اتصل بنا
 

“خرافة الغزو العربي لإسبانيا”.. عَسْكرة الفتح بين المستحيل الجغرافي والمُشتَرك التوحيدي

كاتب وصحفي اردني

“التوحيد الإسلامي كان قادرًا على جذب الجماهير دون وجود اتفاق قسطنطيني”. إغناسيو أولاغوي/ عالم أحافير ومؤرخ إسباني
“مَن دخل إلى أوروبا في القرن الثامن لم يكن العرب، بل هو الإسلام!”. روجيه غارودي/ فيلسوف وسياسي فرنسي مسلم
“روما لم تَتَمَسَّح (أي: لم تصبح مسيحية)، وإنما المسيحية قد تَرَوَّمت (أي: أصبحت رومية)!!”.

نيسان ـ نشر في 2025-09-03 الساعة 10:39

نيسان ـ إذا تقرر لنا باستقراء تاريخ الحروب في أَعْصُر ما بعد الميلاد أن مُسوِّغ الفتوحات الإسلامية في مَبْدئها إنما كان لدفع الخطر الذي هدد الوجود الإسلامي نفسه في عقر داره بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وما تلاها من حروب الرِّدة، وفتوحات السنين العشر من 11 هــــ إلى 21 هــــ (اليرموك عام 636م، والقادسية عام 637م ضد أباطرة الساسانيين وإقطاعيي فارس، ونهاوند عام 642م ..إلخ) حيث “استقبلَ فيها الأهالي المسلمين كمحررين”-بحسب روجيه غارودي في “الإسلام في الغرب: قرطبة عاصمة العالم والفكر” (1)– فإنْ هذا التقرير على صحته سيوقعنا في مأزق أخلاقي يَعْصَى على ذلك التعليل المستمسك بصَدِّ التهديد الخارجي.
ذلكم أننا نجد الأسباب الـمُلْجِئة إلى حرب الروم وفارس بعاملِ الجغرافيا الملاصقةِ أرضَ الحجاز، كالذي جرى من أمر “مؤتة” و”تبوك” و”بَعْثِ أسامة” ومُكَاتَبة الملوك؛ وهو ما أوجد ذاكرة ثأرية في إدارة العلاقات الدولية مع دويلة يثرب، وخصومةً حديثة العهد بُعَيد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فحَتَّم هذا على الخليفتين الراشدين المسارعةَ إلى الغزو؛ مَدْفعةً للخطر عن الأمة الوليدة وقتئذٍ قبل أن يستعصي على الردع (جهاد الدفع).
غير أننا لا نكاد نُـبِـينُ مسوِّغًا واحدًا للفاتحين الأوائل حين يتعلق الأمر بغزو شبه جزيرة إيبيريا (إسبانيا، والبرتغال، وأندورا، ومنطقة جبل طارق)؛ لأن موقعها الجغرافي القَصِيَّ أَبْعَدُ مِنْ أن يتهدد الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة العربية، وما حولها من أمصارَ تتبع لامركزيًّا لحكومات إسلامية متعددة (تَبْعُد عن الحجاز ما يزيد على 5000 كم).
ولَئِن سَلَّمنا افتراضًا أن عدوانية الشعوب الإيبيرية، أو أن أطماعهم الجيوسياسية في عصر كانت سِمَته النزعة التوسعية قد زَيَّنت لهم تسيير حملات عسكرية؛ بُغية إلحاق بلاد العرب بنفوذهم الدولي، وضَمِّها إلى مستعمراتهم، فإن الجزيرة العربية لن تكون مغنمًا جغرافيًّا إستراتيجيًّا (جيوبوليتك)، أو حضاريًّا مَدَنيًّا لهم، ليس لبعد المسافة عنها، وليس أيضًا لطبيعة المناخ الصحراوي، ولا لقسوة التضاريس الفاصلة بين الحجاز وإيبيريا حيث سلاسل جبلية وأنهار ممتدة وصحارى مَوَات.
بل لأن الشعوب الإيبيرية الـمُتمدنة -بالمعيار الحضاري السائد آنذاك- لم تكن ترى في أولئك البدو، وبلادهم الجرداء، مَطْمَعًا يُذْكَر يدعوها إلى تكبد كل ذلك العناء، وخسارة الأرواح، وتبديد الخزينة في تعبئة الجيوش، وفي تأمين الغذاء والعتاد والسلاح، وخطوط الإمداد والتزود والدعم اللوجستي، لأجل أن تضم صحراءَهم إلى نفوذها الجيوسياسي، وتبعيتها الإدارية (حديقة خلفية للنفوذ الإيبيري)!
فإذن؛ السؤال المركزي الأوجب للطرح بعد حَصر كل الافتراضات التي قد تكون وراء ارتحال الفاتحين إلى تلك الأراضي البعيدة، ينبغي أن يكون الآتي:
إنْ لم يكن ثمة خطر يتهدد الوجود الإسلامي من جهة الغرب الشمالي (إيبيريا)، ولا كان ثمةَ خطر يتهدد الشعوب الإيبيرية من قبائل الجنوب الشرقي (الحجاز)، مع تَأَكُّدَ زُهد الإيبيريين المتمدنين في أرض العرب وصحرائهم، وانتفاء الدواعي لغزو بلادهم القاحلة، بوجود غيرها أشد قربًا لهم، وأَرْبَحَها عليهم تجاريًّا وسياسيًّا وثروات طبيعية (قارة أوروبا)، إن لم يكن شيءٌ من ذاك مُحتَملًا، فما الذي أخرجَ جيوش الفتح إلى مغامرة مجنونة خلال تضاريس ومناخ قاتِلَين لم يألفهما العربي، ولا قِبَلَ له بتحملهما؟!
هذا كله على الرغم من ضَمان أَمَان جبهة الداخل الإسلامي في الشرق من أي تهديد وجودي من جهة الغرب، ثم الأعجب أن يصل الجيش كله بسلامة، ويَغْلب تلك الشعوب الحَصِينة جغرافيًّا في ثلاث سنين فقط!! ثم تحول ما بين 10 ملايين و30 مليون نسمة إلى الإسلام في بِضْعة عقود فقط؟!!
• هل كان العرب مجانين؟!
بَادِيَ الرأي لا يبدو أننا أمام فاتحين يندفعون نحو الغزو بغلبة الطبع البدوي عليهم كأنما يُغِيرون على حي من أحياء العرب، ويَقْهرون المستحيل الجغرافي، والـمُحَالَ الزمني، وإنما أمام أسطورة تتجاوز كل المذكورين في الإلياذة والأوديسة وجلجامش، ويمتنع على العقل الحديث اليوم أن يَقبلها كما جاءَته كما هي!!
فلئن كانت العرب مَجْبولة على النزوع للإغارة منذ الجاهلية الأولى، فإنها لم تَك مَجنونة إلى ذلك الحد الذي يَحْملها على تسيير جيش إلى بلاد سيموت الـجُند قبل الوصول إليها؛ إما بسبب: العطش والجوع لانعدام خطوط إمداد وتزود لوجستي بالـمُؤَن، أو التجمد بردًا، أو عُنف التضاريس (جبال، أنهار، بحار، أوبئة، ..إلخ)، في جيش يَـجُر وراءَه عتادًا حربيًّا، وترسانة عسكرية ثقيلة (منجنيقات، وعربات جند، ودروع، وأسلحة، وأطنان الـمُؤَن ..)؛ ما سيُبَطِّئ لا جَرَمَ حركة الجيش، فيُطيل أَمَدَ الحملة، وهو ما يعني واقعيًّا هلاك الجيش عن آخره، أو انهيار صمود دفاعاته واستحكاماته عند أول اشتباك! لأنَّ تطويل مدة الحملات العسكرية البعيدة يعني التعرض الحتمي لأنياب المجاعة والظَّمَأ، وبراثن الأمراض.
وحتى لو استطاع الجيش الـمُستَنْزَف باللَّتَيَّا والتي الصمودَ حتى يبلغ وُجْهَتِه المقصودة، فإنه لن يَبلغها بحالٍ في الميعاد المخطط له، وسيُجازف بنفاد المؤن المتبقية بحوزته، وسيكون خائر القوى مع طول ذاك السفر، ومنقوص العدد بمَنْ هَلَكوا في رحلة الموت تلك!
فكيف له بعد كل هذا أن يربح المعركة على أرض خصومهم بين زوجاتهم وأولادهم وأموالهم وأرضهم التي يعرفون سبيل توظيفها في هزيمة الغزاة المنهكين! ثم يَمْلك الأرض والشعب في 3 سنين فحسب؟!!
أولًا: تأريخيةُ تواجدٍ لا تأريخيةُ السببِ
ليس في مَقْدورنا تصديق تلك الخوارق الملحمية التي تتحدى المستحيلات المادية كلها، إلا إذا أضفنا إلى جملة الأسئلةِ المستقصيةِ لدوافعَ ذلك الغزو المزعوم سؤالًا يَحْتمله المنطق الجغرافي، ويَقْبله الممكن الزماني، هو سؤال: أَحقًّا غزا المسلمون إسبانيا والبرتغال عسكريًّا، ولا سيما أن الثابت الأكيد المتفق عليه عند المؤرخين هو حقيقةِ الوجود العربي (تأريخية التواجد)، وأثره الصارخ في حضارة الأندلس (قرطبة، غرناطة، إشبيلية، طُلَيطلة، قشتالة، أراغون، بلنسية ..إلخ)، من غير اتفاق على تأريخ لسبب الوجود العربي فيها (تأريخية السبب)؛ حيث إنَّ “وثائق تاريخ الأندلس أُتلفت، وكُلُّ ما بحوزة المؤرخين اليوم مَحْضُ كتابات جاءت متقدمة بعقود على سنة 711م”؟
• وثائق تاريخ الأندلس
في كتابه “العرب لم يستعمروا إسبانيا أبدًا: الثورة الإسلامية في الغرب”، يدعو عالم الأحياء القديمة المؤرخ الإسباني إغناسيو أولاغوي إلى إعادة قراءة هذه اللحظة التاريخية برؤية ناقدة تأخذ بعين الاعتبار كل ما تبقى من تاريخ إسبانيا الوسيط في مختلف المجالات؛ ذلك أن “وثائق تاريخ الأندلس أُتْلِفت، وكل ما بحوزة القارئ اليوم من كتابات جاءت متقدمة بعقود على سنة 711م” (2).
اتبع أولاغوي في كتابه منهجًا علميًّا بَوَّأَه الأفضلية على سابقيه من المؤرخين؛ لكونه متخصصًا أكاديميًّا بــــ : الجيولوجيا، والبيولوجيا، قبل كونِهِ مؤرخًا. وهما العِلْمان اللذان قَلَّ أن يُعرَف عن مؤرخ جَمْعُهما إلى مُكْنَةِ أدواته البحثية.
وبذلك أُتِيح لأولاغوي إقامة رواية حقيقية عبر الاستعانة بأدوات معرفية حديثة، غير الاستقراء الكلاسيكي المعهود على المؤرخين الإخباريين، أدواتٌ كـــــ : الجغرافيا، والهندسة المعمارية، والإثنوغرافيا (الدراسة الوصفية التحليلية للمجتمعات البدائية)، والأنثروبولوجيا الاجتماعية (علم الإنسان الاجتماعي)، وعلم أحياء الحفريات (البيولوجيا الأرضية).
وكتابه يدخل في نطاق الدراسات التاريخية التي تعيد النظر في التاريخ من أجل إعادة كتابة حقائقه، وهي مَزِية الكتاب على سابِقيه ممن تبنوا القول بالغزو العربي المزعوم لإسبانيا، ولهذا قال هو في فَضِيلة كتابه: “الفائدة الوحيدة لبحثنا هذا تكمن في تعريفنا بخرافة الغزو في صيغتها النهائية”.
وهو يؤكد أنه “إذا كانت الوثائق حول الأحداث التي عاشتها إيبيريا في القرن الثامن قليلة وغير جدية، فإن العصور السابقة واللاحقة قدمت لنا الكثير عن هذه المرحلة: كتب أدبية، وعمارات، ومصكوكات، ونقوش تعود إلى الفترة بين القرن الرابع والقرن العاشر (المراسيم الكنسية الصادرة عن المجمعات الدينية المنعقدة في إيبيريا، والكتب الثيولوجيا “دراسة الطبيعة الإلهية” التي كتبها مسيحيون عاشوا في قرطبة في القرن التاسع)؛ أيْ كُلُّ ما يتيح لنا إعادة بناء الحالة الذهنية التي كانت سائدة قبل الدعوة الإسلامية وبعدها”.
• فَرَضية الغزو العربي في الميزان النقدي
بحسب أولاغوي في أطروحته “العرب لم يستعمروا إسبانيا أبدًا”، فإنه “بالاستناد إلى الأخبار والروايات المسيحية، وُصِفت الحملات العسكرية المستحيلة جغرافياً، والتي يرفضها الحس النقدي السليم، مِثل رياح السموم! وفي قلب غيوم من الغبار! وغيمة من الجراد! وتلاطم أمواج بحرية أثارتها الصحراء! وموجة صاعدة من قاع البحر تتقدم مجموعة هائلة من الفرسان العرب! فتنتشر في الشرق الأوسط، وفي شمال إفريقيا، ثم في شبه جزيرة إيبيريا”.
ويوضح في صــــ 45 و55 من كتابه أنه “على الرغم من أن المعارف التاريخية -التي أصبحت أكثر دقة واستقامة- قد أزالت الكثير من الترهات في التاريخ، فقد ظلت خرافة الغزوات العربية محفورة في الأذهان، والحقيقة ما زالت مخبأة تحت ركام من الخرافات التي يجب كَنْسها؛ لرؤية حقيقة كيفية انتشار الإسلام منذ البداية”.
فـــ”رغم رصانة وجدية من كتبوا هذه الكتب، فإن هذا لم يمنع من أن تكون كتبهم مطبوعة بطابع اللامعقول والخرافة. يجب عليهم إعادة كتابة تاريخ الإسلام برمته. هكذا يمكننا أن نفهم أسباب وكيفية ومعاني هذا الحدث العظيم في مرحلة ظل خِصْبها وغِنَاها في الظلام! “، يستغرب أولاغوي في صـــــ 55 من كتابه.
• السؤال الصحيح يعني جوابًا صحيحًا
إذا صَحَّ عن القدماء أن “السؤال” هو أول محفزات المعرفة الإنسانية؛ فإن “الفلسفة” -على شتى تعريفاتها واختلاف مَدارسها- لا تكاد تَجْتمع على شيء اجتماعَهَا على أنَّ جوهَرَ الفلسفة في: “فن السؤال” كما يسميه فيلسوف الأخلاق المغربي د. طه عبد الرحمن.
وإزاء بَحْثنا عن جوابٍ للسبب الذي أدى إلى سيادة الحكم العربي على شبه جزيرة إيبيريا، ودخول الملايين فيها في الإسلام -مع أن ما بأيدي المؤرخين اليوم من الوثائق يؤكد أن العرب كانوا أقلية بالقياس على قُطَّان إيبيريا الأصليين وقتذاك- فإننا ننتهي إلى ثلاثة احتمالات رئيسية لابد لأحدها أن يكون وراء الوجود الإسلامي في مملكة الأندلس؛ وهي: الأول: السيف، الثاني: اللغة، الثالث: العقيدة (الدين).
• الاحتمالات الممكنة
1- الإخضاع بالسيف:
يؤكد علم الاجتماع النفسي، والأنثروبولوجيا (علم السلالات والأجناس البشرية) أن الإكراه لا يفسر كل شيء، فالحضارة الإنسانية تتغير ولكن ببطء؛ فلا تسود المفاهيم الجديدة حتى ولو كانت أرقى إلا بعد عدة أجيال.
وقد أثبتت “الحتمية التاريخية” والسنن الكونية أن الأمم تخفي قوة المقاومة إلى حد يلزم معها كارثة لتدمير بنية اجتماعية ما، وإجبارها على التراجع عن عاداتها وتقاليدها وأعرافها وعقيدتها، وتاريخ الاستعمار الحديث: البريطاني والفرنسي والإيطالي والسوفيتي والأمريكي، أصدق شاهد على أن التغيير بالقوة يُحدِثُ أوهنَ التأثير على المدى البعيد في الآخَر.
يشير أولاغوي -في صــــــ 59 و 60″ من كتابه “العرب لم يستعمروا إسبانيا أبدًا”- إلى أن كزافيي بلان هول “أثبت في كتابه (العالم الإسلامي) أن الإسلام كان دائماً دين المدن؛ لأن البدو الرحل الذين يحملون عقلية تمردية، ويتحركون حسب حاجاتهم، وأحيانًا حسب نزواتهم، لا يمكنهم أن يُشكلوا نموذجاً دينياً وَرِعاً”، مدللًا على أن مسلمي الحَضَر الأوائل في مكة والمدينة المنورة تعرضوا لصعوبات في ضبط البدو الموجودين في أطراف الصحراء (الأعراب).
“على الرغم من ذلك، لنفترض أن شعب إيبيريا أُخْضِعوا بالقوة من قبل جماعات البدو، فلماذا تنازلوا لهؤلاء البدو عن كامل حضارتهم دونما مقاومة؟!”، يتساءل أولاغوي في صــــــ 59 و60.
ووَفْقَ أولاغوي في صـــــ 59 و 60، فإن “أهمية النصر الإسلامي على المستوى الفكري تتجلى في أن المقاطعات البيزنطية تتمتع بحياة مدنية متقدمة، وكانت المدن المزدهرة كبيرةً، فكان تعداد سكان أنطاكية حوالي 300 ألف نسمة، وكان من بين الـ 400 أسقفية بيزنطية 371 أسقفية موجودة في آسيا وحدها! فلم يكن بإمكان البدو المحاربين الآتين من الصحراء إلا أن يشكلوا مجرد أقلية ضئيلة بالنسبة لجماهير المدن!”.
ثم يتساءل: “هل يتعين علينا أن نتصور أن أبناء المدن قد فُتِنوا بـِمَدَنية أولئك المتدفقين من الصحراء الـمُوحِشَة؟!! يبدو الأمر مستحيلًا، إلا إذا كان لدى هؤلاء البدو غير السيف!! فَلِكَي تتمكن فكرة قوية من إخصاب جماعة إنسانية ما، يجب أن تَلقى تلك الفكرة تقبلًا حسنًا من المتلقي”.
وقد سبق أنْ عَلِمنا أن دراسة “التحولات الروحية والاجتماعية والثقافية العملاقة في القرنين السابع والثامن في عالمي الشرق الأقصى والبحر المتوسط، جاءت منسجمةً مع مفهوم بدائي للتاريخ عَدَّ الوجود الإسلامي نتيجةً لغزوات عسكرية، فَرَضتْ اللغة والحضارة والدين بالسيف المعقوف!!”، وهذا مما يُكذِّبه الواقع الـمَعِيشُ قبل التاريخ الماضي.
2- قوة اللغة:
هل يمكن السيطرة على الشعوب والحضارات بـ”اللغة”؟ يشير أولاغوي في صـــ283 من كتابه إلى أنه “لم يكن لدى المسلمين عند انطلاق دعوتهم خارج الجزيرة العربية سوى القرآن بفكرته القوية، واللغة العربية الأدبية الخلاقة التي تمكنت وحدها في التاريخ من الحلول محل أعظم لغتين في ذلك العصر: اليونانية واللاتينية”.
“اليونانية واللاتينية تحملان العلوم والفلسفة وسَطْوتهما، أما اللغة العربية فتحمل القرآن وفكرته القوية. وبينما يمكننا نقل العلوم إلى لغة أخرى، يستحيل علينا نقل “قوة الفكرة وقوة المعنى”؛ لأن نقلها يعني الانخراط في حضارتها، وهذا ما حصل فعلًا في مختلف المناطق التي انتشرت فيها الحضارة العربية الإسلامية”، يوضح أولاغوي.
لكنَّ قوة اللغة لوحدها ليست كافية لإحداث واقع عظيم كامتلاك المُلك والشعب عبر اللغة فقط؛ “إذ كيف كان بإمكان المؤرخين أن يفسروا هذا الحدث العظيم بــ : كتاب ولغة يجتاحان العالم!! إنه أمر مستحيل، فلم يجدوا حلًّا سوى القوة لتفسير الأمر؛ أي: فتوحات عسكرية تَبِعها فرض الإسلام وحضارته!”.
“ميزة هذا التفسير السطحي أنه أَرْضَى انحيازَين مُسبَقين: المسيحيون رأوا في هذا التفسير حلًّا لمعضلةِ ماضٍ مخجل من جهة. وحلًّا لآمال مستقبل يَحْلُمون به؛ عبر تَصديق أن العرب اجتاحوا بلادهم، وما عليهم إلا تحريرها منهم بقوة السلاح!”.
3- رُوح الدِّين
إذا كان تغيير هُوية الوجود والموجود (الأرض، والشعب، والثقافة، والحضارة) بالسيف من الاستحالة بمكان، وكان -أيضًا- فوق طاقة اللغة لوحدها، فهل يمكن تحقيق ذلك التبديل الجذري لِمَا هو فوق الأرض بـــ”العقيدة الدينية”؟!
يرى أولاغوي في صـــــ 305 من كتابه أن “تاريخ المجتمعات الإنسانية هو ثمرة لعبة الأفكار، وليس تكتيكات الجنرالات المدججين بوسائل التدمير؛ فتنتشر هذه الأفكار حسب قوتها، وتتراجع حسب ضعفها”.
يُخْبرنا التاريخ القديم أن الشعوب الإيبيرية كان تدين بـ”المسيحية الآريوسية”، أي: عقيدة التوحيد التي أتى بها المسيح عيسى بن مريم عليه السلام -كما سيأتي لاحقًا تفصيله- فــ “حتى القرن الرابع عشر صمدت أقليتان قويتان (اليهود، والنصارى المستعربون)، وازدهرتا في أرض كانت أولًا أريوسية، ثم أصبحت إسلامية” كما قال في صـــ241 من كتابه.
وهذا الاشتراك العقائدي الذي يُنزه الإله عن اتخاذ الصاحبة والولد، ويَجعل “يسوع” إنسانًا كباقي البشر، لا نِصفَ إلهٍ بكونه ابنًا للرب كما تَدِين “المسيحية الـمُثَلِّثة”، قد سَهَّل الدعوة إلى الإسلام من قبل تجار العرب المسلمين، فألقى له من القَبُول في تلك النفوس التوحيدية ما حَمَلَها على اعتناق الإسلام، وعدم مقاومته؛ لكونه يُوافقُ ما هم عليه من عقيدة التوحيد، و”أَنْسَنة المسيح” اللذين سيأتي ذكرهما مفصلًا لاحقًا.
يستدرك أولاغوي في صـــــ 60 من كتابه بأن “التعصب الديني، وسوء الفهم الناتجان عن انعدام الوعي حينًا، وأحياناً عن الإرادة الواعية، المتعاظمين مع الزمن، أَخْفَيا تحت جملة من الأكاذيب والخرافات جزءًا هامًا من تاريخ انتشار الإسلام على طول السواحل الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط.”.
• من “التوفيقية الآريوسية” إلى “التوفيقية الإسلامية”
وفي صـــ 256 يشير إلى أنه “كان القطبان: المسلم، والكاثوليكي يشكلان أقليتين، تتأرجح بينهما جماهير المجتمع الإيبيري الذي اجتاز سلسلة من التطورات الوسيطة، قبل أن ينتهي الأمر بهيمنة مفهوم الإله الواحد بجوهره الآحادي، وإزالة مفهوم الثالوثية.
إذ كانت قابلية التشكل لدى هذه الجماهير مدهشة، والتي انتقلت بالمجتمع الإيبيري من “الهرطقة البسيطة” إلى “التوفيقية الآريوسية” ثم إلى “التوفيقية الإسلامية”.
“جاء الإسلام إلى إيبيريا -والكلام لأولاغوي في صــــــ 305- ليملأ الفراغ الناشئ عن انحسار المسيحية دونما حاجة إلى غزو عسكري؛ فالعقول والأجساد والأرواح كلها كانت مُهيَّأةً للدين الجديد. أما الكنيسة الإيبيرية، وبِطَانتها من الدولة القُوطية فلم تكونا على مستوى الصراع. بل لو غزا العرب إسبانيا لـَمَا خَمَّرت الخميرة الإسلامية العجينَ الأندلسي لتخرج تلك الحضارة الأندلسية الفريدة في التاريخ، والتي يعود إليها الفضل في انتشال الغرب من الظلمة في عصر النهضة الأوروبي”.
ويتفق روجيه غارودي في صـــــ 28 من كتابه “الإسلام في الغرب: قرطبة عاصمة العالم والفكر” مع أولاغوي، إذ يقول: “مَن دخل إلى أوروبا في القرن الثامن لم يكن هم العرب، بل هو الإسلام”.
فإذن؛ كان لــــ”للمشترك التوحيدي” بين العرب والإيبيريين، ثم القوة العجيبة للعربية على تجسيد المعنى بأَحَدَّ من السيف، التأثيرُ الكبير الكامل في تسليم شعوب إسبانيا والبرتغال بالعقيدة الإسلامية المتوافقة مع عقيدتهم الآريوسية، وفي الإقبال على تعلم اللسان العربي الذي فاق بوضوح في دقة تجسيده للمعاني أعظم لغتين: اللاتينية واليونانية في تطور حركة العقل الفكرية.
ثانيًا: مَوضوعية “تحيز التأكيد” على مَحَكِّ الاختبار
من أوكد المعاناة البحثية لطالب “الجواب” -أيُّ جواب كان- أن يكون في نظر غيره مَجروح العَدَالة في شهادتِهِ، وهو ما ينطبق علينا أيضًا كمسلمين نؤمن بمشروعية الفتح الإسلامي وأخلاقيته حين نحاور غير المسلم، أو المسلم الـمُتشَوِّش؛ ذلك لأننا نُوجِّه الأسئلة إلى الشاهد الذي نعرف أنه يَشْهد لنا لا علينا؛ أيْ الذي يُسوِّغ للفتح، ويَرْهِنه بدواعي “الاضطرار”. لكن ذريعة “الاضطرار” نفسها نسبيةٌ لا تُطْبِق العقول على معيار أوحدَ لها؛ فما تراه أنت “اضطرارًا” قد لا يراه غيرك كذلك مع وجاهة تعليل كِلَا الطرفين المتخالفين.
العلم يقول إنه رد فعل دفاعي ذهني لا واعٍ سمَّاه علماء النفس “تحيز التأكيد”، ويعني أن تُحاجج على أو تبحث في ما استقرتْ قناعتك عليه مسبَقًا؛ فأنت تَعتقد ثم تَستظهر لاعتقادك ما أضمرتَه سَلَفًا من جواب مقرَّر عندك كأنما تُرِيد جَرَّ السامع إليه، أيْ جَرَّه إلى الجواب الذي تُـخـَبـِّئــه له ليتوهم أنه عثر عليه، على حين أنك أنت مَنْ أَعْثَرتَه عليه، وزرعت في نفسه الحاجة إلى العثور عليه، فَسُقْتَه إليه من غير أن يشعر!
تلك الدفاعات الذهنية الخفية تبدأ بسؤال يَسْتبطن جوابًا مُقرَّرًا سَلَفًا، ولعله يُقارب في المعنى المَثَلَ الشعبي الدارج: “جحا جاب، وجحا أكل!!”؛ فأنتَ الذي تسأل، وفي الوقت ذاته أنتَ الذي يُجِيب أيضًا! فَــلَـكَـأنَّ الجوابَ سَابِقٌ على سؤالِه، أو بل كاد أن يكونَه!!
وعلى ذلك كله؛ وإجراءً لمقتضى انطباق المبدأ ذاته علينا في أثناء بسطنا القول في بُطلان دعاوى الاعتذار عن الفتوحات الإسلامية؛ باعتبارها “احتلالًا/ استعمارًا/ اعتداءً” بحسب القاموس السياسي الحديث، فإننا سنطلب هاهنا للشهادة أشهر مؤرخي الغرب ومستشرقيه في هذا الباب الذي تَوَهَّم بعضنا أن “الفتوحات” كانت ممارسةً سياسيةً للخلفاء والأمراء والقُواد تُلْحَق بـ”الأحكام السلطانية”، أو “أعمال السيادة” التي ليست من عمل الدِّين ولا مقتضياته، ولا علاقة لها بصريح مقاصد الإسلام نفسها التي لا تُكره على الدِّين أحدًا، فضلًا عن إكراهه على غَصْبِه وطنَه.
وباحتكامنا إلى أصحاب الأرض أنفسهم (إسبانيا، البرتغال) الذين هم من غير لساننا، وهم الأدرى بِشِعَابها، نَخرج مما قد يدعيه البعض علينا من الوقوع في “ظروفٍ جالبةٍ للشبهة” من حيث الاشتباه بكوننا واقعين تحت تأثير “تحيزٍّ تأكيديٍّ” يُضمِر استباقًا جوابًا مستَتِرًا، ثم يَصوغ سؤالَه على مقاس مُرَاده وغاياته وأجنداته، وليس العكس!
ذلك مع أننا غير مُلْزَمين بهذا النهج في قضية كهذه؛ لأن المسلم الذي عَقَد مع الله بَيْعةً على الإيمان بالغيبيات كما تأتيه عنه دون عَقْلنتها (إخضاع لمقاييس العقل المجرد)، يهديه إيمانُه ثم عقلُه إلى أن ذلك الاستشكال المتصل بالإسلام الذي لا يجد له جوابًا في نفسه، لا يعني وقوع الإسلام في ورطة تبريرية لكونه لم يجد الجواب عنه.
وعلى الرغم من كل ذلك سنسلك هذا الأسلوب في معالجة موضوعنا هذا مناط البحث؛ إِعْـمَالًا لمنهج قرآني أصيل في فلسفة التحاور، وعلم المناظرة، ونظرية الحِجَاج، وفقه الواقع: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ “إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ؛ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ”، فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [إبراهيم: 4].
فإنه إن صَحَّ لنا -وهو صحيح- أن لسان قومنا اليوم هو في: تقديم العقل وتأليه العلم، ما وَسِعَنا أن نخاطبهم بلسانٍ غير لسان أدواتهم المعرفية في أثناء القول على “عالمية الخطاب القرآني”، وأنه “انعكاس للطريقة التي يريد الإسلام بها تنظيم هذا العالم” -كما قال علي عزت بيغوفيتش في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”- وأنَّ معنى “إكمال الدين” عن النَّسْخِ بإرسال الرسل (اليومَ أكملتُ لكم دينكم)، أنه موجود ليجيب عن أي تساؤل إنساني يخطر على البال، وبأي أدوات البشر يشاؤون، وفي أي عصر أرادوا.
ثالثًا: هل فُرِضت الحضارة الإسلامية بقوة السلاح على شبه جزيرة إيبيريا؟
• التحرر من واجبات المؤرِّخ
يؤكد عالم الحفريات المؤرخ الإسباني إغناسيو أولاغوي أن “فتح إسبانيا من قبل العرب مجرد خرافة”.
ويشير أولاغوي -في صــــــ 258 من كتابه “العرب لم يستعمروا إسبانيا أبدًا: الثورة الإسلامية في الغرب”- إلى أن المؤرخين الغربيين “بعد أن سحرتهم الخرافة التي أعدها التاريخ التقليدي، لم يفكروا بتحليل تطور الحضاة العربية الإسلامية في إيبيريا. وبسبب هاجسهم اللغوي؛ استفادوا من خرافة الغزو بالقدر الذي يُحررهم من واجبات المؤرخين!”.
• مُثبِّتات الخرافة = ذكرى الحروب الأهلية + غياب المنهجية
بحسب أولاغوي في صـــــ 281 من كتابه، “”نجح المثقفون المسيحيون بنشر فكرتين ضروريتين للارتفاع بالخرافة إلى مستوى الحدث التاريخي:-
1- تم غزو إسبانيا من قبل العرب خلال ثلاث سنوات ونصف السنة؛ الأمر الذي يخدم أعداء المسيحيين بالشهادة على قدراتهم الحربية الخارقة!
2- لم يتواجه في هذه الحرب سوى العرب والقُوط الذين هُزِموا بسبب إلحادهم“”.
على أنَّ أولاغوي يُعلل ما جرى -في صـــــ 282 من كتابه- فيقول:
“نشأت هاتان الخرافتان (أيْ: انتشار الإسلام بسطوة السيف، وغزو إيبيريا)؛ لأن الوعي الجمعي في إيبيريا كان يَحتفظ بذكرى حروب أهلية لم تكن الأجيال التي جاءت بعدها قادرة على فهم أسباب اندلاعها.
وبسبب غياب المنهجية في علم التاريخ، لم يكن فهم هذه الظاهرة العظيمة وتحليلها ممكناً إلا في العصور الحديثة، بل المعاصرة.
وبسبب النقص في العدة المنهجية الضرورية لتثبيت الأفكار، عانت الأجيال في تفسير أحداث الماضي من تلك الحقبة المليئة بالتحولات العميقة”.
رابعًا: لماذا أرجعَ المؤرخون انتشار الإسلام إلى “عَسْكرة الفتح”؟
• غَلَبَة التعصب الديني على النظر الموضوعي
يشرح أولاغوي القصة في كتابه بالقول: “حيث يتعرض المسافرون لغرق سفينتهم، يتعلقون بحطام السفينة المتناثر من حولهم في محاولة للنجاة.
والمؤرخون الإسبان الذين كتبوا حول القرن الثامن استندوا إلى بعض النصوص المتعلقة بالموضوع، لكنهم توانوا عن تحليل قيمتها الوثائقية؛ فلقد كان يكفيهم منها أن توافق قناعاتهم!! فلم يبحثوا عن الحقيقة بقدر ما كان يبحثون عن مبررات اعتقادهم بحدوث الغزو!”.
• انتهاك الشروط المادية للفتوحات
يوضح أولاغوي أن “المنهجية العلمية تكونت بصورة شاقة في عصر النهضة. وكان ممكناً لها أن تصون المؤرخ من كل خطأ، إلا أنها كانت تُنتهك باستمرار؛ بسبب الأفكار المسبقة الدينية والقومية”.
فمعظم المؤرخين اقتنع -على حد قول أولاغوي في كتابه صــــــــ 53- بأن “فتح إيبيريا قد تم على يد أهل الحجاز، ولم يَفتح أيُّ واحد منهم خريطة ليُقدِّر المسافة، أو يدرس العقبات، ولم يتساءل أيٌّ منهم عن الشروط المادية لرحلة من هذا النوع (..)؛ إذ كان ذهن المؤرخين محشواً بالأفكار المسبقة الـمَوْروثة من 1000 عام!”.
“كانت الخرافات محفورة في أرواحهم، ولم تتوانَ عن أن تكون مُغْرِضة! وتم تجاوز مُسلَّمات روتينية ساعدت على غياب الحس النقدي للمؤرخين؛ إذ كان العالم كله مقتنعًا بالغزو العربي لإيبيريا -كثيرون لهم مصلحة بهذا الاعتقاد- (..) فالمرحلة في نظر هؤلاء المؤرخين هي مُسَلَّمةُ الغزو العربي لإسبانيا “، يضيف أولاغوي في صــــ 53.
ويَنتهي في صـــــ 54 من كتابه إلى مصدر الغموض من أصل الوجود العربي في إسبانيا فيقول: “نحن اليوم قادرون على أن نفهم لماذا فَسَّرَ التاريخ انتشار الإسلام بفتوحات عسكرية خرجت من أعماق الجزيرة العربية الواسعة، وكيف ضُخِّمت الجماعة الإسلامية في الحجاز لتأخذ حجم الدولة القادرة على غزو العالم كله!! وكيف أنها حَمَلتْ المنجنيق بدلًا من العقول النيرة!!”.
رابعــًا: الأدلة الداحضة خرافةَ “الفتح العسكري”
• غياب حرب العصابات عن شعب غير مُسالِمٍ تنازلَ عن الأرض المُفضَّلة مسيحيًّا
يُنبِّه أولاغوي -في صـــــــــ 56 و 57 و 58 من كتابه- على ضرورة الحاجة إلى تفسير كيف يمكن أن تتم عملية تحويل شعوب محصنة جغرافياً وطبيعياً بهده السرعة، ومن قبل حفنة (25 ألف رجل= 7000 بقيادة طارق بن زياد + 18000 بقيادة موسى بن نصير) ممن نُسِبت إليهم المعجزات، وكيف أنهم أهلكوا 10 ملايين نسمة على أقل تقدير!!
ثم يستدرك متعجبًا كل هذا “مع أن الإيبيريين والعرب الغزاة لم يكونوا من أصل مشترك (..)، فضلًا عن أن الإيبيريين خلال تاريخهم الطويل لم يكون شعباً مسالماً في مواجهة مثل هذا النوع من الأحداث!”.
“ألم يكن ممكناً أن يُنظموا حرب العصابات التي سبق لهم أن قَدَّموا وَصْفَتها إلى العالم بأكمله؟! وكأنَّ المؤرخين تَجاهلوا العشرة ملايين نسمة الذين اختفوا من صفحات التاريخ بلا أثر لهم!!!”، يتعجب أولاغوي.
وبدلًا من المقاومة الشعبية للغزاة العرب من أجل الوطن (إيبيريا)، الأرض المسيحية المفضَّلة، وبعد أقل من قرن، “اعتنق هؤلاء المسيحيون الإسلام بحماسة قادرة على خوض تجربة الشهادة. وفي الواقع استمرت عملية اعتناق الدين الإسلامي خلال قرنين أو ثلاثة قرون، فكان اعتناقاً كاملًا ونهائياً”، يؤكد أولاغوي.
• الـمَلْحمة التوحيدية ضد الـمُثَلِّثين
يستدرك أولاغوي بتَعْرِيضٍ تاريخي: “كيف يمكننا إذن تفسير هذه العودة عن المسيحية، واعتناق الإسلام بقوة السلاح؟!!”.
في الحقيقة هذا ليس تساؤلًا، بل هو استنكار من أولاغوي للمؤرخين الذين قدموا التعصب للموروث الديني على الحقيقة التاريخية الدامغة؛ ذلك أن الشعوب الإيبيرية عانت في الماضي من “حرب أهلية” طاحنة بين: المسيحيين التوحيديين الآحاديين (الآريوسيين) من جهة، والمسيحيين الثالوثيين من جهة أخرى.
وعن هذا يقول روجيه غارودي في صــــــ 11 و12 و15 من كتابه “الإسلام في الغرب: قرطبة عاصمة العالم والفكر”:
“كان الأريوسيون يعتبرون المسيح كلمة الله (..) فنشبت حرب أهلية بين مسيحيين قابلين بعقيدة الثالوث، وألوهية يسوع (الطبيعة المزدوجة) المعلنة في مجمع نيقية عام 325م، وبين مسيحيين موحدين (مسيحية مُهَرطقة) رافضين للثالوث، ولا يرون في يسوع إلهًا بل رسولًا من عند الله.
كان يدعى حيئذ المسيحيون الذين اختاروا رفض معتقد نيقية بـ”الهراطقة” (..) أصحاب تلك الهرطقات انتشروا في آسيا، فكانوا معارضين للكنيسة النيقية الـمُثَلِّثة في روما وبيزنطة، ومضطَهَدَين من قِبَلها”، يقول غارودي.
وبعد ما وقع من تحريف علني لعقيدة التوحيد التي جاء بها عيسى عليه السلام في “مجمع نيقية” الشهير عام 325م، تحت رعاية إمبراطور الدولة الرومانية قسطنطين، أَبَتْ جماعة من النصارى بقيادة أسقف الإسكندرية “أريوس” الإقرار أن يسوع هو ابن الله، رافضةً حِيلةَ “حلول الناسوت في اللاهوت”، وفِرْية “التثليث” المصطنعة (الأب: الابن: الروح القدس).
أَنْشَبَ هذا الثباتُ على العقيدة الصحيحة أشهر “حرب أهلية” طويلة –حسب التوصيف الـمُعَلْمَنْ اليوم الذي تَذكر فجأة استدعاء ذريعةٍ اِلْتِفافيةٍ تدعى “الموضوعية” لطمس الحقيقة- عَرَفتها كرونولوجيا المسيحية (السردية الزمنية المتسلسل للتاريخ المسيحي).
• رجال دين البلاط.. توظيف رجال الدين في خدمة الدولة لا الدين!
هل يُعِيد التاريخ نفسه مُكرِّرًا الأُطُرَ العامة ذاتها في دورة سنن الطبيعة الكونية (الحتمية التاريخية)؟ يبدو أنه يفعل ذلك في امتداد سِيَاقي قَدَري لِأَزَلية الصراع الوجودي الأقدم بين الإنسان وإبليس، وذلك قبل أن يُوجَد تاريخٌ لأي شيء في عصرٍ يَسبق مَهد الطفولة البشرية نفسَه الـمُوغِل في القِدَم!
وليس من قَبِيل الصدفة أن يكون تَدَاعي “مجمع نيقية” إلى ما يُشبِه في هذه الأيام شكل “الحوار الوطني” أو “مفاوضات الصلح” لإنهاء ثلاثة قرون من الاحترابٍ الأهلي مع يسوعيين راديكاليين، هو أحد وجوه الحتمية التاريخية التي احتالتْ فيها الدولة بدهاء لتحقيق مَكْسبين سياسيين؛ الأول: إجهاض نهائي لحركة التمرد على سلطتها السياسية عبر خَدِيعة الاعتراف الرسمي بالدين الجديد مُسبِّب النزاع قيد الصلح، وإعلانه دينًا للدولة والإمبراطور نفسهما.
والثاني: توظيف قوة العقيدة وسطوة أثر كَهَنوتها التي خَبِرتها الدولة في خدمة البلاط الإمبراطوري (السيسيولوجيون يُجمعون على أن “الإنسان كائن متدين بطبعه”، فله احتياج مُلِحٌّ إلى أن يَدِين بأي عقيدة؛ انسجامًا مع ما رُكِّبَ فيه؛ وسدًّا لاحتياج الفطرة إليه).
وبهذا التصالح الديني المَمكور له أغلقتْ الدولة أخيرًا بابًا مزعجًا طالما أوجع رأسها لـ 300 عام، واستعملت التعطش الشعبي إلى التوحيد في تقوية نفوذ بلاطها.
فإذنْ؛ كان “مجمع نيقية” الذي استدعاه الإمبراطور قسطنطين إلى الانعقاد مَحْض تكتيك مُستَدرِج، بل فخًّا سياسيًّا مُحكَمًا ابتغى:
1- “إعطاءَ وحدةٍ أيديولوجيةٍ لإمبراطوريته بفرض عقيدة الثالوث، ووحدة الجوهر ليسوع والأب”، بحسب روجيه غارودي في كتابه “الإسلام في الغرب: قرطبة عاصمة العالم والفكر” / صــــــ 14.
2-تقسيم المسيحية، وشَقَّ وحدة الصف، وتفريق كلمة الموحدين؛ بإدانة “المجمع” لآريوس أسقف الإسكندرية المتهم بعدم قَبوله تلك المعتقدات.
وبذلك أضحى الموحدون قلة قليلة بعد أن انشق صف الثوار؛ باستجابة أساقفة وأتباع كثر إلى “مسيحية التثليث”، فتَمَّ للدولة ما أرادتْ من دون أن تخسر هيبتَها أمام الرأي العام المصفق لمصالحة السلام الوطنية تلك، وإرجاع مَن كانوا “مارقين” في نظر الدولة إلى بيت الطاعة وبتعاليم المسيح نفسها التي قاتلوا الدولة عليها في الماضي؛ أيْ: الرجوع لحضن الوطن المختَزل بـ”الإمبراطور وحكومة الدولة”!!
فمن يخرج على الإمبراطور الـمؤمن بعدئذٍ فكأنما يخرج على إرادة المسيح التي احتكرتها الكنيسة بالوكالة عن يسوع! فحُكْمُها هو حُكمه، وصَكُّ غفرانها مُذيّل بتوقيع المسيح شخصيًّا في تفويض كنسي مُطْلَق الصلاحيات تُخوِّلُه أن يَبِيع الجنة للمطيعين لها، ويُدخِل في جهنم العاصين!
• عَوْلَـمَة المقاومة: تصدير “حرب العصابات” إلى العالم
نحن المسلمينَ نَفهم أن ما جرى وقتئذٍ لا يسمى –اعتمادًا على عِلْمَي ضبط المصطلح وتحرير المصطلح- “حربًا أهلية”، وإنما مَلْحمةٌ جهاديةٌ، وحركةُ تصحيح ديني، ومقاومةٌ مقدَّسةٌ في سبيل دين الله من قِبَل جماعة المؤمنين التوحيديين (المسيحية الآريوسية)، ضد دولة “المسيحية الـمُتَروِّمة” أو “المسيحية الثالوثية”، الـمُمثَّـلةِ بــــ : إمبراطورية روما العظمى، والتيوس المستعارة الـمُحَلِّلة من رجال الدين ممن تآمروا على التنازل عن المبادئ الدينية لعقيدة الحَوَاريين أنصار المسيح إلى الله كما أخبر القرآن الكريم (النَّصَارى)، وداسوا كَهَنوتهم الأخلاقي بكونهم حُرَّاسًا للتوحيد، وأُمناء على ما أُخِذَ عليهم من عهد الله، ومِيثاق رسوله الإنسان؛ من أجل أن يتماهى تجديد الخطاب الديني مع النظام الدولي الجديد الذي أفرزه “مجمع نيقية”.
فإذا عُلِمَ لنا أن تلك الشعوب غير الـمُسَالمة بطبيعة تكوينها، الـمُبتدعة لأشهر أسلوب شعبي مقاوِم: “حرب الاستنزاف” (حرب العصابات كالتي في فيتنام إبان الغزو الأمريكي، وفي قطاع غزة اليوم، وفي أفغانستان إبان الغزو السوفيتي، ثم الأمريكي من بعد ..) بداعي الحاجة إليها في عَصْرٍ خُلْوٍ عن قوانين أُممية، وشرعية دولية، كانت سِمَتُه التوسع الاستعماري لإرساء النفوذ ومَدِّه!
إذا عُلِمَ لنا أن تلك الشعوب المتصفة بما تقدم لم تُسَالِم على دينها الدولةَ العظمى في زمانها حين تعلق الأمر بصيانة عقيدتها التوحيدية من التحريف والدس والـمَحْو والإضافة (تهديد وجودي للهُوية الدينية)، فأعلنتْ غير آبهةٍ لموازين القوى غير المتكافِئَة الحَربَ على الولايات المتحدة الرومانية العظمى حينئذٍ، وناصبتها العَدَاءَ، وقاومتْ بدمائها وأرواحها وحُريتها سياسةَ فرض “المسيحية النِّيقَوية” عليها!
فعلى أي وجهٍ يَجْدُر بنا اليوم أن نَفهم أنَّ مَن خاضوا عبر قرون مقاومةً دمويةً للعالم الروماني لأجل دينهم، تقبلوا بأريحية واستسلام وحماس تام أن يُفْرَضَ الفاتحون المسلمون حُكَّامًا على وطنهم، ويَطمسوا هُويتهم الدينية الممهورة بدماء أجدادهم إلى صالح عقيدة جديدة وحضارة غريبة؟!!
هذا أَعْجَب من العُجَاب نفسه! وتصديقه توأم الجنون إلا إذا أثبتنا أن الشعوب الإيبيرية انقرضت بالسبب ذاته الذي أَبادَ الديناصورات من الوجود، فلما أنْ رَسَت سفن الفاتحين المسلمين عند شُطآنها وجدوها أراضيَ بلا شعوب! فاستملكوها كأرضٍ مَشَاعٍ لا صاحب لها!
أَبَعْدَ هذا جنون! يبدو أننا سنصاب بالجنون حقًا إن تابعنا جمهور المؤرخين في نظرية الفتح العسكري لإيبيريا.
• شهادة بلاسكو إيبسانيز
يُقدِّم الكاتب الإسباني بلاسكو إيبسانيز شهادة من أجل بلاده -استشهد بها روجيه غارودي في صـــــ17 من كتابه “الإسلام في الغرب: قرطبة عاصمة العالم”- إذ يقول:
“في إسبانيا لم يأتِ الإحياء من الشمال مع الجماعات البربرية، وإنما جاء من الجنوب مع العرب الفاتحين؛ فتلك كانت حملة تَمْدينية أكثر منها فتحًا (..) ففي عامين استولى هؤلاء على ما انقضى سبعة قرون لاسترداده منهم؛ فلم تكن تلك غزوة تُفرض بقوة السلاح، وإنما كانت مجتمعًا جديدًا يعتمد مبدأ حرية العقيدة ركنًا أساسيًّا الذي ترتكز عليه عظمة الأمم الحقيقية (..)”.
يتابع: “من القرن الثامن إلى القرن الخامس عشر سوف تنشأ أغنى حضارة وُجدت في أوروبا خلال العصر الوسيط؛ فعلى حين كانت شعوب الشمال تُبِيد بعضها بعضًا بحروب دينية، وتسلك سلوك القبائل البربرية، كان سكان إسبانيا يناهزون ما يزيد على 30 مليون نسمة بتنوع لا متناه للأجناس والمعتقدات من الناس، ينجم عنه أشد النبضات الاجتماعية في خليط غني من الشعوب والأعراق”.
• ذاكرة التنازع التاريخي
يؤكد روجيه غارودي أن السبب الذي جعل الإسبانيين يَعُدون دخول المسلمين فتحًا لبلادهم، لا احتلالًا لها، ليس الإنصاف وحده؛ بل لأن القارة الأوروبية، وبالأخص إسبانيا، كانت تعيش وقتذاك بقايا ذاكرة التنازع التاريخي وصراع وثورات بين فريقين: المسيحيين التثليثيين المؤمنين بـ”عقيدة نيقية عام 325م” التي رعاه الإمبراطور قسطنطين من جهة، والنصارى التوحيديين.
ويَخْلُص -في صـــ 13 و14 من كتابه “الإسلام في الغرب: قرطبة عاصمة العالم”- إلى أن “التعارض بين الشرك والوحدانية في إسبانيا كان ضاربًا في القِدَم؛ فهو إذن كما يسميه المؤرخون الغربيون ثابتة التاريخ الإنساني، حيث تصارعت في الأندلس قبل مجيء الإسلام بعشرات القرون وحدانية خاصة بجميع الروحيات العليا، سابقةٌ جدًّا لأنبياء كنعان، وشرك تعدد الآلهة الشعبي القديم جدًّا منذ آلاف السنين!”.
“ولن يكون في وسعنا أن نفهم كيف أن حفنة من الرجال اجتازت إسبانيا في أقل من 3 سنين إذا كنا نتخيل اجتياحًا عسكريًّا!!”، يتساءل غارودي في صـــ 16.
وينقل غارودي في صــــــــ 15 و16 عن ميشيل السوري وهو يُذَكِّر بالاضطهادات المرتكبة من قبل البيزنطيين، ويُقدِّر بهذه العبارات وصول المسلمين فيقول: “إن إله الثأر إذ رأى شرور الرومان الذين كانوا حينما يسيطرون يَسلبون بقسوة كنائسنا وأديارنا، وَيحكمون علينا بلا شفقة؛ أتى بأبناء إسماعيل من الجنوب لتخليصنا منهم (..) وأن نجد أنفسنا في راحة”.
المراجع:
(1): روجيه غارودي، “الإسلام في الغرب: قرطبة عاصمة العالم والفكر”، ترجمة د. ذوقان قرقوط، دار دمشق / شارع بور سعيد – الطبعة الأولى 1995م.
(2): إغناسيو أولاغوي، “العرب لم يستعمروا إسبانيا أبدًا: الثورة الإسلامية في الغرب”، ترجمة ملخِّصة د. إسماعيل الأمين، رياض الريس للكتب والنشر، لندن- الطبعة الأولى شباط/ فبراير 1991م.
مصنف في:المقالات

نيسان ـ نشر في 2025-09-03 الساعة 10:39


رأي: عبد الرحمن نجم كاتب وصحفي اردني

الكلمات الأكثر بحثاً