اتصل بنا
 

حين يعلو التريند على القسم

نيسان ـ نشر في 2025-09-02 الساعة 14:45

نيسان ـ بعث لي أحدُ الأصدقاء رابطًا لصفحة أحدِ الأطباء، يُروّج من خلالها لِنفسه، ويعرضُ صورًا قد تخجلُ بعضُ منصاتِ التّرفيه من نشرها، ويقولُ إنها لعمليات جراحيةِ تجميلية يقوم بإجرائها. وفي نفسِ الوقت، يذهبُ بعضُ الزّملاء إلى نشر منشوراتٍ مُواربة، مليئة بالإيحاءاتِ الجنسيَة؛ تتجاوزُ مرحلة «خدش الحياء» إلى ذبحِه. وهذه المُمارساتُ لم تنتشرْ بعد بشكلٍ واسع لتُشكّل ظاهرةً، فهذه الفئةُ وإن كانت ما زالت محصورة، وما تقومُ به مُستنكرٌ من قِبل جمهورِ الأطباء؛ لكنّي أخشى أن تتوسّع إذا لم تتعامل معها الجهات المعنية بحزمٍ مُنذ البِداية.

فحتّى لو كان هذا السلوك هو السائد في السوشال ميديا، فمِن غيرِ المقبولِ أن يصدرَ عمّن يُفترضُ أنّهم حرّاسُ إحدى أقدسِ المِهن وأرفَعها أخلاقًا. وهُنا تتبدّى مُفارقةٌ مؤلمةٌ: عندما تتحوّل أدواتٌ كان يُرتجى منها تثقيفُ النّاسِ ورفعُ وعيِهم، إلى منصّات استعراضٍ وتسليع، فتُشوّه صورةَ الطّب، وتُهدَرُ كرامةُ المريض، وتضعفُ الثّقة بين الطبيبِ ومريضه.
مطلبُ صونِ كرامة المريض ليس وليد اليوم؛ فهوَ قديمٌ قِدَمَ المِهنةِ نفسها، فمنذ قسَمِ أبُقراط، تعهّد الأطباءُ أن لا يُسبّبوا ضررًا، وألّا يُفشوا سِرًا، وأن يُقدّموا مصلحةَ المريض على رغباتِهم الشخصية. وفي صيغتِه الحديثة، شدد إعلان جينيف على احترام استقلاليةِ المريضِ وكرامته وخصوصيته. كما كان تراثنا العربيّ والإسلاميّ سباقا إلى الدعوة إلى حماية قدسية مهنة الطب، وإلى ضرورة احترام خصوصية المريض وستر عورته، وضمان سرية معلوماته الطبية والاجتماعية، وهذا العهدُ القديمُ لا يتبدَّل بتبدُّل المنصّات.
فلِلتواجدِ المِهنيّ الرّصينِ على السوشال ميديا وجهٌ مُضيءٌ لا يُنكر: من مكافحةِ الإشاعات، إلى تبسيطِ المفاهيم، وتشجيعِ الوقايةِ والفحص المبكر؛ لكنَّ هذا الوجه المُضيء يخبُو حين يُعرَضُ الجسدُ كمادةٍ تسويقيةٍ بِلا ميزانٍ علميّ يُوازن بين المنافعِ والمخاطر؛ عندها ينقلِبُ التّثقيفُ إلى دعاية، وتُستبدلُ العلاقة العلاجية بعلاقة مُعلنٍ ومستهلك، وتضيعُ الحدودُ التي حَفظها القسَمُ عبر القرونِ.
ويمكنُ تفكيكُ هذه المعضِلة الأخلاقيةِ في ثلاثةِ محاورَ مُترابطة: أوّلُها الخصوصية؛ فأيّ مُحتوى يُعرّف بالمريض، ولو تلميحًا، يُعدُّ انتهاكًا لِجَوهر العهد. وثانيها المِصداقيّةُ العلميةُ؛ فالمبالغاتُ والوعودُ القاطعةُ وإغفالُ الآثارِ الجانبيةِ تقوّضُ المصداقيةَ وتُضلّلُ الجُمهور. وثالثها كرامةُ الإنسان؛ حيث أنَ اللًغة المُوحية والتَّهكّم وإثارة الغرائزِ من أجل التّفاعلِ تُسقِطُ الحدّ الفاصلَ بين الطبيبِ والمؤثّر، وتنتقِصُ مِن مَقام المَريضِ والمهنةِ معًا.
ولكيْ لا يتحوّل التّشخيصُ إلى تجريمٍ شامل، يَلزَمُ التّفريق بين التّوعيةِ والإعلان، فالتّوعيةُ مَبنيّة على الدّليلِ العِلمي، أمّا الإعلانُ فيجب وسمُهُ بِوضوح، وأنْ يخلو من المُقارناتِ المضلّلةِ والانتقاصِ من الزُّملاء، وعدمِ استغلالِ المَخاوفِ والمعاناة. ويُستحسنُ فصلُ الحِساباتِ التّثقيفيةِ عن أيِّ مُحتوى تسويقيّ، مَع الإفصاحِ عن تضارُبِ المصالحِ عندَ تناوُلِ الأجهزةِ والمُستحضراتِ.
المسؤوليّةُ هنا مُشتركة، فَعلى النّقابات المِهنيّة إصدارُ دليل سُلوكٍ رقميّ مُلزَم يحدّد ضَوابطَ الصُّور والفيديوهاتِ والمنشوراتِ على وسائل التواصل، وعلى المُؤسّسات الصّحية تدريب كوادِرها على أخلاقيّاتِ الإعلامِ الصّحي وتوفير قنواتٍ رسميةٍ للتواصلِ العام. وعلى الزّملاءِ مُمارسةُ تصحيحٍ ذاتيّ يحفظُ كرامة المريض والطبيب، وعلى الجمهورِ مُكافأةُ المُحتوى الرَّصينِ ومُساءلةُ الابتذالِ.
حُضورُ الأطبّاء على وسائلِ التّواصلِ الاجتماعيّ امتحانٌ علنيٌّ لِقسَمٍ قديم، ومَن حَفِظَ العَهد في السِّر لا يُضيّعُه في العلنِ، ومعيارُ النجاحِ بسيطٌ وعصيٌّ معًا: مصلحةُ المَريض وكرامتُهُ أوَّلًا، ومصداقية المعلومةِ ثانيًا، ومنْ أرادَ الظّهورَ فَلِيظهر بالعِلمِ والدّليلِ وخدمَةِ النّاس، لا بِالاستعراضِ، عِندها فقط تغدو المنصّاتُ امتدادًا كَريمًا لِرِسالةِ الطّب، لا مسرَحًا لابْتِذالِها.

نيسان ـ نشر في 2025-09-02 الساعة 14:45


رأي: د.عاصم منصور

الكلمات الأكثر بحثاً