اتصل بنا
 

الفلاحون والسلطة في المنطقة

نيسان ـ نشر في 2025-08-27

الفلاحون والسلطة في المنطقة ـ بقلم:
نيسان ـ الفلاحون والسلطة في المنطقة
قادت العواصم الثورات الكبرى في التاريخ الأوروبي، في إنكلترا (1642 – 1649، و1688) وفرنسا (1789و1848) وروسيا (1905، وثورتا شباط وأكتوبر1917). في مصر وسوريا والجزائر والعراق كان من قاد التحديث ريفيّون أو أبناء بلدات صغيرة (جمال عبدالناصر، عبدالحكيم عامر، زكريا محي الدين، أنور السادات، محمد عمران، صلاح جديد، حافظ الأسد، هواري بومدين، الشاذلي بن جديد، أحمد حسن البكر، صدام حسين) من خلال تنظيمات عسكرية وصلت للسلطة بقوة السلاح أو أحزاب سياسية قام تنظيمها العسكري أو السري بانقلابات عسكرية للوصول لسدة الحكم.
في الثورات الأوروبية تم حلّ المسألة الزراعية عبر طريق الإصلاح الزراعي من خلال قيادة الطبقة البورجوازية لثورة ضد الحكم المطلق المستند إلى الأرستقراطية الزراعية، أو من خلال ما يسميه ليون تروتسكي بمفتاح لغز الثورة الروسية: «فلو أن المسألة الزراعية الموروثة من البربرية وتاريخ روسيا القديم وجدت حلها على يد البورجوازية، وانتهت إلى صيغة ملائمة، لما توصلت البروليتاريا الروسية إلى الاستيلاء على السلطة في عام 1917» («تاريخ الثورة الروسية»، الجزء الأول، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1971، ص93)، وهو ما يفسّر أيضاً الثورة الصينية بقيادة الحزب الشيوعي عام 1949. ولكن في الحالات الإنكليزية والفرنسية والروسية والصينية تم حلّ المسألة الزراعية من دون قيادة فلاحية، وإنما إما بقيادة بورجوازية (إنكلترا وفرنسا) أو بقيادة عمالية (روسيا والصين).
في مصر وصل ضباط من تنظيم «الضباط الأحرار» للسلطة، ووصلها حزب البعث أيضاً في سوريا، وهو يستند مثلهم لقاعدة ريفية أو لبلدات صغيرة، وبالحالتين كنتيجة لعدم قدرة أحزاب، مثل الوفد في مصر أو حزبي الشعب والوطني في سوريا، على حلّ المسألة الزراعية من خلال الإصلاح الزراعي الذي يعني إطلاق العلاقات الرأسمالية بالريف وتمدين الريف وتحديثه عبر القضاء على العلاقات ماقبل الرأسمالية الاقتصادية – الاجتماعية. والأحزاب الثلاثة المذكورة كانت قياداتها من رأسماليين جدد أو ملاكين زراعين كبار، والكثير من الرأسماليين الجدد المصريين والسوريين قد استثمروا في الصناعة والبنوك إثر تراكم رأسمالي بدئي أتى من أملاكهم الزراعية في حقول القطن المصرية بعد السيطرة البريطانية بدءاً من عام 1882 أو أتى في سوريا بفترة 1941 – 1945 عندما تحولت الزراعة السورية، ومعها الثروة الحيوانية، إلى سلّة غذاء جيوش الحلفاء الممتدة ما بين العراق وليبيا.
في الجزائر كان التنظيم العسكري لجبهة التحرير الجزائري بعد استقلال 1962 من قاعدة ريفية اجتماعية أساساً، وهو عندما أزاح القيادة المدنية للجبهة، ممثَّلة في الرئيس أحمد بن بلا عبر انقلاب 1965، كان يعبّر عن توازن اقتصادي – اجتماعي في جزائر مابعد الاستقلال لصالح الريف، واحتاجت عملية ترجمته لوسيلة الانقلاب العسكري. أما في العراق فقد كان وصول حزب البعث للسلطة، وهو يمثّل تحالف مناطق تكريت ـ الرمادي – سامراء، تعبيراً عن نهاية سيرورة اضمحلال قوة مدن بغداد ـ الموصل – البصرة التي بدأت مع انهيار العهد الملكي 1921 – 1958، حيث كان حكم عبد الكريم قاسم ثم البعث في 8 شباط 1963 ثم حكم الأخوين عارف 18 تشرين الثاني 1963 -17 تموز 1968 علامات على قرب موت الرأسمالية العراقية الناشئة في حضن لندن، قبل أن يقود احتضارها إلى نشوء حكم البعث التكريتي ـ الأنباري – السامرائي الذي كان طابعه يجمع بين الريف الأقل نمواً والبداوة.
استطاعت ثورات إنكلترا وفرنسا وروسيا والصين إدخال بلدانها في التحديث، بينما في مصر وسوريا والجزائر والعراق حصل العكس بعد عبد الناصر وحزب البعث السوري والعراقي وبعد الحكمين العسكريين لبومدين وبن جديد.
على الأرجح أن ما يشرحه كارل ماركس في كتابه: «الثامن عشر من برومير لويس بونابرت»، هو المفسّر لصعود القوة الفلاحية، عندما يعزو ظاهرة البونابرتية إلى أن أي شخص يستطيع في لحظة من الاستعصاء التوازني في صراع طبقات اجتماعية، أن يظهر بصورة «المنقذ الفرد للأمة»، سواء كان يمتلك مواهب، مثل نابليون بونابرت 1799 – 1815، أو مثل لويس بونابرت الذي كان بلا مواهب وبماضٍ شخصي إجرامي، ولكن هذا لم يمنع من أن تنتخبه كتلة اجتماعية كبرى، أغلبها من الفلاحين، في انتخابات رئاسة الجمهورية بعد عشرة أشهر من ثورة شباط 1848 التي أعقبتها تصفية من تحالف بورجوازي مع الأرستقراطية المالية للقوة العمالية التي كانت عماد الثورة، ثم أن يكون الفلاحون عماد الإمبراطورية الثانية للويس بونابرت بعد ثلاث سنوات عندما انفرد بالسلطة وأقام ديكتاتوريته الشخصية التي قادت عام 1870 إلى تتويج انهياري للدولة الفرنسية، تمثّل بهزيمة معركة سيدان المذلّة أمام البروسيين. ومن يقرأ كتاب ماركس المذكور، وكتابه الثاني عن كومونة باريس عام 1871: «الحرب الأهلية في فرنسا»، يلاحظ كيف أن الفلاحين قد تحولوا إلى قوة يمينية محافظة لصالح لويس بونابرت في عام 1848، وإلى قوة مضادة لعمال مدينة باريس في عام الكومونة. ووفق تعبير ماركس «كما كان البوربونيين (أسرة ملوك ما قبل ثورة 1789) أسرة العقارات الكبيرة، وكما كان الأورليانيين (لوي فيليب ملك فرنسا 1830 – 1848) أسرة المال، كذلك البونابرتيون هم أسرة الفلاح، أي جمهرة الشعب الفرنسي». («الثامن عشر من برومير»، ضمن «مختارات ماركس وإنجلز»، الجزء الأول، دار التقدم، موسكو، من دون تاريخ، ص283).
البونابرتية ذات قاعدة فلاحية، وهي قادت فرنسا لهزيمتي معركة واترلو عام 1815 ثم معركة سيدان. وعلى الأرجح أن بحث فرنسا عن شفاء جرحها في واترلو، الذي أتى من فشل نابليون بونابرت في فرض السيطرة على القارة بوجه قوتي إنكلترا وروسيا، قد قاد لاضطراب عالمي رأينا أحد تجلياته في دعم باريس لمحمد علي باشا في محاولته تقويض الدولة العثمانية المحمية من الروس والإنكليز في ثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر، ثم كيف أن هزيمة فرنسا أمام الألمان في سيدان قد صنعت الحربين العالميتين الأولى والثانية.
الرضوض البونابرتية لم تعانيها إنكلترا أوليفر كرومويل 1642 ـ 1658 بثورة البرلمان ضد الحكم الملكي المطلق و«الملك يملك ولا يحكم بثورة عام 1688» ولا روسيا لينين وستالين ولا صين ماوتسي تونغ ودينغ سياو بينغ. وعملياً فرنسا لم تُشفَ من تلك الرضوض سوى مع مصالحة 1905 الداخلية بين قوى النظام القديم والقوى الحديثة التي أنشأتها ثورة 1789 عندما تم تبني العلمانية. ولكن أزمتها الخارجية إثر هزيمتي 1870 و 1940 أمام الألمان فإنها لم تحل سوى في عهد ديغول بالستينيات عندما صالح مستشار ألمانيا الغربية كونراد أديناور. وأما عقدتها القديمة من التفوق الإنكليزي منذ حرب 1756 ـ 1763 فإنها لم تحل حتى الآن.
كتكثيف: الفلاحون، وفي الماركسية هناك ميل عند الكثير من المفكرين أنهم ليسوا طبقة بل شرائح اجتماعية، لم يُعطِ التاريخ مثالاً تاريخياً تقدمياً عن قيادتهم للعملية التاريخية، بل كانوا قوة تقدمية تاريخية عندما كانت تقودهم البورجوازية أوالطبقة العاملة. في الماركسية وفي الليبرالية، وهما زبدة الفكر الغربي الحديث، هناك نظرة سلبية للدور التاريخي المنفرد للفلاحين. على الأرجح أن ما حصل في مصر مابعد 1952 وسوريا مابعد 1963 وعراق مابعد 1968 وجزائر مابعد 1965 يثبت الكثير من ذلك. وفي سوريا مابعد 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024 هناك ملامح لحكم ريفي سوري جديد أو أن قوة استناده الأساسية الاجتماعية هي في الريف أو في بلدات صغيرة، وليست في المدينتين الكبيرتين كما كانت سوريا 1946 – 1958.

نيسان ـ نشر في 2025-08-27


رأي: محمد سيد رصاص

الكلمات الأكثر بحثاً