اتصل بنا
 

هل نتنازل عن تفوقنا

رمزي الغزوي أديب وإعلامي أردني عربي

نيسان ـ نشر في 2025-08-18 الساعة 10:47

نيسان ـ لم يعد الذكاء الاصطناعي التوليدي مجرد تقنية نتابعها من بعيد، بل تحول إلى واقع يتسرب إلى تفاصيل حياتنا، إلى الكتابة والمعرفة والتعليم. لم يعد الحاسوب مجرد آلة للحساب والتخزين والتحليل، بل صار يكتب ويقترح ويعيد صياغة الأفكار في نصوص أنيقة، بلغة رشيقة وصياغة تكاد تخدع البصر والبصيرة. ما كان في الأمس فعلا إنسانيا نابعا من عقل وتجربة، بات اليوم مهمة آلية تنجز بضغط زر واحد.
قد يبدو المشهد مدهشا. نصوص تولد في ثوان، مرتبة الحجج، دقيقة الأمثلة، سلسة الأسلوب. غير أن خلف هذا الإتقان التقني تختبئ أزمة عميقة، أزمة لا تتعلق فقط بمصداقية المعرفة، بل بهوية من ينتجها، وبقيمة الجهد الشخصي في عالم غدت فيه الإجابة الجاهزة أقرب من السؤال ذاته. كلما سهُل الوصول، خفتت العلاقة المتوترة التي كانت تربط الإنسان بالمعرفة: علاقة قائمة على المشقة، والبحث، والشك الضروري لكل فهم حقيقي.
في المدارس ستفقد الواجبات معناها حين لا يكون الطالب هو الكاتب. وفي المحاضرات سيغيب الحوار الحي حين تُستبدل المحاولة بإجابة آلية فورية. أما في البحث العلمي، فستميل النصوص إلى قوالب مكررة، قد تبهر القارئ بظاهرها لكنها تفتقر إلى العمق والنية. الأخطر من ذلك أن يتراجع الحس النقدي ويُستبدل بالثقة المطلقة في نص أنتجته خوارزمية لا تعرف وعيا ولا غاية. عندها لا يعود النص ثمرة عقل يمتحنُ العالم، بل مجرد توقع إحصائي يعيد إنتاج ما سبق تداوله.
وكلما تعاظم الاعتماد على هذه الأدوات، ضعفت قدرة العقل على التأمل. ويغدو السؤال المؤرق: هل نفكر حقا، أم نستهلك ما فكرت فيه الآلة عنا؟ هل نفهم، أم نكتفي باستعارة صياغة للفهم؟ هل نكتب، أم نقلد نسخة مقنعة مما نظنه إبداعا؟
بالطبع ليس من العدل أن نرفض هذه الأدوات بالمطلق، فهي تفتح آفاقا جديدة وتختصر كثيرا من الجهد. لكنها لا تصلح أن تكون بديلا عن العقل البشري، ولا عن التجربة الفردية، ولا عن الخطأ الذي يهذب ويعلّم. فالإبداع ليس في النتيجة وحدها، بل في الطريق المتعرج نحوها، في الارتباك الأول للفكرة، في التردد الشريف أمام الاحتمالات، في المشقة التي تُثمر أصالة.
ما نخافه اليوم ليس أن تتفوق الآلة على الإنسان، بل أن يتنازل الإنسان عن تفوقه، أن ينسى كيف يسأل وكيف يشك وكيف يكتب لا ليجامل الآخرين، بل ليجد صوته الخاص ويرج قارب السكون. فهل ننتبه قبل أن نستبدل أنفسنا بنسخ لامعة، سريعة، لكنها مفرغة من المعنى؟

نيسان ـ نشر في 2025-08-18 الساعة 10:47


رأي: رمزي الغزوي رمزي الغزوي أديب وإعلامي أردني عربي

الكلمات الأكثر بحثاً