الطلاق بين كلفة الرجل المادية وحرمانه العاطفي.. كيف يظلم الرجل في قانون الأحوال الشخصية الاردني
فراس عوض
كاتب
نيسان ـ نشر في 2025-08-18 الساعة 13:40
نيسان ـ بقلم : فراس عوض
باحث في دراسات الجندر
عندما ننظر بتأمل الى مصير الرجل المطلق في الأردن، وفق ما يفرضه قانون الأحوال الشخصية من تمييز صارخ ضده، نكتشف أنّ الطلاق ليس نهاية علاقة او فسخ عقد فقط، إنه بداية عقوبة ممتدة مادياً ونفسياً واجتماعياً.. الرجل الذي دخل الزواج بحلم تأسيس كيان أسري، يجد نفسه بعد الطلاق محاطاً بحلقات من الاستنزاف والبؤس والتمييز ، كلفة مادية لم تهدأ منذ لحظة الخطبة، وكلفة عاطفية تبدأ يوم حُرم من أولاده، وتمتد كظلّ طويل إلى أن يكبروا ويغادروا الجامعة..وتمتد عدواها للاجداد أيضا.
حين يتزوج الرجل، يدفع تكاليف باهضة تزيد عن عشرات الآلاف.. مهر يراوح ما بين ثلاثة إلى خمسة آلاف دينار بحده الادنى، شبكة وهدايا لا تقل عن ألفين، حفل زفاف..الخ كلها تلتهم ما بين عشرة إلى خمسة عشر ألفاً، بيت يسجّل عليه ديناً أو قرضاً يتراوح ما بين ثلاثين إلى خمسين ألفاً، وأثاث يكلّفه نحو سبعة إلى عشرة آلاف دينار. أي أنّ الرجل يدخل الزواج وهو يستثمر ما يقارب خمسين إلى ثمانين ألف دينار دفعة واحدة لبناء هذا الكيان الأسري..
ثم تبدأ رحلة الإنفاق اليومية، متوسط عمر زواج دام عشر سنوات، فيه ثلاثة أبناء صغار أعمارهم بين عام وخمسة أعوام، يعني نفقات طعام وكساء وعلاج وتعليم أولي ومصروفات شهرية. الدراسات الأردنية تشير إلى أنّ متوسط نفقات الأسرة الصغيرة (زوجان + 3 أبناء) خلال عقد كامل قد يتجاوز خمسين ألف دينار_ وربما تزيد الضعف والضعفين بحسب الدخل_، ما بين مأكل ومشرب وفواتير وعلاجات ومدارس. هذه كلها كان الرجل يموّلها بحكم مسؤوليته التي يفرضها القانون والمجتمع معاً.
لكن المفارقة تبدأ عند لحظة الطلاق. فجأة، يتحوّل كل ما قدّمه إلى نقطة صفر.. الأم تأخذ الحضانة بحكم القانون، والأب يُختزل ب "محفظة مالية" يدفع النفقة الشهرية، وتأمين السكن، والتعليم، والعلاج، والكسوة..وإذا كان دخله محدوداً، فإن الدين يتكاثر في رقبته، وإن تعثر يوماً، فالحبس بانتظاره، ولو كانت طليقته موظفة ذات دخل عالٍ. بل وأكثر من ذلك، يكلَّف الأب بدفع المتأخرات، وقد يخسر ما تبقى من أثاث البيت، ويضطر حين يعيد الزواج أن يشتري كل شيء جديداً. وإذا مددنا الحسابات، فإن الرجل بعد الطلاق وحتى بلوغ أبنائه سن الخامسة عشرة يدفع ما معدله ثلاثة إلى خمسة آلاف دينار سنوياً كنفقة، أي خلال ثلاثة عشر عاماً ما يقارب أربعين إلى ستين ألف دينار إضافية. ثم يدخل في دوامة جديدة.. مصاريف الثانوية، والدراسة الجامعية، وهي بحدها الأدنى اليوم لا تقل عن ألفي دينار سنوياً للطالب الواحد، فكيف إذا كان لديه ثلاثة أبناء؟
.هذا النزيف المادي لا يأتي منفصلاً عن النزيف العاطفي. القانون لا يكتفي بحرمان الأب من حضانة أبنائه، بل يختصر وجوده في حياتهم إلى نصف ساعة أو ساعة أسبوعياً داخل جدران المحكمة، أو في مركز مخصص للرؤية، كأنه يزور سجناء لا أولاد.. انه يتسول رؤية ابناءه، هنا يكمن الجرح الذي لا يندمل؛ أن يعيش الأب خمسة عشر عاماً وهو يلتقي أبناءه بضع ساعات كل شهر، بينما الأم وأهلها يحيون تفاصيلهم اليومية..أول كلمة، أول خطوة، لحظات النجاح والسقوط، بكاء الليل وضحكة الصباح.. شمعات عيد الميلاد ..الأحضان والتقبيل..وهكذا ..اما الرجل، في المقابل، يذوي في غربة عاطفية أشد من السجن، إذ يكون حاضراً بماله وغائباً بجسده وروحه.
لو قسنا هذه الخسارة بالحساب البارد، سنجد أنّ الأب الذي ينفق ما يقارب مئة وخمسين ألف دينار بين زواج ونفقة وحضانة وتعليم، لا ينال إلا بضع ساعات مسروقة من حياة أبنائه.. كما لو كان لصا، أما الأم، فإلى جانب حقها بالنفقة والسكن والتعليم، تنال "المكافأة" الكبرى.. متعة الأمومة اليومية بلا منازع، واحتضان الأبناء والتمتع بعاطفتهم. أي أنّ القانون منحها المزايا المادية والعاطفية معاً، بينما أنزل على الرجل ثقل الخسارتين في الآن لانه!
النظريات العلمية في علم النفس تؤكد أن الحرمان العاطفي المستمر يقود إلى أمراض نفسية وجسدية معقدة.. نظرية "جون بولبي" في التعلّق العاطفي تشير إلى أن الانفصال القسري يولّد قلقاً مزمناً، وقد يتطور إلى اكتئاب أو اضطراب قلق حاد. دراسات في علم النفس الاجتماعي أظهرت أنّ الرجال المطلقين، خاصة المحرومين من حضانة أبنائهم، أكثر عرضة للإصابة بارتفاع ضغط الدم، أمراض القلب، الاكتئاب السريري، وحتى محاولات الانتحار مقارنة بغيرهم (WHO, 2019؛ American Psychological Association, 2021). وفي إحصائية أجريت في المملكة المتحدة، تبيّن أنّ نسبة إصابة الآباء المحرومين من أطفالهم بالاكتئاب تصل إلى 38%، مقابل 12% فقط من الأمهات المنفصلات (Office for National Statistics, UK, 2018). هذه الأرقام تؤكد أن الرجل يدفع ثمنين متوازيين: مالياً وصحياً، بينما لا يرى المجتمع في معاناته إلا "واجباً" مفروضاً عليه.
لا يقف أثر حرمان الأب من الحضانة عند حدود الجانب العاطفي والنفسي فحسب، بل يمتد ليضرب في العمق قدرته على التوازن المهني والاقتصادي. إذ تشير دراسات في علم الاجتماع الأسري (Amato, 2010؛ Nielsen, 2017) إلى أنّ الآباء الذين يُحرمون من الحضانة يعيشون حالة من الانهاك النفسي المستمر، ما ينعكس مباشرة على إنتاجيتهم في العمل، ويؤدي إلى تراجع في أدائهم المهني. وغالبًا ما تتجلى هذه الآثار في ازدياد معدلات الغياب عن العمل، ضعف الالتزام الوظيفي، وصعوبة التركيز في المهام، الأمر الذي يضعف قدرتهم التنافسية ويجعلهم أكثر عرضة لفقدان وظائفهم أو تراجع فرص ترقيتهم.
كما أنّ الإلزام القانوني بالنفقة – حتى في ظل غياب حق الحضانة – يضاعف الضغوط الاقتصادية على الرجل، إذ يتحمّل التزامات مالية كبيرة في وقتٍ لا يحظى فيه بالحق الطبيعي في ممارسة دوره التربوي المباشر (Fabricius et al., 2012). ويظهر هذا التناقض بوضوح في مجتمعات مثل الأردن، حيث تسجّل شكاوى متزايدة لآباء معسرين يُسجنون بسبب تأخر النفقة، رغم أنّ طليقاتهم يمتلكن دخلاً ثابتًاوربماأعلى
باحث في دراسات الجندر
عندما ننظر بتأمل الى مصير الرجل المطلق في الأردن، وفق ما يفرضه قانون الأحوال الشخصية من تمييز صارخ ضده، نكتشف أنّ الطلاق ليس نهاية علاقة او فسخ عقد فقط، إنه بداية عقوبة ممتدة مادياً ونفسياً واجتماعياً.. الرجل الذي دخل الزواج بحلم تأسيس كيان أسري، يجد نفسه بعد الطلاق محاطاً بحلقات من الاستنزاف والبؤس والتمييز ، كلفة مادية لم تهدأ منذ لحظة الخطبة، وكلفة عاطفية تبدأ يوم حُرم من أولاده، وتمتد كظلّ طويل إلى أن يكبروا ويغادروا الجامعة..وتمتد عدواها للاجداد أيضا.
حين يتزوج الرجل، يدفع تكاليف باهضة تزيد عن عشرات الآلاف.. مهر يراوح ما بين ثلاثة إلى خمسة آلاف دينار بحده الادنى، شبكة وهدايا لا تقل عن ألفين، حفل زفاف..الخ كلها تلتهم ما بين عشرة إلى خمسة عشر ألفاً، بيت يسجّل عليه ديناً أو قرضاً يتراوح ما بين ثلاثين إلى خمسين ألفاً، وأثاث يكلّفه نحو سبعة إلى عشرة آلاف دينار. أي أنّ الرجل يدخل الزواج وهو يستثمر ما يقارب خمسين إلى ثمانين ألف دينار دفعة واحدة لبناء هذا الكيان الأسري..
ثم تبدأ رحلة الإنفاق اليومية، متوسط عمر زواج دام عشر سنوات، فيه ثلاثة أبناء صغار أعمارهم بين عام وخمسة أعوام، يعني نفقات طعام وكساء وعلاج وتعليم أولي ومصروفات شهرية. الدراسات الأردنية تشير إلى أنّ متوسط نفقات الأسرة الصغيرة (زوجان + 3 أبناء) خلال عقد كامل قد يتجاوز خمسين ألف دينار_ وربما تزيد الضعف والضعفين بحسب الدخل_، ما بين مأكل ومشرب وفواتير وعلاجات ومدارس. هذه كلها كان الرجل يموّلها بحكم مسؤوليته التي يفرضها القانون والمجتمع معاً.
لكن المفارقة تبدأ عند لحظة الطلاق. فجأة، يتحوّل كل ما قدّمه إلى نقطة صفر.. الأم تأخذ الحضانة بحكم القانون، والأب يُختزل ب "محفظة مالية" يدفع النفقة الشهرية، وتأمين السكن، والتعليم، والعلاج، والكسوة..وإذا كان دخله محدوداً، فإن الدين يتكاثر في رقبته، وإن تعثر يوماً، فالحبس بانتظاره، ولو كانت طليقته موظفة ذات دخل عالٍ. بل وأكثر من ذلك، يكلَّف الأب بدفع المتأخرات، وقد يخسر ما تبقى من أثاث البيت، ويضطر حين يعيد الزواج أن يشتري كل شيء جديداً. وإذا مددنا الحسابات، فإن الرجل بعد الطلاق وحتى بلوغ أبنائه سن الخامسة عشرة يدفع ما معدله ثلاثة إلى خمسة آلاف دينار سنوياً كنفقة، أي خلال ثلاثة عشر عاماً ما يقارب أربعين إلى ستين ألف دينار إضافية. ثم يدخل في دوامة جديدة.. مصاريف الثانوية، والدراسة الجامعية، وهي بحدها الأدنى اليوم لا تقل عن ألفي دينار سنوياً للطالب الواحد، فكيف إذا كان لديه ثلاثة أبناء؟
.هذا النزيف المادي لا يأتي منفصلاً عن النزيف العاطفي. القانون لا يكتفي بحرمان الأب من حضانة أبنائه، بل يختصر وجوده في حياتهم إلى نصف ساعة أو ساعة أسبوعياً داخل جدران المحكمة، أو في مركز مخصص للرؤية، كأنه يزور سجناء لا أولاد.. انه يتسول رؤية ابناءه، هنا يكمن الجرح الذي لا يندمل؛ أن يعيش الأب خمسة عشر عاماً وهو يلتقي أبناءه بضع ساعات كل شهر، بينما الأم وأهلها يحيون تفاصيلهم اليومية..أول كلمة، أول خطوة، لحظات النجاح والسقوط، بكاء الليل وضحكة الصباح.. شمعات عيد الميلاد ..الأحضان والتقبيل..وهكذا ..اما الرجل، في المقابل، يذوي في غربة عاطفية أشد من السجن، إذ يكون حاضراً بماله وغائباً بجسده وروحه.
لو قسنا هذه الخسارة بالحساب البارد، سنجد أنّ الأب الذي ينفق ما يقارب مئة وخمسين ألف دينار بين زواج ونفقة وحضانة وتعليم، لا ينال إلا بضع ساعات مسروقة من حياة أبنائه.. كما لو كان لصا، أما الأم، فإلى جانب حقها بالنفقة والسكن والتعليم، تنال "المكافأة" الكبرى.. متعة الأمومة اليومية بلا منازع، واحتضان الأبناء والتمتع بعاطفتهم. أي أنّ القانون منحها المزايا المادية والعاطفية معاً، بينما أنزل على الرجل ثقل الخسارتين في الآن لانه!
النظريات العلمية في علم النفس تؤكد أن الحرمان العاطفي المستمر يقود إلى أمراض نفسية وجسدية معقدة.. نظرية "جون بولبي" في التعلّق العاطفي تشير إلى أن الانفصال القسري يولّد قلقاً مزمناً، وقد يتطور إلى اكتئاب أو اضطراب قلق حاد. دراسات في علم النفس الاجتماعي أظهرت أنّ الرجال المطلقين، خاصة المحرومين من حضانة أبنائهم، أكثر عرضة للإصابة بارتفاع ضغط الدم، أمراض القلب، الاكتئاب السريري، وحتى محاولات الانتحار مقارنة بغيرهم (WHO, 2019؛ American Psychological Association, 2021). وفي إحصائية أجريت في المملكة المتحدة، تبيّن أنّ نسبة إصابة الآباء المحرومين من أطفالهم بالاكتئاب تصل إلى 38%، مقابل 12% فقط من الأمهات المنفصلات (Office for National Statistics, UK, 2018). هذه الأرقام تؤكد أن الرجل يدفع ثمنين متوازيين: مالياً وصحياً، بينما لا يرى المجتمع في معاناته إلا "واجباً" مفروضاً عليه.
لا يقف أثر حرمان الأب من الحضانة عند حدود الجانب العاطفي والنفسي فحسب، بل يمتد ليضرب في العمق قدرته على التوازن المهني والاقتصادي. إذ تشير دراسات في علم الاجتماع الأسري (Amato, 2010؛ Nielsen, 2017) إلى أنّ الآباء الذين يُحرمون من الحضانة يعيشون حالة من الانهاك النفسي المستمر، ما ينعكس مباشرة على إنتاجيتهم في العمل، ويؤدي إلى تراجع في أدائهم المهني. وغالبًا ما تتجلى هذه الآثار في ازدياد معدلات الغياب عن العمل، ضعف الالتزام الوظيفي، وصعوبة التركيز في المهام، الأمر الذي يضعف قدرتهم التنافسية ويجعلهم أكثر عرضة لفقدان وظائفهم أو تراجع فرص ترقيتهم.
كما أنّ الإلزام القانوني بالنفقة – حتى في ظل غياب حق الحضانة – يضاعف الضغوط الاقتصادية على الرجل، إذ يتحمّل التزامات مالية كبيرة في وقتٍ لا يحظى فيه بالحق الطبيعي في ممارسة دوره التربوي المباشر (Fabricius et al., 2012). ويظهر هذا التناقض بوضوح في مجتمعات مثل الأردن، حيث تسجّل شكاوى متزايدة لآباء معسرين يُسجنون بسبب تأخر النفقة، رغم أنّ طليقاتهم يمتلكن دخلاً ثابتًاوربماأعلى
نيسان ـ نشر في 2025-08-18 الساعة 13:40
رأي: فراس عوض كاتب


