اتصل بنا
 

فخ الأمة

كاتب وخبير قانوني

نيسان ـ نشر في 2025-09-16 الساعة 14:13

نيسان ـ من دون تشخيص دقيق، لا يمكن لأي علاج أن ينجح، هذه القاعدة الطبية تنسحب على السياسة الدولية، خصوصا في الشرق الأوسط، حيث اختلطت الأساطير بالشعارات، والتاريخ بالأساطير المروّجة، إن أردنا أن نتحدث بواقعية عن مواجهة المشروع الصهيوني، فعلينا أولا أن نسمّيه باسمه الحقيقي، وأن نضعه في موقعه الصحيح داخل خريطة القوة العالمية.
الحقيقة الأولى التي ينبغي الاعتراف بها هي أن إسرائيل ليست دولة مستقلة كما يُروَّج، بل هي في جوهرها ولاية أمريكية متقدمة، إنها رأس الحربة الاستراتيجية لواشنطن في قلب الشرق الأوسط، والحصن العسكري والسياسي الذي يحمي مصالحها النفطية وممراتها البحرية الحيوية، وإلى جانب ذلك، تمثل إسرائيل رأس حربة أيديولوجيا–دينيا للكنيسة الأنجليكانية–الإنجيلية في الولايات المتحدة، التي ترى في قيامها تجسيدا لعقيدة لاهوتية ونبوءة دينية، هذه الرؤية تلقي بظلالها على صناعة القرار في البيت الأبيض والكونغرس، وبكلمات أوضح: إسرائيل ليست مجرد حليف استراتيجي لواشنطن، بل جزء من بنيتها الداخلية نفسها، ومن ثمّ، فإن أي مواجهة معها من دون إدراك هذه الحقيقة ستظل مواجهة ناقصة، بل عبثية.
الحقيقة الثانية التي يجب الاعتراف بها هي أنّ مفهوم "الأمة العربية" لم يعد قائما في الواقع السياسي، ما تبقى ليس أكثر من دول متجاورة تشترك في اللغة والتاريخ وبعض الرموز الثقافية، لكنها لا تتحرك كوحدة واحدة، ولا تملك مشروعا جامعا، كل دولة ترسم سياساتها وفق حساباتها الخاصة: أمنية هنا، اقتصادية هناك، أو براغماتية مرتبطة بالتحالفات الدولية.
إنّ الإصرار على استدعاء خطاب الأمة لا يصنع وحدة، بل يفرض شللا جماعيا؛ لأنه يربط أي فعل بانتظار "الإجماع العربي"، وهو شرط مستحيل التحقيق، النتيجة: بيانات قمة متشابهة، مواقف لفظية عالية، وسياسات متناقضة على الأرض، الحقيقة الماثلة هي أن "الأمة العربية" تحوّلت إلى شعار، بينما الواقع يحكمه منطق المصالح والتحالفات، لا الأوهام الجامعة.
بل إنني أعتقد أن مفهوم "الأمة" بحد ذاته ليس مجرد وهم، بل فخ سياسي ونفسي، لقد تحوّل هذا المفهوم إلى قيد على القرار أكثر مما كان دافعا للفعل، فهو يُلزمنا دائما بانتظار "الإجماع" الذي لن يحصل، والنتيجة أن الدول "العربية" تبقى عاجزة عن التحرك وفق مصالحها السيادية، خشية أن تُتهم بأنها خرجت عن "الأمة الوهم".
هكذا أصبح خطاب الأمة غطاء يُستخدم لتبرير العجز؛ بيانات جماعية تُخدّر الوعي، لكن على الأرض لا شيء يتغير، إنه فخّ كبير، يُظهرنا وكأننا متحدون، بينما نحن في الحقيقة مشلولون.
ما يسمى الدول العربية هي دول لا يجمعها حقيقة الا ما يشبه اللغة، علما، بأن اللغة الحقيقية السائدة في تلك الدول إما تركية، فارسية أو انجليزية، وربما قريبا صينية.
العالم من حولنا لا يتحرك بخطاب الهويات الكبرى، بل بمنطق المصالح، العالم مليء بدول لا تجمعها لغة، ولا دين، ولا جغرافيا، ولا عرق، ومع ذلك يمكن أن تربطهما شراكات اقتصادية وسياسية وأمنية قائمة على المنفعة المتبادلة، بينما نحن، رغم كل ما ندّعيه من وحدة لغة وتاريخ ودين، نجد العربي في مطار عربي يُعامل أحيانا باحتقار أكبر مما يلقاه الغريب في أرض بعيدة.
الاحترام والتحالف لا يصنعه شعار "الأمة"، بل تصنعه المصالح الملموسة، آن الأوان أن نبني تحالفات دفاعية حيث يجمعنا الخطر، واقتصادية حيث نتقاطع في الموارد، وتقنية حيث يفرض المستقبل نفسه، من دون انتظار إجماع مستحيل، التحالفات الواقعية هي الطريق الوحيد للخروج من الفخ، ولتحويل الشعوب من متفرجين عاجزين إلى فاعلين حقيقيين.
ولذلك، علينا أن نعود إلى حقيقة تاريخية غالبا ما نتجاهلها: أن "الجامعة العربية" نفسها لم تكن ثمرة إرادة الشعوب، بل مشروعا صاغته بريطانيا في أربعينيات القرن الماضي على أقرب الاتفاقات السياسية التي نقرؤها، كان الهدف إدارة النفوذ الاستعماري بوسائل جديدة، لا توحيد العرب فعليا، ومنذ ذلك الحين، تحولت الجامعة إلى إطار بيروقراطي يجدد أوهام "الأمة"، بينما يبقي العرب داخل فلك التبعية الدولية، "الأمة العربية الحالية" لم تُبنَ على أسس قوة ذاتية، بل على تصميم خارجي استُخدم كأداة للسيطرة، ثم صار فخا نُعيد نحن تكراره في كل قمة واجتماع.
الزيارة المرتقبة لسمو أمير قطر الى عمّان ليس عنوانه الامة العربية، بل ما يلوح في الأفق من احتمال تحالف أسست له الشهامة الأردنية التي تمثلت في فزعة الأردنيين للقطريين.
وفيما يتصل بقمة الدوحة؛ لنتخيل معا، لو أن هذه الدول العظيمة التي اجتمعت في الدوحة اليوم، اجتمعت على أساس تحالفات استراتيجية ترى في الكيان الصهيوني مهددا لمصالحها، هل كان خطابها سيكون مماثلا للخطاب اليوم؟؟؟

نيسان ـ نشر في 2025-09-16 الساعة 14:13


رأي: الدكتور عمر كامل السواعدة كاتب وخبير قانوني

الكلمات الأكثر بحثاً