اتصل بنا
 

زواج اليوم.. بين التفكك الذي يلوح في الأفق والحاجة إلى ثقافة إنقاذ جديدة

كاتب

نيسان ـ نشر في 2025-08-20 الساعة 21:15

نيسان ـ في زمننا هذا، لم يعد الزواج كما عرفه أجدادنا، مؤسسة تُبنى على أعمدة الجماعة والعائلة والحكمة المتراكمة عبر السنين، بل صار أقرب إلى بيت هش من ورق، تهزه ريح صغيرة فينهار. بالأمس، كان الرجل والمرأة معروفَين بين أهلهما، يشهد لهما الجيران والأقارب، وتبارك الأسر هذا الاتحاد باعتباره عقدًا اجتماعيًا قبل أن يكون رباطًا شخصيًا. كانت العلاقة تنسج بخيوط التجربة والسمعة الطيبة والالتقاء على قيم واضحة، فلا يجرؤ أحد على القفز في المجهول وحده، بل كان الجميع يمسك بيده، يقيه من السقوط.
أما اليوم، فالمشهد مختلف تمامًا: تحررت القوانين، تمددت المفاهيم الغريبة التي تؤخذ جاهزة بلا تعقل، ورفعت الحرية الفردية كأنها راية مطلقة تمشي خلفها الأجيال بلا مرشد ولا رادع.. شاب وفتاة يلتقيان، فيتعرف كل منهما على الآخر بسطحية عابرة، يعيشان وهمًا بأنهما قادران على رسم مصير مشترك دون أن تحميهما شبكة أمان اجتماعية، ودون أن يقف حولهما كبار يلمّون الشرخ إذا اتسع أو يسدّون الفجوة إن ظهرت. لقد غاب الحكماء، وانكسر ميزان الرشد، وصار القرار بيد صغار لم يختبروا الحياة، تسوقهم ثقافة حداثة عمياء لا تؤمن بالمشاورة ولا تزن العواقب.
لذلك تتكاثر الخطوبات المكسورة، فسخ بعد فسخ، حتى غدت أرقامها مهولة، أكثر من خمسة عشر ألف حالة سنويًا، معظمها لا يجاوز حدود سوء تفاهم بسيط أو عدم إدراك لمعنى الزواج ومسؤولياته. يدفع الرجل الثمن غالبًا، مالًا وجهدًا وكرامة، بينما قلت ان تنال الفتاة أي وصمة كما كان في الماضي، بل صارت فسخ الخطبة أمرًا عاديًا لا يثقلها اجتماعيًا.. بل إن المطلقة بعد زواج كامل تجد فرصة ثانية، فما بالك بفسخ خطوبة لم تعش إلا على الورق؟ هكذا تهاوت قيمة الالتزام، وصار الزواج تجربة عابرة بدل أن يكون عهدًا عميقًا.
نحن اليوم عالقون بين عالمين: لسنا مجتمعًا جماعيًا يحمي أبناءه كما كان، ولسنا مجتمعًا فرديًا ناضجًا قادرًا على ضبط نفسه بمسؤولية.. مجتمع مهجن لا اعرف رأسه من قدميه، والنتيجة أن الحرية تحولت في كثير من الأحيان إلى فوضى، سمحت بعلاقات سريعة بلا وعي ولا رعاية، وخلقت خوفًا متناميًا لدى الشباب من الزواج نفسه..تلك الحرية غير المقرونة بوعي وتعقل .
من هنا، تصبح الحاجة إلى ثقافة جديدة ملحّة، ثقافة تعيد للتعارف مكانه الطبيعي قبل الخطوبة الرسمية، "فاتحة" تُقرأ بمعناها الصحيح: جلسة في العلن، برعاية الأهل والشهود، تمنح الشاب والفتاة فرصة للتفاهم الحقيقي بعيدًا عن الاستعجال والضغوط. لا يكفي أن تكون النظرة الشرعية خمس دقائق أو اللقاء في جلسة واحدة؛ فالحياة المشتركة لا تختصر في لفتة عابرة. يجب أن يكون هناك وقت للتفاهم، للحوار، لمعرفة هل يستطيع الطرفان العيش معًا أم لا.
هذه الثقافة أيضًا مطالبة بإنصاف الطرفين: فلا تُترك الفتاة أسيرة أوراق الدولة وملفات المحاكم لمجرد فسخ، ولا يُرهق الشاب بخسائر مالية تطيح بجهده وتفتح أبواب الاستغلال والاحتيال. الاتفاق يجب أن يكون لحفظ الحقوق لا لتكبيلها، ولصون الكرامة لا للمتاجرة بها.
إن الزواج ليس حفلة ولا صورة على وسائل التواصل، بل مسيرة حياة تحتاج إلى صبر وحكمة قبل الحب والغرام. لذلك، إن لم نعد النظر في قيمنا، ونبني ثقافة تنويرية من جذورنا نحن، تحمي كرامة الرجل والمرأة معًا، وتوازن بين الحرية والالتزام، سنظل ندور في حلقة من الفشل المتكرر، وننزف استقرارنا الاجتماعي أكثر فأكثر.
وحدها ثقافة الوعي، ثقافة التدريب على المسؤولية، ثقافة التفاهم قبل الالتزام، قادرة على أن تجعل الزواج حيًا من جديد، لا هشًا ولا عابرًا. إن أردنا أن نمنح أبناءنا مستقبلًا، فعلينا أن نمنحهم أولًا زواجًا متينًا لا يسقط عند أول امتحان.

نيسان ـ نشر في 2025-08-20 الساعة 21:15


رأي: فراس عوض كاتب

الكلمات الأكثر بحثاً