حكاية ظاهر مع الأحلام والأماني
كامل نصيرات
كاتب صحافي
نيسان ـ نشر في 2025-09-14 الساعة 11:03
نيسان ـ في مقهى عتيق، سقفه المتهالك كأنه صدر شيخٍ أنهكته السنين، جلس ظاهر بين دخان الأرجيلة وضجيج الورق المرمى على الطاولات. كان فنجان قهوته بارداً، لكن عينيه أحرّ من جمرتين، تتأملان المدى الذي لم يأتِ قط. حوله أصوات الباعة، نداءات اليانصيب، صرخات الأطفال، كلها تنسج خلفية صاخبة لحياة صامتة في داخله.
ظاهر يرفع يده كأنّه خطيب على منبر، يحدّث الناس عن تجارة ستفتح أبوابها قريباً، عن قصيدة ستُزيّن الصحف، عن عروس ستضيء بيته. يتكلّم كما لو أنّ الأماني في يده، بينما هي في الحقيقة تفرّ منه كما تفرّ الحمامات من صوتٍ مفاجئ. المقهى يضحك منه، الشباب يصفّقون ساخرين، النادل يبتسم ابتسامة نصفها شفقة ونصفها سخرية.
دفتر صغير يلازمه، أوراقه صفراء كأنها أوراق الخريف. فيه بيتٌ لم يُكتب، وحبّ لم يُعاش، وحلمٌ لم يُجرَّب. يفتحه أحياناً، يبتسم كما يبتسم عاشق لوجهٍ غاب، ثم يغلقه سريعاً وكأنّ الحلم سرّ لا يجوز فضحه.
الأمنيات لا تفارقه؛ تزوره في الليل كالأشباح، وتلاحقه في النهار كظلٍّ عنيد. يسمعها في أغنية قديمة لأم كلثوم، في صرخة بائع الفول، في وقع خطواته فوق البلاط المكسور. كلّما حاول أن يهرب، اشتدّت المطاردة، حتى غدا الهروب نفسه سجناً أوسع من الأحلام ذاتها.
وحين أثقل الشيب رأسه، جلس أمام مرآة صغيرة في غرفته الضيّقة. رأى وجهه وقد تراكمت حوله أحلامه الميّتة كجنائز بلا مشيّعين. شعر كأنّ المرآة لا تعكسه وحده، بل تعكس تاريخاً من الهزائم الصغيرة التي صارت جبلاً على كتفيه. همس لنفسه بوجع: «لقد دفنتُني معهم وأنا حيّ».
لكن بدلاً من أن يدمع أو يئنّ، نهض واقفاً وسط المقهى كأنه ممثل في مسرحية هزلية، رفع يده وصاح بصوتٍ مجلجل:
«الحمد لله! لقد انتصرتُ على أحلامي جميعاً لم أترك لها فرصة لتخذلني!»
وانفجر ضاحكاً ضحكة كاريكاتيرية، صاخبة كمواء قطّ محشور في برميل، طويلة كصفير قطار لا يصل أبداً. ارتجّت الجدران، وتكسّرت المرايا، وصار كلّ ما حوله يصفّق كأنه في عرضٍ مجاني. عندها فهم الناس أنّ حياة ظاهر لم تكن مأساة تُبكي، بل ملهاة تُضحك وأنّه هو وحده بطلها ومهرّجها في الوقت نفسه.
ظاهر يرفع يده كأنّه خطيب على منبر، يحدّث الناس عن تجارة ستفتح أبوابها قريباً، عن قصيدة ستُزيّن الصحف، عن عروس ستضيء بيته. يتكلّم كما لو أنّ الأماني في يده، بينما هي في الحقيقة تفرّ منه كما تفرّ الحمامات من صوتٍ مفاجئ. المقهى يضحك منه، الشباب يصفّقون ساخرين، النادل يبتسم ابتسامة نصفها شفقة ونصفها سخرية.
دفتر صغير يلازمه، أوراقه صفراء كأنها أوراق الخريف. فيه بيتٌ لم يُكتب، وحبّ لم يُعاش، وحلمٌ لم يُجرَّب. يفتحه أحياناً، يبتسم كما يبتسم عاشق لوجهٍ غاب، ثم يغلقه سريعاً وكأنّ الحلم سرّ لا يجوز فضحه.
الأمنيات لا تفارقه؛ تزوره في الليل كالأشباح، وتلاحقه في النهار كظلٍّ عنيد. يسمعها في أغنية قديمة لأم كلثوم، في صرخة بائع الفول، في وقع خطواته فوق البلاط المكسور. كلّما حاول أن يهرب، اشتدّت المطاردة، حتى غدا الهروب نفسه سجناً أوسع من الأحلام ذاتها.
وحين أثقل الشيب رأسه، جلس أمام مرآة صغيرة في غرفته الضيّقة. رأى وجهه وقد تراكمت حوله أحلامه الميّتة كجنائز بلا مشيّعين. شعر كأنّ المرآة لا تعكسه وحده، بل تعكس تاريخاً من الهزائم الصغيرة التي صارت جبلاً على كتفيه. همس لنفسه بوجع: «لقد دفنتُني معهم وأنا حيّ».
لكن بدلاً من أن يدمع أو يئنّ، نهض واقفاً وسط المقهى كأنه ممثل في مسرحية هزلية، رفع يده وصاح بصوتٍ مجلجل:
«الحمد لله! لقد انتصرتُ على أحلامي جميعاً لم أترك لها فرصة لتخذلني!»
وانفجر ضاحكاً ضحكة كاريكاتيرية، صاخبة كمواء قطّ محشور في برميل، طويلة كصفير قطار لا يصل أبداً. ارتجّت الجدران، وتكسّرت المرايا، وصار كلّ ما حوله يصفّق كأنه في عرضٍ مجاني. عندها فهم الناس أنّ حياة ظاهر لم تكن مأساة تُبكي، بل ملهاة تُضحك وأنّه هو وحده بطلها ومهرّجها في الوقت نفسه.
نيسان ـ نشر في 2025-09-14 الساعة 11:03
رأي: كامل نصيرات كاتب صحافي


