اتصل بنا
 

حين تخدعنا المساواة وتُنصفنا العدالة

كاتب

نيسان ـ نشر في 2025-08-26 الساعة 18:45

نيسان ـ المساواة والعدالة كلمتان تترددان على آذاننا كثيرًا، لكن، بينهما فرق عميق لا يُدركه من يكتفي بسطح المعنى.. و في حقيقة الأمر، فان لمساواة فكرة مادية وُلدت من رحم الحسابات الباردة، تُحاول أن تجعل البشر صفًا واحدًا على خط واحد، كما لو كانوا أرقامًا تُرصّ في جدول إحصائي، أو وحدات متشابهة تُخرجها ماكينة ضخمة بلا تمييز.. في المساواة يبدو البشر مجرد وحدات حسابية، قيمة عددية في معادلة صماء.. تبدو براقة لأول وهلة، لكنها حين تُختبر على أرض الواقع تكشف عجزها، حيث تفرغ التجربة الإنسانية من روحها، وتحوّل الوجود البشري إلى نسخ متكررة بلا اختلاف..!
لكن العدالة شيء آخر؛ العدالة ليست ميزانًا أعمى كما يتوهم بعضهم، بل عينٌ بصيرة ترى الفروق الطبيعية بين الناس وتمنح كل إنسان ما يليق به. العدالة ليست تسوية سطحية بل اعتراف بالاختلاف واحترام له. هي ابنة القيم، ورفيقة الروح، وميزان الإنسانية الذي لا يزن الأجساد وحدها بل يزن الأرواح أيضًا.. العدالة تعطي الصغير ما يشبع حاجته، وتعطي الكبير ما يناسب قوته، وتمنح الضعيف ما يعينه، ولا ترى في ذلك ظلمًا بل ترى فيه أسمى أشكال الإنصاف. هي كالأم التي لا تقسّم الطعام بين أولادها بالمسطرة، بل توزعه بحسب أعينها الرحيمة وإحساسها الداخلي، فتعطي هذا أكثر لأنه جائع، وذاك أقل لأنه اكتفى، وتحفظ للضعيف نصيبه لأنه بحاجة أشد. هذه ليست مساواة، لكنها عدالة.
المساواة تحاول أن تفرض قناعًا واحدًا على وجوه مختلفة. توزّع الحذاء نفسه على كل الأقدام، ثم تتباهى بأن الجميع متساوون. لكنها حين تدعوهم للسير، يبدأ الألم، لأن الأقدام ليست متشابهة. واحد يئن لأن الحذاء ضيق عليه، وآخر يتعثر لأن الحذاء واسع، وثالث يتألم لأن الحذاء لا يناسب شكله. المساواة هنا تتحول إلى ظلم متخفٍ بثوب العدل. بينما العدالة تفصّل الحذاء على مقاس كل قدم، فتحفظ للإنسان كرامته، وتجعل السير ممكنًا بلا ألم.
المساواة، حين تنفصل عن القيم، تبقى قشرة خاوية، جسدًا بلا روح.. تبدو من بعيد فكرة عظيمة، لكنها من الداخل فقيرة. هي أشبه بسماء ملبّدة بالغيوم لا تمطر، أو أرض صلبة لا تُنبت زرعًا.. أما العدالة فهي الجوهر الإنساني العميق الذي لا يُقاس بالكمّيات، بل يُقاس بالمعنى، وهي التي تجعل من القيم نورًا ومن الحب روحًا.. تخيل انسان يملك مال وشكله جميل، ولكن بلا أخلاق او ضمير او قيمة .. !!
الحب هو ما يمنح العدالة معناها، لأن العدالة بلا حب تتحول إلى قانون جاف، والحب بلا عدالة يصبح عاطفة عمياء. حين يتداخلان معًا، يتحقق التوازن الحقيقي، لأن الحب يرى الإنسان بعاطفته، والعدالة تحميه بإنصافها. في اجتماع الاثنين يولد المعنى الأعمق للإنسانية.
المساواة قد تفرح العيون السطحية لأنها تُظهر الناس وكأنهم متشابهون، لكنها تذيب هويتهم الفردية، وتجعل القوي والضعيف، المجتهد والمهمل، المبدع والعادي في خانة واحدة. هذا ليس إنصافًا، بل هو انتزاع للحقائق من طبيعتها. العدالة وحدها هي التي تحفظ الكرامة لأنها لا تنكر الاختلاف، بل تعترف به وتحوّله إلى مصدر قوة. العدالة تقول: لكلٍ نصيبه بما يليق به، لا بما يليق بغيره. هي التي تمنح الطالب المجتهد ثمرته، وتضع الكسول أمام مسؤوليته، وتكرم الأم التي سهرت على رضيعها، ولا تساويها بمن أهملت طفلها.
المجتمعات التي بنت حضاراتها على المساواة الميكانيكية انهارت لأنها تجاهلت أن للإنسان قلبًا وروحًا. أرادت أن تخلق تشابهًا قسريًا فانتهت إلى صراع داخلي. أما المجتمعات التي أقامت صروحها على العدالة، فقد فهمت أن التباين البشري ليس عيبًا بل سرًا من أسرار الحياة. وحين امتزجت العدالة بالحب، تحولت إلى أرض خصبة تُثمر حضارة متوازنة.
في النهاية, المساواة ، فكرة مادية تقيس الناس بأرقام جامدة.. اما العدالة فكرة إنسانية تقيسهم بقيم راسخة. والمادة بلا قيم لا معنى لها، والقيم بلا حب لا حياة فيها.. وحين تجتمع العدالة مع الحب، يُولد الإنسان من جديد، ويُصبح للوجود معنى أبعد من المادة ، معنى اسمى، وأعمق من المساواة الحسابية الجامدة الجافة، عندها فقط يمكن أن نقول إننا أنصفنا البشر، لا لأننا جعلناهم متساوين، بل لأننا أعطينا كل واحد منهم حقه بما يليق بروحه وكيانه

نيسان ـ نشر في 2025-08-26 الساعة 18:45


رأي: فراس عوض كاتب

الكلمات الأكثر بحثاً