اتصل بنا
 

بلير وكوشنر ثنائي الشر...بين البعد السياسي والاقتصادي لليوم التالي في غزة

نيسان ـ نشر في 2025-08-29 الساعة 12:21

بلير وكوشنر ثنائي الشر.. .بين البعد
نيسان ـ إسماعيل الريماوي: لم يكن الاجتماع الذي عُقد في البيت الأبيض بمشاركة توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، وجاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مجرد لقاء إداري لبحث تفاصيل المساعدات أو رسم ملامح "اليوم التالي" في غزة، بل هو انعكاس لرؤية استراتيجية أوسع، تهدف إلى إعادة صياغة المشهد الفلسطيني بما يتجاوز حدود الحرب الجارية، نحو إعادة هندسة البنية السياسية والاقتصادية والديمغرافية للقطاع، على نحو يضمن أمن إسرائيل ويفتح الباب أمام مشروع تهجير مقنّع.
"اليوم التالي" بين السياسة والإقصاء
منذ اندلاع الحرب على غزة، تتداول الأوساط الإسرائيلية والغربية سيناريوهات لما يُسمى "اليوم التالي"، وهي كلها تلتقي عند قاعدتين أساسيتين: الأولى إقصاء حركة حماس من الحكم وإضعاف قدراتها العسكرية، والثانية إيجاد صيغة لإدارة القطاع لا تسمح بوجود أي قوة مقاومة قادرة على تهديد الأمن الإسرائيلي، هذه النقاشات تكشف أن الهدف ليس فقط إنهاء جولة عسكرية، بل تصفية المقاومة كخيار سياسي واستراتيجي، وفرض نموذج بديل يقطع الطريق أمام أي مشروع تحرري فلسطيني.
بلير وكوشنر… الوجهان الاقتصاديان للمخطط
عودة بلير وكوشنر إلى الواجهة ليست صدفة، فالأول ارتبط اسمه بمشاريع اقتصادية بعد حرب العراق ومحاولات تسويق "السلام الاقتصادي" في فلسطين، والثاني قاد "صفقة القرن" على قاعدة الاستثمار مقابل الحقوق، حضورهما المشترك يعكس مقاربة جديدة ـ قديمة في آن واحد ـ تقوم على استخدام الأدوات الاقتصادية لإعادة تشكيل الواقع الفلسطيني، إنها إعادة تدوير لفكرة "الأمن مقابل السلام"، لكن هذه المرة بثوب "الاستثمار مقابل البقاء"، حيث يُعرض على الفلسطينيين فتات الإعمار والمساعدات مقابل التخلي عن جوهر القضية.
الاحتلال الناعم… من الدبابة إلى الدولار
تعلم إسرائيل جيدًا أن السيطرة العسكرية المباشرة على غزة مكلفة ومستحيلة على المدى البعيد، لذلك تتجه نحو ما يمكن تسميته بـ"الاحتلال الناعم"، أي إدارة القطاع عبر أدوات مالية ومشاريع إعمار مشروطة، تُقدَّم للعالم على أنها مخرج إنساني وتنموي، لكنها في الحقيقة وسيلة لإدامة السيطرة وتجريد غزة من بعدها المقاوم، هنا يتجلى دور بلير وكوشنر، كعقلين يسعيان لفرض نموذج اقتصادي أمني، يحوّل الفلسطينيين من شعب تحت الاحتلال إلى مجتمع يعتمد على المعونات، فاقد للسيادة والقرار.
البعد التهجيري في ثوب إنساني
وراء كل هذه الخطط يكمن البعد الأخطر: التهجير، حين تُربط المساعدات الغذائية والسياسية بإقصاء المقاومة، ويُترك السكان يواجهون المجاعة والحصار، يصبح التهجير خيارًا إجباريًا، يُطرح على أنه "حل إنساني"، الحديث عن سيناء أو دول أخرى لتوطين الفلسطينيين لم يعد مجرد ورق في الأدراج، بل مشروع يجد في الكارثة الإنسانية تربة خصبة للنمو، وعليه فإن اجتماع بلير وكوشنر لا يمكن فصله عن سياق محاولات تحويل الانهيار في غزة إلى فرصة لإعادة إنتاج النكبة، ولكن بوسائل جديدة أكثر نعومة.
غزة بين المختبر الأمني والملف الإنساني
الخطر الأكبر في هذه الرؤية يكمن في تحويل غزة من ساحة مقاومة وصمود، إلى "مختبر" اقتصادي أمني، تُدار فيه المعادلات وفق مقاييس التمويل والرقابة، ومن قضية تحرر وعودة إلى مجرد ملف إنساني إداري، وإذا ما قُدّر لهذه الصيغة أن تنجح، فلن يكون الثمن تصفية المقاومة فقط، بل فتح الباب واسعًا أمام مشروع تهجير تدريجي يطال مئات الآلاف من الفلسطينيين، تحت عناوين إعادة الإعمار والإغاثة.
السياق التاريخي… من وعد بلفور إلى "اليوم التالي"
إن ما يجري اليوم ليس معزولًا عن السياق التاريخي للمخططات الاستعمارية ضد فلسطين، فمنذ وعد بلفور الذي مهّد لاقتلاع الشعب الفلسطيني، مرورًا بأوسلو الذي قزّم القضية إلى سلطة منزوعة الصلاحيات، وصولًا إلى "صفقة القرن" التي طرحت الاقتصاد كبديل عن الحقوق، نجد أن اجتماع بلير وكوشنر هو حلقة جديدة في السلسلة ذاتها، إنه إعادة تدوير للمشروع الاستعماري بأدوات أكثر دقة ومرونة، لكنه لا يخرج عن الهدف المركزي: تصفية القضية الفلسطينية وقطع الطريق أمام أي أفق للتحرر.
الغياب العربي والتواطؤ الدولي
لا يمكن إغفال أن هذه المخططات ما كان لها أن تُطرح لولا الصمت العربي الرسمي، بل ومشاركة بعض الأنظمة في التطبيع الذي يشرعن الرواية الإسرائيلية، فالعالم العربي يقف اليوم متفرجًا على غزة وهي تُستباح، فيما القوى الدولية تسوّق مشاريعها تحت عناوين إنسانية، وهنا تكمن المأساة: أن يُترك شعب يواجه المجاعة والحصار وحده، بينما يُجهَّز لمذبحة سياسية على مائدة الذئاب.
إن اجتماع بلير وكوشنر ليس نقاشًا عابرًا حول "اليوم التالي"، بل جزء من مشروع استراتيجي لإعادة هندسة غزة وفلسطين على مقاس إسرائيل، غزة اليوم تُقاد إلى لحظة مفصلية: إما أن تُحوَّل إلى كيان هش يعيش على المساعدات، منزوع الإرادة والهوية، وإما أن تظل ساحة صمود تُفشل مخططات الاقتلاع، وما بين هذين الخيارين يقف العالم العربي صامتًا، وكأن النكبة يعاد إنتاجها أمام أعينه دون أن يحرّك ساكنًا.
غزة الآن على مائدة الذئاب، وبلير وكوشنر ليسا سوى أداتين في مشروع أكبر، يراد له أن يقتلع الجذور ويطرد السكان، بينما يسوَّق للعالم أنه مشروع "سلام وتنمية"، إنها لحظة اختبار لإرادة الفلسطينيين أولاً، ولضمير العالم ثانيًا، قبل أن يجد الجميع أنفسهم أمام نكبة جديدة، أكثر قسوة وأشد دهاءً من الأولى.

نيسان ـ نشر في 2025-08-29 الساعة 12:21

الكلمات الأكثر بحثاً