اتصل بنا
 

تزوير الهُوية الدينية: رَجْعة إلى “الطفولة البشرية”

كاتب وصحفي اردني

نيسان ـ نشر في 2025-09-08 الساعة 08:43

نيسان ـ أورد ابن خلدون في “المقدمة” أن التاريخ يكتبه المنتصر. وهذا التقرير لا نَكَارة فيه، على أنَّ اتساع الأدوات البحثية اليوم مما قد فات الأقدمين أضاف إلى كَتَبة التأريخ صفة أخرى مع الغَلَبة: أنهم أوغاد أيضًا!
أُصِيب صاحب “البؤساء” الفرنسي فيكتور هيجو بالجنون في أرذل عمره، وهو يوم ذاك قد جَازَ السبعين ببضع سنين. انتهت الترجمة للروائي العظيم عند ذهاب عقله بِأَخَرة من حياته حتى لقد كان يمشي في الشوارع عاريًا، بحسب ما ذكرت المراجع الأجنبية.
والحقُّ أن صاحب “أحدب نوتردام” الكَهْل ظلَّ أصح عقلًا إلى أن أدركه الموت، غير أنه ختم حياته بجناية لا يُتَسامح فيها؛ إذ أسلم وجهه لله على يد صديقه المغربي، وتَسمَّى “أبا بكر”؛ تأثرًا بالرجل الثاني في الإسلام.
وهو ما لم يَرُق الماسونيين في فرنسا آنذاك؛ لِعِظَم مكانة الرجل في الأوساط الثقافية، وأثر سطوة قلمه أيام كان الواحد إما كاتبًا أو قارئًا أو مُحبًّا لهما، فاحتالوا للمُعْضلة، واتْمَرَوا به؛ ليُنفِّروا منه، فلا يكاد يُلقي أحد له بالًا إنْ هو هَمَّ بالإخبار، أو بالكتابة عن التحول الكبير الذي أحدثه الإسلام في رُوعه، بل حياته، فحَمَلَه على الانسلاخ من دين الآباء والأجداد.
وثَمَّ قصيدة نثرية لفيكتور هيجو بلغته الأم (الفرنسية) مع ترجمتها العربية تُبحر في ظلال سورة الزلزلة، كأنما يَخُط مَلْحمةً روائيةً عن مَشَاهد يوم القيامة، إلا أنها هذه المرة ليست من تِلْقاء خياله، بل مُستمدة من آي القرآن.
فسبحان الله! كم من مجهولٍ في الأرضِ مَعلومٍ في السماء.
والأمر عَيْنه تكرر مع أحد أعظم روائيي روسيا أيام القيصرية الكونت ليو تولوستوي، صاحب “الحرب والسلام”. لكنَّ هذا الرجل عَظُم الخطر من طريقه ليس لأدبه العالي وحسب، وإنما لكونه نشأ أرستقراطيًّا نبيلًا، فطرح عنه كل هذا، واستبدل بالنعيم، وبحياة الإقطاعيين الإسلامَ دينًا، والتَخَشُّنَ وحياةَ الفلاحين مَعَاشًا.
كان كتابه “حِكَم النبي محمد” عبارة عن شرح للأربعين النووية كما اسْتَيقنتها نفسُه في مَعْرض دفاعه عن الإسلام، ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، مما رُمِيَا به من جَنَابِ الكنيسة الأرثوذكسية التي كَفَّرته.
ومِنْ أجل إسلامه هو وابنه، مات الثمانيني شَرِيدًا طَرِيدًا في محطة قطار بعد أن انفض عنه كُلُّ مَنْ كانوا حوله، وتبرؤوا منه، بمن فيهم زوجتُه، فقذفوه إلى قارعة الصقيع ليموت وحيدًا بَرْدًا!!
وثالث الثلاثة الأديب الألماني الشهير “يوهان غوته” الذي صَبَأ هو الآخر كصاحبيه! فأعلن احتفاله بليلة القدر قائلًا: “إنها ليلة ميلاد أشرف الكتب وأصدقها قاطبة”.
وصادفَ أن فتح المصحف الشريف ذات مرة فرأى بين صفحاته ريشة بيضاء فخاطبها قائلًا: “رَقَدتِ في أطهر بقعة في هذا الوجود!”.
أما شهيد الإرهاب الرابع فهو “الرحالة المستكشف” البرتغالي فرناندو ماجلان الذي مات بِشَر قِتْلة على أيدي الهمجيين وآكلي لحوم البشر في إحدى الجزر التابعة اليوم للفلبين، وذلك بعد إبحاره التماسًا لجُزُر التوابل. انتهت الرواية الغربية المُتماسكة بتذييل مسيلمة الكذاب عليها!
ونحن العربَ ترجمنا تلك الحكاية الفَاطِرة للقلوب دون تَثَبُّت أو نظر؛ اكتفاءً بإشْهَادِ الذئب الوديع على الحَمَل المتوحش!
ولكن الله قَيَّض رجالًا فَضَحوا ذلك البُهتان التاريخي الأَشِرْ، فكشفوا أن “ماجلان” إنما أتى مستعمرًا إلى جزيرة ماكتان بأمر من ملك إسبانيا؛ لِتَنصير أهلها قَهْرًا في امتداد تَوَسعي لديمقراطية “محاكمِ التفتيشِ”! الكابوسِ الأكثر رُعبًا لمسلمي الأندلس (المُورسكيين أو العرب المَوَارِكة كما سُمُّوا)؛ ولِضَمِّها إلى أملاك الدولة مع جملة المستعمرات المُستباحة في القرن الخامس عشر.
فما كان من سلطانها المسلم “لابو لابو” إلا الدفاع عن بلده كما هو متوقع، وقَتْل الرحالة المُزَيَّف، ودحر الغزاة على أعقابهم.
ولا تجدُ اليومَ أحدًا في العاصمة مانيلا يَجْهل اسم السلطان المسلم، وبَسَالته المُشْتَهرة؛ فتِمْثاله المنصوب فيها باعتباره بطلًا قوميًّا جزءٌ أصيل من التراث الوطني للفلبين.
قُصَارى القول ومُنْتَهاه أنَّ نَزعة التشويه للمسلم وعقيدة التوحيد الجامعة للرسالات، وتضافر المستعمرين عليها، لم تقتصر على أولئك الأفذاذ، بل ترجع إلى عَهْد “الطفولة البشرية” الأول؛ فالذي يَطَّلع على تاريخ العالم القديم (ما قبل الميلاد) يَأنس بجلاء لا يَخفى أو يُتَأوَّل أن كَوْمة الأساطير المُغْرقة في القِدَم، والديانات غير السماوية في حضارات: بابلِ العراقِ، وأَشُور، والصين، والهند، والإغريقِ اليونان، وروما، بل حتى القبائل البدائية في مَجَاهل غابات إفريقيا والأمازون، كلها تَشْترك مع بعضها في وَحْدة وَثَنِيَّتها على نمط واحد هو: تَأْلِيه الإنسان، فما المعنى المَخْبوء من وراء هذا؟!
إنَّ في هذا أَوْكد الدَّلالة على أنَّ:
1- الحاجةَ إلى “إله” يُتَقَرب إليه إنما هي فِطْرةٌ في الإنسان، لا يُسْتَطاع دَفْعها عن القلب، وإنْ جَحَدَ اللسان (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَاۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ).
ولقد اسْتَفتح مَوْسوعة العرب عباس محمود العقاد كتابَه “الفلسفة القرآنية”/ طبعة دار الهلال عام 1947 بقوله:
“الدين لَازمة من لَوازم الجماعات البشرية. ولم يكن الدين كذلك لأنه مصلحة وطنية، أو حاجة نوعية؛ فالدين قد وُجِدَ قبل وجود الأوطان”.
“والإنسان يتجه من الدين إلى غاية لا تنحصر في النوع، بل في تقرير مكانه في هذا الكون؛ فالإنسان يتعلق من النوع بـ(الحياة)، ولكنه يتعلق من الدين بـ(معنى الحياة)”.
“والإنسان يَطلب من الدين الحياة الأبدية؛ لأنه يريد لحياته معنًى لا يَزول، ويريد أن يتصل بحياة الكون كله في أوسع مداه”. انتهى الاقتباس.
وعِلْمَا الاجتماع والأنثروبولوجيا يُقِرَّان بأن الإنسان بطبعه “كائنٌ متدينٌ”؛ أي مُحتاج أنْ يَدِين بعقيدة ما.
2- “شَخْصَنةَ الإله” الذي تَفْتريه الشعوب والقبائل صادر من جَذْرٍ اعتقاديٍّ واحدٍ هو: بقايا ذاكرة إيمانية بِمُوجِدٍ واحد للوجود في زمن ما من الماضي السحيق؛ أي: حَتْمية وحدانية الرسالات السماوية، ما يعني أن الدعوة إلى الحَنِيفية المُسْلمة قد وصلت الأصقاع كافَّة، إلا ما شاء الله، وقَامت على أهلها حُجَّة الإيمان (إِنَّآ أَرْسَلْنَٰكَ بِٱلْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ)، ثم حُرِّفت بعد حينٍ إلى عبادة أشخاص.
3- المَعْبودين من دون الله لعلهم كانوا رُسُلًا وأنبياءَ، أو أتباعَ صالحين ظَاهَروهم؛ ذلك أنك إذا تَقَصَّيتَ سيرة “الزاهد” بوذا في الهند، و”الحكيم” كونفوشيوس في الصين مَثَلًا تَسْتبصر أن ما حُكِيَ عن حياتهما -على عُهْدة المؤرخين- يُطَابِق لا جَرَمَ الرحلةَ الروحيةَ ذاتَها لأشهر الأنبياء قبل تكليفهم بالنبوة وبعدها.
مع فارقِ أنَّ تِلْكما الحضارتين لم تأتِ في تاريخها المُدَوَّن على ذِكْر “أنبياء”، وإنما “حكماء” و”قِدِّيسون” و”زُهاد”، على أنَّ لهذه التوصيفات ما يُسَوِّغها من خصوصية أُممية وثقافية واجتماعية ولُغَوية، غير أنَّ هذا احتمال مَأْنوس قد يَصِح، وقد لا يكون.
فهل كان بعض أولئك “القِدِّيسين” و”الحكماء” في الحقيقة أنبياءَ زُوِّرت هُويتهم الدينية، أو لعله غَلَب على مَنْهج المؤرخين استعمال الاصطلاح الحضاري المألوف في القاموس اللُّغوي لتلكما الحضارتين (إِشْكَال في ضبط وتحرير المصطلح)، أو كلا الأمرين معًا؟!
(اللهُ أعلمُ حيث يجعل رسالتَه).

نيسان ـ نشر في 2025-09-08 الساعة 08:43


رأي: عبد الرحمن نجم كاتب وصحفي اردني

الكلمات الأكثر بحثاً