الجرائم وينقل الحقيقة، حتى الرمق الأخير.
وُلد محمد قريقع في حي الشجاعية عام 1992، وعمل مع عدد من المنصات الإعلامية، بينها “ميدل إيست آي”، وكذلك الحقوقية منها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، قبل أن ينضم إلى شبكة الجزيرة خلال حرب الإبادة. وعُرف بين زملائه بفصاحته وهدوئه وشجاعته النادرة، وهي صفات برزت بوضوح في تغطيات نوعية خلال الأشهر الماضية.
وافتقد محمد حضن أمه
وُلد محمد يتيماً من الأب، فلم يعرف من دفء الأسرة إلا حضن أمه «نعمة» التي ربته وحيدة، وكان وحيدها، تقاوم قسوة الحياة وتغمره بالحنان وسط واقع فلسطيني مثقل بالألم. لكن إسرائيل اغتالت هذا الحضن منه، حين قتلت الوحشية الصهيونية أمه داخل مجمع الشفاء الطبي بدم بارد في مارس 2024، وعثر على جثمانها في أبريل/نيسان 2024 بعد أسبوعين من الاجتياح. وعاد لاحقًا إلى موقع استشهادها ليتحدث مع شهود العيان عن وحشية ذلك الهجوم.
وفي رثائها كتب نصاً موجعاً اختصر مأساته: نحن نتكئ على شواهد من نحب، بعد أن كنا شهودا معهم في أقسى اللحظات وأكثرها رعبا، نتصفح الحجارة ونعيد ترتيبها نمسح على الرمل ببطء نخاطبه” رفقا بأحبتنا أخبرهم أن شوقنا لهم قد طال”، يخبرني الناس يا أمي، أين ستنقل جثة أمك؟، تتعقد الكلمات وتتحجر الدموع ولا أعرف أرد!، يكفي أنكِ معي في كل أوقاتي يا كل أوقاتي، إلى جنان النعيم يما “نعمة”.
فلم يعد «أبو زين» مجرد يتيم الأم والأب، بل صار شهيداً هو الآخر، تاركاً حكاية عن الفقدان المتكرر، حيث يُقتل الإنسان في غزة مرتين: مرة حين يُنتزع أحبته، ومرة حين تُنتزع روحه.
وتروي زوجته تفاصيله عن بره بأمه وحنانه الفياض عليها وعلى أسرته.
كتب عن ذلك الألم رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، د. رامي عبده قائلاً: “محمد قريقع “أبو زين” عاش يتيماً، لا يعرف من دفء العائلة إلا حضن أمه التي حملته رغم قسوة الحياة، ترعاه بحب وتقاوم لأجله كل وجع. لكن رصاص الاحتلال لم يرحم قلبه ولا قلبها؛ أعدموها بدم بارد في مستشفى الشفاء، وتركوه وحيداً في دنيا بلا أم ولا سند.
رحل محمد، وكأن روحه لحقت بأمه التي سبقته، ليكتمل الفقد وتكتمل الحكاية… حكاية طفل حُرم من حضن أبيه صغيراً، ومن حضن أمه شاباً، ومن الحياة شهيداً. سلامٌ عليك يا محمد، وعلى قلب أمك، وعلى الأرواح التي لم تعرف الأمان يوماً في غزة المخذولة”.
صحفي شجاع لا يعرف اليأس
تستذكر الصحفية في “ميدل إيست آي” مها حسيني تلك الفترة، فتقول إنها كانت نازحة في جنوب القطاع، بينما بقي قريقع في الشمال رافضًا الإخلاء. كان يتنقل في المناطق الخطرة لجمع الشهادات والروايات، وينقل لها شخصيًا أخبار الجرائم التي لم تصل إلى وسائل الإعلام بعد، إيمانًا منه بأن كشف الحقيقة واجب لا يمكن التخلي عنه.
لم يكن استهداف الصحفيين في غزة جديدًا على قريقع، فقد فقد خلال الحرب عددًا من زملائه، وكان يحرص على تخليد ذكراهم.
في أحد المقاطع، ظهر وهو يقرأ قصيدة مؤثرة في وداع صديقه الصحفي إسماعيل الغول، مرتديًا خوذته الصحفية بعد عام على استشهاده.
أبو زين.. لم يفقد الأمل
وكغيره من الصحفيين المحاصرين تحت القصف، عاش قريقع فترات طويلة بعيدًا عن عائلته، وظهر في أحد المقاطع يبكي بحرقة لسماع صوت ابنته بعد انقطاع طويل. وبرغم كل ما مرّ به، ظل متمسكًا بالأمل.
ففي بث مباشر قبيل استشهاده، تحدث عن إعلان الاحتلال عزمه السيطرة الكاملة على غزة، وقال: “إن شاء الله – وأنا متفائل – أن تحمل الأيام القادمة خبرًا عن انتهاء هذه المجزرة وهذا العناء المرهق… كلنا فقدنا شيئًا، لكن فقدان البيوت ليس المشكلة، فمَن بنى حجرًا قادر على إعادة بنائه، والله يعوّض دائمًا”.
وختم حديثه بكلمات إيمان واستسلام لقدر الله: “لكل واحد منا قصة، وكل قصة أصعب من الأخرى، وفي النهاية هو قدر الله ويجب التسليم له”. وكانت آخر عباراته على الهواء شكرًا لمتابعيه واعتذارًا لعدم تمكنه من الرد على جميع التعليقات، قبل أن تطوي الغارة الإسرائيلية صوته إلى الأبد.
جريمة صهيونية ممنهجة
استشهاد محمد قريقع ليس حادثة معزولة، بل جزء من عدوان صهيوني ممنهج لاستهداف الصحفيين في غزة. ووفق توثيقات فلسطينية ودولية، ارتكب الاحتلال منذ بداية عدوانها على غزة في أكتوبر 2023 مجازر ميدانية بحق الصحفيين، شملت القتل العمد حيث قتلت أكثر من 238 صحفيا بالإضافة إلى استهداف المئات من ذويهم، تدمير منازلهم، واستهدافهم داخل المستشفيات ومراكز الإيواء.
استهداف محمد في منطقة مكشوفة أثناء أداء عمله الميداني يرقى إلى جريمة حرب وفق المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، اللذين يحظران الاعتداء المتعمد على الصحفيين باعتبارهم مدنيين، وفق ما أكدته منظمات حقوقية دولية وفلسطينية. لكن في غزة، تحولت الكاميرا إلى «ذريعة قتل»، وبات الصحفي هدفاً معلناً في ظل إفلات كامل من العقاب.
قصة محمد قريقع تختصر ملامح غزة.. التي تفقد خيرة أبناءها تباعاً في مجزرة الإبادة الصهيونية بحقها على مرأى العالم، حيث الحزن لا يكتفي بمأساة واحدة، والفقد يتكرر حتى يستنزف الأرواح. رحل محمد، لكن نصه وهو يرثي أمه، وصورته وهو يبتسم أمام الكاميرا، وصوته الذي كان يطمئن الناس وسط المجزرة، ستظل شاهدة على جريمة، وعلى جيل من الصحفيين لم يُمنحوا فرصة ليكملوا حكاياتهم.
قريقع، 33 عامًا، كان برفقة زميله أنس الشريف وثلاثة من مصوري قناة الجزيرة: إبراهيم ظاهر، ومؤمن زياد محمد عليوة، ومحمد نوفل، عندما استهدفتهم غارة إسرائيلية مباشرة ومتعمدة، في خيمتهم الإعلامية بجوار مستشفى الشفاء في مدينة غزة، صباح الأحد الماضي، ليرتقوا شهداء ومعهم الصحفي محمد الخالدي الذي كان بخيمة مجاورة، إلى جانب أحد المدنيين.
ومع أن قريقع كان يدرك حجم المخاطر التي تحيط به، فقد بقي في الميدان طوال الأشهر الماضية يوثق الجرائم وينقل الحقيقة، حتى الرمق الأخير.
وُلد محمد قريقع في حي الشجاعية عام 1992، وعمل مع عدد من المنصات الإعلامية، بينها “ميدل إيست آي”، وكذلك الحقوقية منها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، قبل أن ينضم إلى شبكة الجزيرة خلال حرب الإبادة. وعُرف بين زملائه بفصاحته وهدوئه وشجاعته النادرة، وهي صفات برزت بوضوح في تغطيات نوعية خلال الأشهر الماضية.
وافتقد محمد حضن أمه
وُلد محمد يتيماً من الأب، فلم يعرف من دفء الأسرة إلا حضن أمه «نعمة» التي ربته وحيدة، وكان وحيدها، تقاوم قسوة الحياة وتغمره بالحنان وسط واقع فلسطيني مثقل بالألم. لكن إسرائيل اغتالت هذا الحضن منه، حين قتلت الوحشية الصهيونية أمه داخل مجمع الشفاء الطبي بدم بارد في مارس 2024، وعثر على جثمانها في أبريل/نيسان 2024 بعد أسبوعين من الاجتياح. وعاد لاحقًا إلى موقع استشهادها ليتحدث مع شهود العيان عن وحشية ذلك الهجوم.
وفي رثائها كتب نصاً موجعاً اختصر مأساته: نحن نتكئ على شواهد من نحب، بعد أن كنا شهودا معهم في أقسى اللحظات وأكثرها رعبا، نتصفح الحجارة ونعيد ترتيبها نمسح على الرمل ببطء نخاطبه” رفقا بأحبتنا أخبرهم أن شوقنا لهم قد طال”، يخبرني الناس يا أمي، أين ستنقل جثة أمك؟، تتعقد الكلمات وتتحجر الدموع ولا أعرف أرد!، يكفي أنكِ معي في كل أوقاتي يا كل أوقاتي، إلى جنان النعيم يما “نعمة”.
فلم يعد «أبو زين» مجرد يتيم الأم والأب، بل صار شهيداً هو الآخر، تاركاً حكاية عن الفقدان المتكرر، حيث يُقتل الإنسان في غزة مرتين: مرة حين يُنتزع أحبته، ومرة حين تُنتزع روحه.
وتروي زوجته تفاصيله عن بره بأمه وحنانه الفياض عليها وعلى أسرته.
كتب عن ذلك الألم رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، د. رامي عبده قائلاً: “محمد قريقع “أبو زين” عاش يتيماً، لا يعرف من دفء العائلة إلا حضن أمه التي حملته رغم قسوة الحياة، ترعاه بحب وتقاوم لأجله كل وجع. لكن رصاص الاحتلال لم يرحم قلبه ولا قلبها؛ أعدموها بدم بارد في مستشفى الشفاء، وتركوه وحيداً في دنيا بلا أم ولا سند.
رحل محمد، وكأن روحه لحقت بأمه التي سبقته، ليكتمل الفقد وتكتمل الحكاية… حكاية طفل حُرم من حضن أبيه صغيراً، ومن حضن أمه شاباً، ومن الحياة شهيداً. سلامٌ عليك يا محمد، وعلى قلب أمك، وعلى الأرواح التي لم تعرف الأمان يوماً في غزة المخذولة”.
صحفي شجاع لا يعرف اليأس
تستذكر الصحفية في “ميدل إيست آي” مها حسيني تلك الفترة، فتقول إنها كانت نازحة في جنوب القطاع، بينما بقي قريقع في الشمال رافضًا الإخلاء. كان يتنقل في المناطق الخطرة لجمع الشهادات والروايات، وينقل لها شخصيًا أخبار الجرائم التي لم تصل إلى وسائل الإعلام بعد، إيمانًا منه بأن كشف الحقيقة واجب لا يمكن التخلي عنه.
لم يكن استهداف الصحفيين في غزة جديدًا على قريقع، فقد فقد خلال الحرب عددًا من زملائه، وكان يحرص على تخليد ذكراهم.
في أحد المقاطع، ظهر وهو يقرأ قصيدة مؤثرة في وداع صديقه الصحفي إسماعيل الغول، مرتديًا خوذته الصحفية بعد عام على استشهاده.
أبو زين.. لم يفقد الأمل
وكغيره من الصحفيين المحاصرين تحت القصف، عاش قريقع فترات طويلة بعيدًا عن عائلته، وظهر في أحد المقاطع يبكي بحرقة لسماع صوت ابنته بعد انقطاع طويل. وبرغم كل ما مرّ به، ظل متمسكًا بالأمل.
ففي بث مباشر قبيل استشهاده، تحدث عن إعلان الاحتلال عزمه السيطرة الكاملة على غزة، وقال: “إن شاء الله – وأنا متفائل – أن تحمل الأيام القادمة خبرًا عن انتهاء هذه المجزرة وهذا العناء المرهق… كلنا فقدنا شيئًا، لكن فقدان البيوت ليس المشكلة، فمَن بنى حجرًا قادر على إعادة بنائه، والله يعوّض دائمًا”.
وختم حديثه بكلمات إيمان واستسلام لقدر الله: “لكل واحد منا قصة، وكل قصة أصعب من الأخرى، وفي النهاية هو قدر الله ويجب التسليم له”. وكانت آخر عباراته على الهواء شكرًا لمتابعيه واعتذارًا لعدم تمكنه من الرد على جميع التعليقات، قبل أن تطوي الغارة الإسرائيلية صوته إلى الأبد.
جريمة صهيونية ممنهجة
استشهاد محمد قريقع ليس حادثة معزولة، بل جزء من عدوان صهيوني ممنهج لاستهداف الصحفيين في غزة. ووفق توثيقات فلسطينية ودولية، ارتكب الاحتلال منذ بداية عدوانها على غزة في أكتوبر 2023 مجازر ميدانية بحق الصحفيين، شملت القتل العمد حيث قتلت أكثر من 238 صحفيا بالإضافة إلى استهداف المئات من ذويهم، تدمير منازلهم، واستهدافهم داخل المستشفيات ومراكز الإيواء.
استهداف محمد في منطقة مكشوفة أثناء أداء عمله الميداني يرقى إلى جريمة حرب وفق المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، اللذين يحظران الاعتداء المتعمد على الصحفيين باعتبارهم مدنيين، وفق ما أكدته منظمات حقوقية دولية وفلسطينية. لكن في غزة، تحولت الكاميرا إلى «ذريعة قتل»، وبات الصحفي هدفاً معلناً في ظل إفلات كامل من العقاب.
قصة محمد قريقع تختصر ملامح غزة.. التي تفقد خيرة أبناءها تباعاً في مجزرة الإبادة الصهيونية بحقها على مرأى العالم، حيث الحزن لا يكتفي بمأساة واحدة، والفقد يتكرر حتى يستنزف الأرواح. رحل محمد، لكن نصه وهو يرثي أمه، وصورته وهو يبتسم أمام الكاميرا، وصوته الذي كان يطمئن الناس وسط المجزرة، ستظل شاهدة على جريمة، وعلى جيل من الصحفيين لم يُمنحوا فرصة ليكملوا حكاياتهم.