العنف الأبيض حين يتحول المستشفى إلى ساحة غضب
نيسان ـ نشر في 2025-09-29 الساعة 09:49
نيسان ـ في أروقة المستشفيات الأردنية، حيث يُفترض أن يسود الهدوء والطمأنينة، تتكرر مشاهد لم يكن من المفترض أن تكون جزءًا من بيئة العمل الطبي: اعتداء لفظي هنا، تهديد هناك، وأحيانًا تجاوزات جسدية تطال أطباء وممرضين أثناء تأديتهم واجبهم الإنساني. هذه الحوادث التي كانت تُعد استثناءً، باتت اليوم ظاهرة تؤرق القطاع الصحي وتؤثر في معنويات كوادره، وتفرض تساؤلات جدية حول بيئة العمل والحماية القانونية ودور الإدارة في احتواء الأزمة.
ورغم غياب إحصاءات رسمية دقيقة، تشير تقديرات غير رسمية وتقارير نقابية إلى أن عشرات حالات الاعتداء اللفظي والجسدي على الكوادر الطبية تسجل سنويًا في المستشفيات الحكومية والخاصة، وغالبًا ما تكون دوافعها سوء الفهم، أو الغضب الناتج عن تأخر الخدمة، أو ضعف التواصل بين المريض والطبيب. لكن خلف هذه الأرقام تكمن مشكلة أعمق تتعلق بثقافة مجتمعية لا تزال تنظر إلى الكادر الطبي كـ"مقدّم خدمة" أكثر من كونه شريكًا في عملية علاجية معقدة، وبيئة إدارية وقانونية لم ترتقِ بعد إلى مستوى الردع والحماية المطلوبين.
وتُظهر التجارب الدولية أن العنف ضد العاملين في القطاع الصحي لا يرتبط فقط بضعف القوانين أو غياب الأمن، بل أيضًا بضعف مهارات التواصل داخل المؤسسة الطبية ومع المرضى وذويهم. ففي كثير من الحالات، يبدأ الخلاف بسوء تفسير لكلمة أو جملة، أو بسلوك غير مقصود يُفهم على أنه تجاهل أو استعلاء. وهنا تبرز الحاجة الملحة إلى إدراج برامج تدريبية إلزامية في مهارات التواصل والذكاء العاطفي للعاملين في القطاع الصحي، بدءًا من الأطباء وحتى موظفي الاستقبال. هذه البرامج لا تعزز فقط من جودة العلاقة مع المريض، بل تخلق أيضًا بيئة عمل أكثر انسجامًا بين أفراد الفريق الطبي أنفسهم، ما ينعكس إيجابًا على الخدمة ويقلل من فرص التصعيد.
وفي السنوات الأخيرة، شهد الأردن تعديلات قانونية مهمة، من أبرزها تصنيف الاعتداء على الكوادر الطبية كجريمة يعاقب عليها القانون بالسجن والغرامة، وهي خطوة شكلت نقلة نوعية في مسار الحماية. لكن القانون وحده لا يكفي إذا لم تُستكمل هذه الجهود بإجراءات تنفيذية واضحة وحازمة. فلا يكفي أن يُسن القانون، بل يجب أن يُطبّق بسرعة وعدالة، وأن يُعلن عنه بوضوح للرأي العام حتى يدرك الجميع أن المساس بالعاملين في القطاع الصحي هو مساس بالأمن الصحي الوطني.
وفي الوقت الذي تُعد فيه القوانين أداة ردع أساسية، تبقى الإدارة والسياسات الصحية هي المظلّة الأوسع لأي إصلاح حقيقي. فالإدارة الفاعلة هي التي تعالج جذور المشكلة، لا أعراضها فقط. ويتطلب ذلك تبني خطط شاملة للوقاية من العنف، تشمل تصميم بيئات عمل أكثر أمانًا من خلال الكاميرات والمداخل المراقبة وغرف الطوارئ المجهزة، وإنشاء وحدات خاصة للتعامل مع الشكاوى مبكرًا قبل أن تتطور إلى اعتداءات، وتعزيز التواصل المؤسسي مع المجتمع من خلال حملات توعية تسلط الضوء على حقوق وواجبات كل طرف. وعلى المستوى الوطني، يجب أن تتجاوز السياسات الصحية الاستجابة الآنية للحوادث نحو بناء منظومة متكاملة تجعل من حماية الكادر الطبي أولوية وطنية لا مجرد رد فعل لحادثة عابرة.
العنف ضد الأطباء والممرضين ليس مجرد قضية مهنية تخص العاملين في القطاع الصحي، بل قضية أمن مجتمعي واقتصادي تمسّ كل مواطن. فحين يشعر الطبيب بعدم الأمان، تتراجع جودة الخدمة، وتزداد أخطاء التشخيص، ويهجر الكفاءات الميدان بحثًا عن بيئة عمل أكثر أمانًا. المطلوب اليوم رؤية شاملة تبدأ بتشريعات رادعة وتستمر ببناء ثقافة احترام متبادل، وتكتمل بإدارة رشيدة وسياسات صحية تضع الكادر الطبي في صميم الأمن الوطني. فالمعادلة واضحة: حماية الطبيب والممرض تعني حماية حياة المريض، وحماية المريض تعني حماية المجتمع بأسره.
ورغم غياب إحصاءات رسمية دقيقة، تشير تقديرات غير رسمية وتقارير نقابية إلى أن عشرات حالات الاعتداء اللفظي والجسدي على الكوادر الطبية تسجل سنويًا في المستشفيات الحكومية والخاصة، وغالبًا ما تكون دوافعها سوء الفهم، أو الغضب الناتج عن تأخر الخدمة، أو ضعف التواصل بين المريض والطبيب. لكن خلف هذه الأرقام تكمن مشكلة أعمق تتعلق بثقافة مجتمعية لا تزال تنظر إلى الكادر الطبي كـ"مقدّم خدمة" أكثر من كونه شريكًا في عملية علاجية معقدة، وبيئة إدارية وقانونية لم ترتقِ بعد إلى مستوى الردع والحماية المطلوبين.
وتُظهر التجارب الدولية أن العنف ضد العاملين في القطاع الصحي لا يرتبط فقط بضعف القوانين أو غياب الأمن، بل أيضًا بضعف مهارات التواصل داخل المؤسسة الطبية ومع المرضى وذويهم. ففي كثير من الحالات، يبدأ الخلاف بسوء تفسير لكلمة أو جملة، أو بسلوك غير مقصود يُفهم على أنه تجاهل أو استعلاء. وهنا تبرز الحاجة الملحة إلى إدراج برامج تدريبية إلزامية في مهارات التواصل والذكاء العاطفي للعاملين في القطاع الصحي، بدءًا من الأطباء وحتى موظفي الاستقبال. هذه البرامج لا تعزز فقط من جودة العلاقة مع المريض، بل تخلق أيضًا بيئة عمل أكثر انسجامًا بين أفراد الفريق الطبي أنفسهم، ما ينعكس إيجابًا على الخدمة ويقلل من فرص التصعيد.
وفي السنوات الأخيرة، شهد الأردن تعديلات قانونية مهمة، من أبرزها تصنيف الاعتداء على الكوادر الطبية كجريمة يعاقب عليها القانون بالسجن والغرامة، وهي خطوة شكلت نقلة نوعية في مسار الحماية. لكن القانون وحده لا يكفي إذا لم تُستكمل هذه الجهود بإجراءات تنفيذية واضحة وحازمة. فلا يكفي أن يُسن القانون، بل يجب أن يُطبّق بسرعة وعدالة، وأن يُعلن عنه بوضوح للرأي العام حتى يدرك الجميع أن المساس بالعاملين في القطاع الصحي هو مساس بالأمن الصحي الوطني.
وفي الوقت الذي تُعد فيه القوانين أداة ردع أساسية، تبقى الإدارة والسياسات الصحية هي المظلّة الأوسع لأي إصلاح حقيقي. فالإدارة الفاعلة هي التي تعالج جذور المشكلة، لا أعراضها فقط. ويتطلب ذلك تبني خطط شاملة للوقاية من العنف، تشمل تصميم بيئات عمل أكثر أمانًا من خلال الكاميرات والمداخل المراقبة وغرف الطوارئ المجهزة، وإنشاء وحدات خاصة للتعامل مع الشكاوى مبكرًا قبل أن تتطور إلى اعتداءات، وتعزيز التواصل المؤسسي مع المجتمع من خلال حملات توعية تسلط الضوء على حقوق وواجبات كل طرف. وعلى المستوى الوطني، يجب أن تتجاوز السياسات الصحية الاستجابة الآنية للحوادث نحو بناء منظومة متكاملة تجعل من حماية الكادر الطبي أولوية وطنية لا مجرد رد فعل لحادثة عابرة.
العنف ضد الأطباء والممرضين ليس مجرد قضية مهنية تخص العاملين في القطاع الصحي، بل قضية أمن مجتمعي واقتصادي تمسّ كل مواطن. فحين يشعر الطبيب بعدم الأمان، تتراجع جودة الخدمة، وتزداد أخطاء التشخيص، ويهجر الكفاءات الميدان بحثًا عن بيئة عمل أكثر أمانًا. المطلوب اليوم رؤية شاملة تبدأ بتشريعات رادعة وتستمر ببناء ثقافة احترام متبادل، وتكتمل بإدارة رشيدة وسياسات صحية تضع الكادر الطبي في صميم الأمن الوطني. فالمعادلة واضحة: حماية الطبيب والممرض تعني حماية حياة المريض، وحماية المريض تعني حماية المجتمع بأسره.
نيسان ـ نشر في 2025-09-29 الساعة 09:49
رأي: د. معن نصر العليان


