اتصل بنا
 

تشارلي كيرك وصخب 'الراديكاليتين' اليمينية واليسارية

نيسان ـ نشر في 2025-09-13 الساعة 12:45

نيسان ـ أعاد اغتيال الناشط اليميني المحافظ المشبع بنظرية المؤامرة ـ الأممية ـ على الحضارة الغربية والعائلة النواتية النموذجية لمجتمع الكاونتري – الريف الأمريكي، مقدار جحوده بالقيم الكونية المدائنية لتركة التنوير في متن هذه الحضارة، الصخب الى التراشق ما بين راديكاليتين، واحدة تصنف نفسها محافظة أو يمينية، وأخرى تصنف نفسها يسارية، مع التنبيه الى أن اليمين القصوي يرى اليسار في كل مكان، وبالنسبة لتشارلي كيرك فهو يماثل تماما بين الليبرالية والماركسية والنسوية والإسلام كما لو أنها أذرع أخطبوط شيطاني واحد. كل هذا لا يلغي أن اغتيال شخص بناء على ما يقول هو أمر همجي، من دون أن يجعل ذلك من أقوال سليط اللسان هذا جواهر.
ولد المغدور به كيرك بعد انتهاء حرب باردة عمل فيها اليمين العالمي على العكس تماما: محاربة الاتحاد السوفياتي والماركسية من موقع «التحالف الكبير» الذي يشمل ثلاث أيديولوجيات متساكنة في الغرب، الليبرالية والمحافظة والاشتراكية الديمقراطية، مع أيديولوجيات خارج الغرب، من أبرزها «الإسلام السياسي»، والفرع الجهادي المقاتل منه، لا سيما من بوابة أفغانستان. يومها كان التشديد بالعكس تماما، على أن الملكية الخاصة وحرية التجارة هي ما يجمع الإسلام بالرأسمالية في مواجهة الشيوعية، وعلى أن نبذ الإلحاد هو ما يفترض أن يجمع شمل كل المحافظين لأي ديانة انتموا. ثم انقلبت الحال. لا يلغي هذا أنه بالفعل، وتحت ذريعة تشكيل «يسار شعبوي» ضد «اليمين الشعبوي» – نظرية شنتال موف الاختزالية – جرى تلفيق أشكال مختلفة من المزج بين كليشيهات ماركسية وبين نوبات الهوياتية. فكانت المنازلة بين يسار شعبوي ويمين شعبوي كناية عن مماثلة بين هوياتية من موقع اليمين – مختصة بإقصاء من لا يصلح كي يكون جزءا من «الشعب المفيد» – وهوياتية من موقع اليسار مبنية على «التقاطع» بين قضايا هوياتية لفئات مختلفة غير قادرة على صياغة تصور برنامجي لنمط آخر من الحياة، وشكل آخر للمجتمع.
هذا الظمأ للملموس هو ما يجعل اليمين المتطرف مغريا أكثر للكثيرين، ولو أنه يتزاحم مع اليسار الشعبوي على الهوياتية، ونظرية المؤامرة
كان لليسار المتطرف واليمين المتطرف اعتبار مختلف تماماً زمن الحرب الباردة. وقتها، كان اليسار المتطرف هو كل ما يتشكل ويتشظى على يسار الكتلتين «الاشتراكية الديمقراطية» – الإصلاحوية و«الشيوعية الرسمية» الموالية لموسكو. كل ما يبدي احتقانه وسأمه من مهادنة الأحزاب اليسارية البيروقراطية – الجماهيرية للرأسمالية والإمبريالية، ويرى الى الاتحاد السوفياتي على أنه تجربة منحرفة أو مسخ خرجت عن النص. وكان اليمين المتطرف هو «ما بعد الفاشية»، وما بعد الانتقال من القضايا المتعلقة بتفكيك الإمبراطوريات الاستثمارية إلى تلك المتعلقة بهجرة أبناء المستعمرات المتحررة حديثاً الى حواضر النظام العالمي. وكان بين اليسار المتطرف واليمين المتطرف أرضية للتلاقي أيضا: مصلحة الصنفين في الإفلات من ربقة الوسط. وكان بينهما الكثير من اللاتوازي أيضا: مسعى اليمين المتطرف لأن يصنف كل اليسار على أنه يسار متطرف بل أن يصنف يمين الوسط على أنه منخور باليسار. لكن اليمين المتطرف كان يستميت أيضا لإظهار أنه هو الآخر ناقم على الرأسمالية العالمية، بل محبذ لاشتراكيات وطنية معتدلة ومهمومة بتحاشي الصراع الطبقي بين أبناء الأمة الواحدة كي لا يستبد بها الوافدون الحاسدون. الى حد كبير حافظ اليمين المتطرف على اندراجه ـ ولو على الهامش – في التحالف الكبير ضد الشيوعية. أما اليسار المتطرف فكان جزء أساسي منه يزحل مع الوقت وينساق هو الآخر في هذا التحالف، ضد الاتحاد السوفياتي والأحزاب الشيوعية الرسمية.
كل هذا تبدل اليوم. لم يعد هناك اتحاد سوفياتي كي يتصنف اليسار المتطرف على شماله، أما روسيا البوتينية فيبدو أن كلا من اليسار المتطرف بمقاييس عصرنا، واليمين المتطرف الراهن، يأنسان لها ويتعرفان على شيء من احتقاناتهم ورغباتهم في تسلطها وعنجهيتها. ربما باستثناء اليمين المتطرف الأوكراني. أما الرأسمالية فاليسار المتطرف مواظب على كيل الأهاجي لها والمقاطعة الاستهلاكية لما تيسر من بضاعتها، لكنه واليمين المتطرف يتشاركان في الأخذ بنظرية رد كل سوء الى «النخب». الصراع الطبقي، في مفهومه، يختلف تماما عن نظرية النخب. الصراع الطبقي يكون بين طبقات اجتماعية جماهيرية ولو متناسبة عكسيا من حيث الثروة والعدد، أو لا يكون. ليس هناك صراع طبقي عندما تكون الثنائية هي كاريكاتورية من نوع «99 بالمئة» في مواجهة الـ 1 بالمئة. وليس هناك صراع طبقي يستعاض عنه بالتقاطعية. في الوقت نفسه الصراع بين الطبقات لا ينتظر لا يمين ولا يسار كي يطل برأسه. مثلما أنه لا يختزل جميع أنماط الصراع الأخرى في هذا المجتمع أو ذاك. مثلما أن النزاع الاجتماعي لا مهرب منه في أي مجتمع ولا حكمة للبحث عن تلافيه، بل عن مأسسته. وما تكون الديمقراطية أساسا إن لم تكن مجموعة محاولات وتقاليد وأساليب للموازنة بين الحاجة للصراعات الاجتماعية وبين الحاجة لتشكيل تفاهمات مجتمعية وطيدة ومزمنة قابلة للصيانة والتجديد؟ من لا صبر له على التفكير في هذه الحاجة المزدوجة للصراع والمؤسسات تراه يحتاج إلى الهوياتية. ما يميز هوياتية اليمين القصوي على هوية اليسار الشعبوي و«الراديكالي» بمعايير عالمنا الحالي هو أن الأولى قادرة على تسويق نفسها ضمن إطار من «الملموسية» ولو المخادعة، في حين أن الهوياتية من موقع اليسار تقع في دوامة «التجريد» بحجة أن كل شيء مركب ومصطنع وليس هناك طبائع بل أشكال نركبها ونفرطها. هذا الظمأ للملموس هو ما يجعل اليمين المتطرف مغريا أكثر للكثيرين، ولو أنه يتزاحم مع اليسار الشعبوي على الهوياتية، ونظرية المؤامرة، وحب فلاديمير بوتين.
كاتب من لبنان

نيسان ـ نشر في 2025-09-13 الساعة 12:45


رأي: وسام سعادة

الكلمات الأكثر بحثاً